العرب المسيحيون في أزمنة الصراع

العرب المسيحيون في أزمنة الصراع

استمع إلى المقال دقيقة

لئن اتفقنا، عرب بلاد الشام، على أن العرب المسيحيين هم مِلح البلاد وزادها وجذرها الأصيل، فإن ذلك اتفاق لا يحقق كشفا جديدا بالنسبة لأهل الشام، ولا حتى بقية البلاد العربية الأخرى الثرية بجذورها المسيحية. ولكن للأسف هذه الجذور باتت اليوم أقلية، وذلك ليس وصفا أقلويا بالنسبة للكثرة، بل من حيث إن ذلك أصل قل عدده، لأسباب عديدة، أهمها الهجرات بفعل الحروب التي شهدتها المنطقة، وما ترتب على ذلك من انحسار للأدوار الوطنية، وهو انحسار لم ينبع من تقصير بالجهد والدور، بل نتيجة لترجع آفاق وقيم الحرية والتعددية في البلدان العربية التي شهدت أزمات بنيوية في العقدين الأخيرين.

ولربما يعد ما واجهته المسيحية العربية في غزة الراهنة من أخطر وآخر محطات الصراع والحروب التي واجهتها، ولم يلتفت الكثيرون ممن أشبعونا حديثا عن حرب غزة، عن مصير أهلها من المسيحيين، وعن مصائرهم، وحتى عن رؤيتهم للحرب، وعن مرحلة ما بعد الحرب التي يدخلها القطاع الآن، جزءا أصيلا في المكان. لكن، بما أن السؤال عن رؤية للمسيحيين في الحروب مع إسرائيل، ينبغي التوكيد على أنه سؤال لا يفصلهم عن محيطهم الإسلامي والمواجهة المشتركة مع الاحتلال الإسرائيلي. بيد أنه من المهم إذا ما سألنا عن التفكير الإسلامي بالعلاقة مع الاحتلال، بأن نسأل من ناحية دينية مسيحية كيف يتم تداول موضوعات الحرب والسلام مع الاحتلال.

في كلمة بعنوان: "العرب المسيحيون وقضايا الأمة"، ألقاها في مؤتمر العرب المسيحيين، الذي نظم في الأردن مؤخرا، قررَ الأب الدكتور متري الراهب بأن المقاومة حق وواجب على المسيحي، لكنها مقاومة "بالطرق الإنسانية المبدعة التي تخاطب العالم، ومن أشكالها الإضرابات والمقاطعة ورحيل الاستثمار". وهذا اقتباس من وثيقة حمل اسمها "وقفة حق 2009" عبر القائمون عليها عنها بأنها "كلمة الفلسطينيين المسيحيين للعالم حول ما يجري في فلسطين". وبهذه الروح طالبت الوثيقة المجتمع الدولي بوقفة حق تجاه ما يواجهه الشعب الفلسطيني من ظلم وتشريد ومعاناة وتمييز عنصري واضح منذ أكثر من ستة عقود. وهي معاناة مستمرة تمر تحت سمع وبصر المجتمع الدولي الصامت والخجول في نقده لدولة الاحتلال. ودعت الوثيقة إلى المحبة والعيش المشترك، ومقاومة الظلم الإسرائيلي الواقع على الشعب الفلسطيني، ووجهت دعوة لليهود للعيش معا، بعد إزالة الاحتلال ووقف القتل، وخلصت إلى أن الدولة الدينية أيا كانت صفتها تخنق الناس. ولذا، دعت لدولة تحترم الأديان والتعددية وحقوق الإنسان.

لم تكن وثيقة "وقفة حق 2009" الوحيدة التي طرحت رؤية بعض النخب والقيادات الدينية المسيحية الفلسطينية لرؤية الصراع مع إسرائيل، بل صدر لاحقا عام 2014 وثيقة أخرى بعنوان "من النيل إلى الفرات" والتي أطلقت في بيروت في جامعة "دار الكلمة" 2014 وفسر الأب متري الراهب، معنى الوثيقة بأنها كانت تسعى لرؤية مشتركة، وأن فلسطين لا يُمكن أن تُحلق دون جناحي النيل والفرات، وقد طرحت الوثيقة محاور عدة تتعلق بالبعد العلمي المستند للدراسات والأبحاث. ثم في نفس العام أُطلق الملتقى الأكاديمي المسيحي للمواطنة في العالم العربي، وكان ذلك في جامعة "دار الكلمة"، وبهدف جمع العلماء والخريجين الشباب والناشطين لمناقشة قضايا المواطنة والتعددية في العالم العربي. وكل ذلك في سبيل تطوير تصور فاعل من قبل المسيحيين الفلسطينيين لحل الصراع، الذي وصفه الراهب بأنه لم يُحل لا بالكفاح المسلح ولا بمسار أوسلو، وكلا الطريقين لم يُعطِ الفلسطينيين حق الدولة.

إن الطروحات العربية المسيحية للصراع مع اليهود مُهمة، وما طرحه مؤتمر العرب المسيحيين في كل محاوره يستحق التوقف عنده؛ لأنه عالج قضاياهم وناقش أدوارهم الحضارية المبكرة قبل الإسلام ومعه، وخلال عهوده، مع التركيز على دورهم في حقبة النهضة العربية، وفي الوضع الراهن والمشاركة المسيحية في الأبعاد الوطنية وبناء الدولة المعاصرة، ومواجهة مشاكلها الراهنة.

الطروحات العربية المسيحية للصراع مع اليهود مُهمة، وما طرحه مؤتمر العرب المسيحيين في كل محاوره يستحق التوقف عنده؛ لأنه عالج قضاياهم وناقش أدوارهم الحضارية المبكرة

هذا النقاش الذي دار في عمان، في بلد يوجد فيه مسيحيون من أصول فلسطينية بنسبة جيدة، وفاعلة في المشهد الوطني الأردني، يُحسب للدولة وللجهات المنظمة، لأنه حديث معرفة وعِلم، جاء في لحظة معاصرة نحتاج فيها للإبقاء والحفاظ، وتعزيز الوجود العربي المسيحي في أوطاننا، كرافعة وطنية نهضوية، وكمعزز لقيم العيش والمواطنة، ومن أجل المستقبل الأفضل، فلا حل لقضايا الأوطان من خلال طرف واحد ورؤية واحدة.
ولعل الحديث عن الأدوار الفاعلة التي نهض بها العرب المسيحيون يكتسب وجوبيتَه؛ جراء فداحة الآثار التي تركتها الصراعات مؤخرا في الشرق الأوسط، والتي كان من نتائجها تنامي الهجرة عند الشباب المسيحي، والذي بحث طويلا عن أجوبة لأسئلة كبيرة تتعلق بالأدوار والمصائر التي عاشها وأسهم بها المسيحيون في مسارات تاريخ الدولة الوطنية. وللأسف باتت الهجرة عنوانا لهذا الجيل الشاب، من كل الأديان والملل والجماعات، وهي رغبة ناتجة عن إخفاق كبير في بناء الدولة، وفي ضمان الاستقرار الذي يقود للمواطنة، وفي تعاظم تحديات الاقتصاد والبطالة والفقر، وارتفاع منسوب التشدد.
قد يكون البعد المعرفي هو الأهم والغالب في هذا المؤتمر، لكن تنظيمه بمشاركة عربية مسيحية متنوعة المشارب والجهات من مصريين وسوريين ولبنانيين وفلسطينيين وأردنيين وروس، هو أمر يستحق الانتباه؛ لأن الفعل الذي نهضت به جمعية الثقافة والتعليم الأرثوذكسية في الأردن، لم يقف عند تابوهات ومحاذير محددة سلفا، بل طرح القضايا الشائكة بكل جرأة، وفي إطار وطني عروبي سليم، وبالانتصار لقيم المواطنة في الدولة، وهو ما يدفع لتشجيعهم لتكرار التجربة العام المقبل. 

font change