لملَمَ الملك عبد الله الثاني، في خطاب العرش الذي قدّمه في افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة الأردني يوم الأحد 26 أكتوبر/تشرين الأول، كل المفردات الواضحة والتوكيدات الصارمة، التي أوضح من خلالها أبرز المواقف والمحطات التي مرّ بها الأردن مؤخرا، وكانت ذات صلة بتاريخه المديد، وبأزمات الإقليم.
يقولون: "الخطاب هو الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيئ لفهمه"، وهذا أبسط تعريفاته، وهو نظام معقد من الإشارات والدلالات والصور والألفاظ، ولمّا كانت السياسة أداة، فإن الخطاب المشار إليه كان أداتها التي أوجبتها اللحظة البرلمانية الأردنية، لإيضاح مسار الدولة في أهم منعطفاتها الراهنة المحليّة والإقليميّة. ومع أنها ملفات تثقل النهار السياسي الأردني، ومع أن النقاش السياسي العام في الأردن مفتوح، إلا أن المؤكد وطنيا في السجال الأردني، كان لا بد له من بيان جليٍّ، وإضافات توكيدية من لدُن الملك، بأن الدولة قوية بأبنائها وجيشها ومواردها البشرية، في بلد وصفه الخطاب بأنه ولد في قلب الأزمات ورافقها، وتعاملت معها الأجيال الأردنية التي أثبتت وقوفها في وجه المصاعب، فنما الأردن بفضل إيمان الأردنيين بربهم ووطنهم، فعبروا كلّ موجعات المنطقة.
جاء الخطاب مباشرا وبدأه الملك بسؤال، أعرف أنكم تتساءلون كيف يشعر الملك؟ وهل يقلق الملك؟". وأجاب: "نعم، لكنه لا يخاف إلا الله"، وفي ذلك تفسير لما مرّ به الإقليم من أحداث صعبة خلال الفترة السابقة ومنذ حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تحديدا، والتي أفرزت واقعا جديدا، ودفعت بإسرائيل إلى أن تتوسع وتهاجم كل من تقرر أنه يستحق الهجوم.
بدأ الملك مذكرا الحضور بأنه قبل عقدين ونيف أطلّ على الأردنيين من ذات المكان مؤديا القَسَم كوريث لحكم والده، الملك الراحل الحسين بن طلال، ومشددا على أن الأردن عبر أبلغ الأزمات وأعقدها، واليوم يمضي بكل ثقة، في إقليم مضطرب، وعوالم من الصراعات المتعددة.
هذه الصراعات الممتدة، والحروب التي شهدتها المنطقة، كان الأردن بوابة الملاذ لمن أراد النأي منها بنفسه، أو لمن هُجّر من وطنه، فتضاعف وتصاعد عدد سكان البلد من 4 ملايين ونصف عام 1999 إلى نحو 12 مليون اليوم. وكان للأردن أن يمضي بمعركة البقاء، وهو اليوم يسير بخطى ثابته نحو التحديث السياسي والاقتصادي، وهي أمور لا يسأل عنها الناس بكثافة بقدر من يشاركون بصناعتها.
لكن يوم الأردنيين مثقل بهموم السياسة، ويظلّ عالقا فيه الكثير من أسئلة الناس المفتوحة على الفقر والبطالة والتعليم وهوية الدولة ومستقبلها، في ظلّ تعاظم الأدوار الإقليمية لدول طامحة وتسعى لإثبات أهميتها أيضا، لذاتها وللمنطقة والعالم.
تحدث الملك عن مصادر القلق لديه، وعن مخاوفه كأي مواطن، دونما تفصيل، لكنه رد بأنه مرتكز على إيمان راسخ بالأردنيين ونضالاتهم ومساعيهم النبيلة تجاه دولتهم، وقضية الأمة الأولى فلسطين.
لم يتحدث عن سوريا أو العراق بوصفهما جارين لديهما إشكاليات تخصّهما، ولكنها تمسّ الأردن، ولم يتحدث لمجلس الأمة بجمهوره السياسي المشرّع والتنفيذي حيث الحكومة حاضرة، عن الأشقاء العرب أو الحلفاء الغربيين، فتلك ملفات خارجية بيَدِه. لكنه تحدث عن الوجود الأردني والإنجاز والتحديات والأمن، وأسباب البقاء الوطني، في عالم العواصف الشرق أوسطية الصعبة والمفاجئة والتي لا تنذر أحد بمجيئها.
أشار بسبابته قابضا يده في أكثر من موضع، متحدثا عن الجيش ودوره في البناء والأمن، وحين تحدث عن هموم الشباب ومنهم ابنه ولي العهد الأمير الحسين الذي قال عنه: "ابني وابنكم" وتكررت الإشارة عن الحديث عن قضية فلسطين، وكذلك عند التأكيد على البقاء في مواجهة التحديات مهما تعاظمت.
تحدث الملك عبد الله الثاني عن مصادر القلق لديه، وعن مخاوفه كأي مواطن، دونما تفصيل، لكنه رد بأنه مرتكز على إيمان راسخ بالأردنيين ونضالاتهم ومساعيهم النبيلة تجاه دولتهم، وقضية الأمة الأولى فلسطين
فَهِم الأردنيون من الخطاب أن الملك أراد توجيه رسائل للداخل، وفلسطين جاءت في سياق الحدث الأردني لا خارجه، وفيه تأكيدات على السلطة والمقدرة ودحض المخاطر، وفرض الذات الوطنية لما فيه مصالح الأردنيين ودولتهم.
في الخطاب السياسي الملكي الأردني أمام مجلس الأمة، قلّما كانت مفردات الملك تُصدر للخارج، ولكنها في الخطاب الأخير جاءت أكثر مباشرة، نحو السياسات ومفاهيم القوة والصبر الأردني، والمصالح العليا، والمؤسسات، والنظام الاجتماعي الذي يوازي السياسي والاقتصادي.
الدولة الراهنة، في إقليم فائض بالعنف والقلق، والتطرف الإسرائيلي، كانت هي عنوان الخطاب، الذي شكل بيانا مرحليا لا ينفصل عن وضع الإقليم المقلق، الذي منحت فيه حرب السابع من أكتوبر إسرائيل وضعية فريدة، لم تُتح لها منذ قيامها باحتلال فلسطين.
مفردات مثل "على مدى عقود"، و"جيشنا المصطفوي"، و"مهما تعاظمت الأحداث"، و"سنبقى بجانبكم"، هي عند محللي لغة الخطاب واستراتيجيات البلاغة، بالإضافة للغة الجسد، كافية لمن يشاهد لخطاب، ليدرك أهمية المؤسسة الملكيّة في الأردن، ومدى رسوخها في وجدان الناس، واقترابها منهم ومن همومهم اليومية، وفي جواب الملك عن قلقه ومشاعره، رد مباشر على أسئلة كل المواطنين الأردنيين المشروعة، الذين يساجلون دوما بكل وعي وحرية في كل همومهم وهموم المنطقة. وذلك نابع من أصالتهم وعروبتهم الفائضة، التي جعلتهم يتفاعلون دوما، مع قضايا العرب بما يتجاوز اهتمامهم بقضايا المعاش اليومي، الذي يواجهون فيه الكثير من التحديات والأنواء.