مقابل الذكرى الأولى للتحرير، وإسقاط الأسد، ومغادرة الاستبداد، واستعادة الحرية للشعب السوري، اعتلى الرئيس السوري أحمد الشرع منبر الجامع الأموي، لا ليعد الناس بمشاريع كبرى أو بفتوحات وجهاد في بلاد أخرى، بل جدد العهد من باب استعادة الكرامة للسوريين، بسوريا التي تليق بأهلها، ولأجل تحقيق العدل وعمارة الأرض.
ولم يكن اختيار منبر الجامع الأموي صدفة، أو بديلاً عن أي مكان، فلا شيء عند الرئيس الشرع متروك للصدف أو اختيارات اللحظة الأخيرة، ولا يوجد للمكان ما يوازيه عظمة وأبهة في سوريا، وفي القيمة التاريخية والرسائل التي أطلقها الشرع لغة ولباساً وبياناً وتاريخاً، حيث إن برقيات التاريخ الحاضر هي التي أرسلها قائلها من المكان برمزيته الكبيرة، للتاريخ العظيم في زمن دولة الأمة، ليقول إن هذا مسجد بني أمية الذي رعاه مؤسسو الدولة العربية، وفي ذلك رسالة عابرة وتوكيد على تحرير الأرض والبلاد من الهيمنة الإيرانية.
ثم إن الرئيس الشرع قال وخاطب عموم الناس بعبارة "يا أهل الشام"، مذكراً بعام الجماعة 40 للهجرة حين التمت الأمة وأجمعت على خليفة واحد، بعد فتنة ودماء وفرقة، وما من فكرة سَمَت وارتقت عند فقهاء الشام تاريخيا أكثر من مسألة الجماعة ووحدتها ونبذ الفرقة، على أي فكرة أخرى، أو بالأحرى إنّ أجندة فقهاء الشام كانت في قمة أولوياتها وحدةُ الصف والكلمة.
العام الأول بعد سقوط الأسد، مرّ والأصوات قادرة على الكلام، واللاجئون عادوا إلى وطنهم، والعالم منح الشرع وسوريا تذكرة عبور مفتوحة لزمن جديد خالٍ من الاستبداد والظلم والقتل
يروي أستاذنا رضوان السيد في دراسته الصادرة عام 1985 في مجلة "دراسات"، مجلد 12/الجامعة الأردنية، ما نقله الذهبي عن الإمام الأوزاعي (ت:157هـ/663م) ما نصه: "خمسة كان عليها الصحابة والتابعون: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله"، وهي مبادئ أساسية تمثل جوهر منهجهم في الدين والعبادة والحياة، ويؤكد عليها علماء السلف.
ولزوم الجماعة يعني الثبات على جماعة المسلمين وعدم مفارقتها، والالتزام بما اجتمعوا عليه من الحق والهدى، وترك البدع والخلافات التي تفرق الكلمة. والجماعة برأي رضوان السيد هي الفكرة التي ناضل الشاميون في ظلها منذ أيام الخليفة عثمان بن عفان في وجه الخطرين الخارجي والداخلي. وما أشبه حاضر الشام قبل عام واليوم، بما هددها من مخاطر وتحديات بماضيها القديم، لكن أهل الشام، أثبتوا قدرة خارقة في مغادرة عبء التاريخ الثقيل، بالثبات على المبادئ الكبرى والخروج من الفتن إلى البناء والاستقرار.
لقد اعتاد المؤرخون أن يغلقوا حديثهم عن الأعوام الجسيمة في تواريخهم الحولية بجملة مفادها: "وخرجت هذه السنة على خير"، وهي في الحالة السورية الراهنة كذلك، فالعام الأول بعد سقوط الأسد، مرّ والأصوات قادرة على الكلام، واللاجئون عادوا إلى وطنهم، والعالم منح الشرع وسوريا تذكرة عبور مفتوحة لزمن جديد خالٍ من الاستبداد والظلم والقتل.
ولو أن مؤرخاً مثل ابن كنان الصالحي في يومياته عن القرن الثامن عشر، كتب مفتتحاً للعام الجديد، لقال: "وفي رأس السنة كان كافل دمشق أحمد الشرع ومفتي الديار الشامية أسامة الرفاعي، ووزير عدلها مظهر الويس"، الذي هو في مقام قاضي القضاة، حيث لا يوجد اليوم في سوريا منصب قاضي القضاة بل مجلس للقضاء الأعلى.
في سوريا اليوم عدالة يحاول الرئيس الشرع التـأسيس لها بشكل هادئ، وفي ذهنه ملفات الداخل المعقدة والخارج الدقيقة التي ترتبط بالداخل بشكل مباشر، وأهمها الحد من الصلف الإسرائيلي
وفي سوريا اليوم عدالة يحاول الرئيس الشرع التـأسيس لها بشكل هادئ، وفي ذهنه ملفات الداخل المعقدة والخارج الدقيقة التي ترتبط بالداخل بشكل مباشر، وأهمها الحد من الصلف الإسرائيلي بمهاجمة الأرضي السورية والتوغل بها، وهذا أمر في غاية الأهمية.
والسؤال: هل على الشرع اليوم أن يحارب، أو يفتح جروح الماضي؟ بالتـأكيد لا، فلو أراد ذلك، وكما عبر في خطبة سابقة له، بأنهم أهل للحرب إن دقت طبولها، لكن الرئيس الذي كان مسؤولاً سابقاً عن جماعة في إدلب، أو أباً لأسرة صغيرة، بات اليوم مسؤولاً عن بلد فيه ملايين البشر المكلومين، وملايين المهاجرين الذين يتضوعون شوقاً للعودة لبلادهم، ولا يريد فتح قبور جديدة حتى لمخالفيه.
بالعودة لخطبة السيد الرئيس أحمد الشرع من على منبر بني أمية وقوله: "أيها السوريون أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فوالله لن يقف في وجهنا أي أحد مهما كبر أو عظم ولن تقف في وجهنا العقبات وسنواجه جميعاً كل التحديات بإذن الله". فهذه عودة تراثية لخطاب إسلامي في مفهوم الحكم، وهي ليست نزعة ماضوية بل فيها رسائل كثيرة لا تحصر هنا.
روى المحدث الدرامي عبدالله بن عبد الرحمن السمرقندي (255هـ-868م) في سننه، عن المحدث صفوان بن رستم، عن عبد الرحمن بن ميسرة الشامي، عن تميم الداري، قال: تطاول الناس في البناء في زمن عمر. فقال عمر: يا معشر العُريب الأرض الأرض، إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة".
وقيل إن أبا جعفر المنصور خطب في الناس قائلا: "أيُّها الناسُ، لا تَخْرُجُوا مِن أُنْسِ الطَّاعَةِ إلى وَحْشَةِ المَعْصِيَةِ... إِنَّا لن نَبْخَسَكم حقوقَكم، ولن نَبْخَسَ الدِّينَ حَقَّه عليكم".
فالطاعة أساسية، والعدل جوهر العبور للحكم الجديد في سوريا، ولا ظلم من أحد مهما كبر، فقوس التاريخ يتجه نحو العدالة دوماً.
تلك واحدة من سمات خطاب النسخة الجديدة في سوريا، وهو خطاب موجه للداخل والخارج، وتجديد عهد للناس بالأمان من قبل الرئيس الشرع بكل رمزيات الخطاب ومعانيه المشتقة من حاضر لا بد من تبديد الخوف منه.