منذ أن بدأ الإنسان في بناء المدن وترويض الطبيعة، لم يكن يغير الأرض وحدها، بل كان يعيد تشكيل الحياة التي تعيش عليها أيضا. فكل شارع معبد، وكل نفق محفور تحت الأرض، وكل حقل زرع بيد بشرية، ترك بصمته على الكائنات من حولنا. ومع مرور الزمن، ظهرت أنواع جديدة لم تكن موجودة من قبل، كأنها وجدت لتعيش معنا وتتكيف مع عاداتنا. ومن بين هذه الأنواع، ظهرت واحدة غامضة أثارت خيال العلماء والجمهور على السواء: بعوضة مترو لندن.
ورغم أن هذه البعوضة تشبه في شكلها العادي بعوضة المنازل المنتشرة في أوروبا، فإنها تختلف عنها في كل شيء تقريبا، سواء في السلوك، أو في طريقة التزاوج، أو في قدرتها على البقاء في البيئات المغلقة والمعتمة تحت الأرض. لذلك كانت الحكاية مغرية للعلماء الى درجة أن بعضهم ظن أن هذه الحشرة ولدت من رحم المدينة الحديثة نفسها، وأنها تطورت خلال القرنين الماضيين فقط داخل أنفاق مترو لندن، وكأنها نتاج مباشر للحضارة الصناعية.
لكن الدراسة الجديدة المنشورة في دورية "ساينس" المرموقة، قلبت القصة رأسا على عقب، فبعوضة المترو ليست ابنة لندن، بل ربما تكون ابنة وادي النيل القديم.
بدأت الحكاية حين قرر العلماء فحص فرضية استقرت في أذهان كثيرين، مفادها أن بعوضة مترو لندن تطورت محليا في أوروبا خلال القرنين الماضيين، تزامنا مع نشوء المدن الحديثة وشبكات الأنفاق. كانت القصة أن هذه الحشرة وجدت في مترو لندن بيئة مغلقة دافئة على مدار السنة، مليئة بالبشر، فتكيفت بسرعة مذهلة حتى أصبحت سلالة جديدة قادرة على التزاوج في الظلام ولدغ الإنسان دون تردد. الى درجة أن بعض الكتب المدرسية استخدمها كمثال على السرعة التي يمكن أن يحدث بها "التطور الحضري"، أي تكيف الكائنات مع المدن في زمن قصير للغاية.
لكن فريقا من الباحثين لم يقتنع بتلك الرواية المريحة. فالتطور، كما يعرف العلماء، لا يقاس بالقصص، بل بالأدلة الجينية. لذلك جمع الباحثون أكبر مجموعة من عينات البعوض شملت نحو 357 عينة حديثة من أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا، و22 عينة تاريخية محفوظة في المتاحف البريطانية تعود إلى منتصف القرن العشرين، ثم استخدموا أحدث تقنيات تحليل الجينوم لتتبع أصول هذا البعوض، وكيف اختلفت المجموعات عبر الزمن والمكان، باحثين عن الإجابة في الشيفرة الوراثية نفسها.


