باتت الإغلاقات الأميركية في قطاع النقل بشكل أساسي، هي الأطول والأخطر منذ إضرابات العامين 2018 و2019، وهي اليوم في 2025 تهدد بمزيد من المخاوف، خاصة في مجال النقل الجوي، وهي معضلة كبيرة، لها الكثير من التداعيات، ومرتبطة بحركة المجتمع. وتزداد أثراً مع التهديد بوقف الإعانات الغذائية، التي تؤثر على نحو 42 مليون أميركي، مع استمرار الاتهامات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، في استخدام الجوع في مسألة الإغلاق، حيث
إن لكل دولار أميركي بالإنفاق أثره في الاقتصاد الكلي للولايات المتحدة.
وهنا، فإن المشكلة اليوم ليست بصراع الحزبين، أو بربط مثل هذه الأزمات بحكم ترمب سواء في الولاية الأولى حيث استمر الإغلاق خمسة أسابيع، وهو اليوم يتجاوز يومه الحادي والأربعين في ولايته الثانية. فقد بدأ الإغلاق في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مسجلا سابقة تاريخية من نوعها عن الإضراب المسجل عام 2019، إذ بدأت المشكلة حين لم يفلح الحزبان المتنافسان، في الوصول لاتفاق فيما يخصّ خطة الإنفاق المؤقتة للحفاظ على التمويل الحكومي.
في سوابق التاريخ الأميركي الكثير من الإضرابات لقطاعات مختلفة، وأبرزها في قطاع عمال المناجم وقطاع النقل (الموانئ والسكك الحديدية وفي الطيران)، إذ مبكراً حدثت في عام 1886، مع عمال السكك الحديدية واستمر إضرابهم سبعة أشهر، بين مارس/آذار وسبتمبر/أيلول. ولاحقاً حصلت إضرابات ضخمة في تاريخ العمل الأميركي. فمثلما تؤرخ الأعاصير القاسية، يحفل التاريخ الأميركي بأسماء الإضرابات العمالية مثل إضراب بولمان عام 1894 بين شهر مايو/أيار ويوليو/تموز الذي قام به عمال السكك الحديدية، ثم الإضراب الكبير لعمال الفحم عام 1902 بين شهري مايو وأكتوبر ولاحقاً إضراب عمال الصُلب الذي استمر من سبتمبر 1919 وحتّى يناير/كانون الثاني 1920، وما تلاها لاحقاً من إضرابات طويلة استمرت حتى اليوم.
قد لا تكون الإضرابات غريبة في المجتمعات الديمقراطية، لكنها في الغرب منضبطة بالقانون، بيد أن هذا الانضباط لا يحول دون آثارها الوخيمة على الاقتصاد والمجتمع وسياسات الدول. والمشكلة اليوم في مجتمع الولايات المتحدة أن الإنسان يواجه بالسلطة، وبذات الوقت مطلوب من الدولة حماية الحرية، وهذه الحماية لا تتحدد من خلال الحفاظ على النسيج الداخلي، بقدر ما تتبدى في النجاح بتحديد استخدام الشرعية في كل المواقف الاجتماعية والسياسية.
وقد ظهر من خلال الخسائر الكبيرة التي لحقت بالولايات المتحدة جراء الإغلاق المستمر وبشكل فريد، البقاء على عمل القانون، في ظل تنامي المسافة بين أقطاب الصراع الداخلي الأميركي، وبالتالي أهمية البحث عن كفاية المجتمع السياسي الأميركي، التي تعكسها العلاقات القائمة بين النظم السياسية، والقوى الاجتماعية المكونة للمجتمع السياسي. وبلا شكٍّ فإن واشنطن تعيش أزمة حادة اليوم، خاصة في ظل أن الجيش لن يتسلم رواتبه إلا بعد انتهاء الإغلاق الحكومي مع أنه مطلوب منه العمل.
قد لا تكون الإضرابات غريبة في المجتمعات الديمقراطية، لكنها في الغرب منضبطة بالقانون، بيد أن هذا الانضباط لا يحول دون آثارها الوخيمة على الاقتصاد والمجتمع وسياسات الدول
صحيح أن الرئيس ترمب، يحاول إطفاء الكثير من الحروب والأزمات خارج الولايات المتحدة، لكنه اليوم أمام حرب داخلية، مع سياساته القاضية لخفض حجم الحكومة الوطنية، وقد قدر مكتب الموازنة في الكونغرس قبل الإغلاق أن نحو 700 ألف مواطن قد يتم إيقافهم عن العمل يوميا بتكلفة تقارب 400 مليون دولار، لكن يظل تحرك قطاع النقل والموقف العام من سياسات الرئيس ترمب ضمن ثنائيتي الدولة والقانون. الدولة بركن السلطة السياسية التي لا يصبح المجتمع منتظماً إلا بتوفره فيها، بوصفه الشرط الثالث لقيام أي نظام سياسي، والقانون الذي ينظم عمل هذا الركن الأساسي والمهم، والذي يسمح للسلطة التصرف بحدوده.
وما يقرره القانون للسياسي، هو شرط لعقلنة الممارسة السياسية التي تمارسها الصفوة، ومع أنه يصح القول بأن ما يجري اليوم في الولايات المتحدة صراع بين الصفوة الغالبة بقيادة ترمب، إلا أن هناك أيضا صفوة مغلوبة من الديمقراطيين يرون أن بإمكانهم في ظل حركة الإغلاق الحكومي ممارسة تقويض السلطة الممنوحة لترمب جراء مغالبته للمجتمع السياسي الديمقراطي الذي كان بادياً بشكل جلي منذ بداية عهده الثاني، الذي أمطر فيه سَلفه جو بايدن وجماعته السياسية من صفوة الديمقراطيين بالنقد والتهجم والتهكم في كل مناسبة وخطاب.
إنها ديمقراطية لحظة "الاستعادة لأميركا العظمى" كما هو شعار ترمب الذي يمثل الطبقة السياسية الحاكمة اليوم. وهذا يعيدنا لما قاله المفكر الإيطالي روبرت مايكلز (1876- 1936) الذي أسهم في نظرية النخبة من خلال وصف السلوك السياسي للنخبة السياسية، وكان صديقاً لماكس فيبر مهندس القوة الممنوحة للدولة، حيث انتقد مايكلز الحتمية التاريخية لكارل ماركس، وقال إن جميع التنظيمات الاجتماعية وعلى رأسها الأحزاب السياسية التي تفرز الصفوة الحاكمة، إنما يحكمها قانون الأوليغارشية الحديدي.
صحيح أن مايكلز كان معنياً بالأحزاب الاشتراكية في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، لكنه كان يرى أن تلك الأحزاب كان قادتها يرون أنهم مجرد أدوات فقط لجماهيرها. واليوم نجد الأحزاب في الولايات المتحدة تسير في ذلك الاتجاه، خدمة الجمهور، في ظل تنامي صراع الغلبات الذي يواجه في المجتمع السلطة السياسية، برغم تعاظم الخسائر الفادحة في الاقتصاد.