الرياض وواشنطن... زيارة التغيير والانعطافة الكبرى

ما تبدى من الزيارة لا تمنحه واشنطن إلا للقادة الاستثنائيين

الرياض وواشنطن... زيارة التغيير والانعطافة الكبرى

استمع إلى المقال دقيقة

كرّست زيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة الأميركية، واللقاء مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب ومختلف القيادات والوجوه الفاعلة في إدارة ترمب، مكانة الرياض كعاصمة استراتيجية وفاعلة وكحليف موثوق للبيت الأبيض.

الاستثناء في الزيارة لم يكن فقط لحفاوة الاستقبال، أو ما أعلن عنه من آفاق جديدة للشراكة الثنائية أميركياً وسعودياً، وخاصة في مجال الدفاع والاستثمار في الذكاء الاصطناعي كمجال حيوي للحضور السعودي على المستوى العالمي. بل الاستثناء في الشرط التاريخي الذي أكّده الحضور السعودي بشخص ولي العهد، وبمضمون كلامه بأن المجيء للولايات المتحدة ليس للعلاقات العامة ولا خدمة لعيون أميركا، بل لأن العربية السعودية وجدت بأن ثمة مصالح مشتركة مفيدة للطرفين. وعلى هذه القاعدة التي أظهرت حجم ثقة ولي العهد السعودي بما تملكه وتمثله بلاده للولايات المتحدة، كانت معالم الطريق الممتد بين الرياض وواشنطن.

وفي الألمحية التي رد بها الأمير محمد بن سلمان على جميع الأسئلة، كان تعبير رجل الدولة واضحا بأن الدول حين تتحاور وتلتقي على قواعد واضحة في الفَهم فإنها تضع كل شيء على الطاولة بكل وضوح، ولا تلكؤ في الرد ولا ارتباك. إنها ثقة في دولة وشعب سعودي أثبت قدرة كبيرة على فَهم رؤية قيادته، والتحولات المطلوب إنجازها لكي تقود الرياض الإقليم، وتساعد في اجتراح الحلول لمعظلات العالم المعاصرة.

ما تبدى من الزيارة، بروتوكول عالي المستوى وحصري، لا تمنحه واشنطن إلا للقادة الاستثنائيين، وما تبدى من إعلانات واضحة عن علاقات متكافئة في الاستثمار وارتياد المستقبل والدفاع المشترك، وتسليح المملكة بأفضل أسلحة العصر. وفوق ذلك النووي السلمي، أمور حريّة باعتبارها إنجازا كبيرا. لكن ما تقول ردهات البيت الأبيض وتحضيراته، الشيء الكثير عن المكانة التي فرضتها الرياض على إيقاع البيت الأبيض والعاصمة التي تُغير ما تريد في العالم. لكن الرياض هنا بدت القادرة والفاعلة على جعل أكثر المكاتب حساسية في عالم السياسة في البيت الأبيض، تعيد التفكير في طروحات الضيف القادم وتفهم منطقه.

الزيارة أعادت تذكير العالم بأن في الشرق الأوسط ما يسمح للعالم وساسته ورجال الاقتصاد فيه، بأن يروا شيئاً غير النفط والحروب، ومن ذلك التقدم الذي حدث في السعودية والتحولات القيمية الكبيرة، والتنوع في مصادر الثروة

حمل الأمير محمد بن سلمان معه، آمال شعب ومنطقة عربية، وإقليم كامل اسمه الشرق الأوسط، الذي تعرف الولايات المتحدة جيداً معضلاته، وتدرك مخاطره، وتعي جيداً تفاصيل القوة ومحركات الغضب فيه، كما أنها تعي جيداً أن للسعودية مكانتها وثقلها الوازن منذ أن بدأت علاقاتها الوطيدة والراسخة مع الولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين مع الملك الراحل عبد العزيز.
إنه تاريخ الشرق الأوسط الكامل، الذي وعى الأمير محمد بن سلمان تفاصيله ودرسها جيداً، وأدرك ماضيه المليء بالتحديات، لكنه- من دروس التاريخ تلك- انطلق ليعيد تعريف ذلك الشرق للولايات المتحدة، الذي لم تحقق فيه أميركا ما حققته قبل أي وقت مثل ما حققته بتحالفها وعلاقاتها الوطيدة مع المملكة العربية السعودية. والتي تُعدّ الركن المكين في المنطقة، والقادرة على طي صحارى الشرق ووهاده لتكون دولة لها مقعدها في المستقبل عبر أنواع مختلفة من الاستثمار والأدوار الجديدة للشباب.
صحيح أن الزيارة أتت بالنفع الكبير لصالح المملكة العربية السعودية، لكنها في الوقت ذاته، أعادت تذكير العالم بأن في الشرق الأوسط ما يسمح للعالم وساسته ورجال الاقتصاد فيه، بأن يروا شيئاً غير النفط والحروب، ومن ذلك التقدم الذي حدث في السعودية والتحولات القيمية الكبيرة، والتنوع في مصادر الثروة، والتقدم في حقوق الإنسان، والإسهام في تطوير المنطقة ككل.

ليست الزيارة التي قام بها الأمير محمد بن سلمان، ضرورية للدولة الأكثر تأثيراً والأهم بالنسبة للولايات المتحدة وحسب، بل هي بالنسبة للفاعل الأميركي الشريك الذي لا يمكن التفريط بالعلاقة معه، ليس لصالح مجمعات التصنيع العسكري ورجال الاقتصاد الأميركي، بل لكي تجدد الولايات المتحدة أيضا سمعتها في المنطقة، فالحلول السياسية لصراعات الإقليم يجب أن تمر عبر بوابة الرياض، كما أن البوابة الأميركية مهمة لوضع حدٍّ لتلك الصراعات.   
صحيح أن الزيارة قد تحل معضلات، وقد يبقى بعضها حاضراً، لكن فكفكة العقد، وبوعي وخبرة الرياض مهم لكي يفهم الأميركان أن لدى السعودية ما تقوله وما تسهم به وما تؤديه، ولذا فإن الإصرار السعودي على ضرورة حل الدولتين كخيار لإنهاء التوتر في فلسطين، ووضع حدٍّ لحرب السودان، وتثبيت استقرار سوريا، جاء في إطار تثبيتات الرياض الدائمة وبداية فكفكة عقد الصراعات والحروب في المنطقة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي أسمهت الرؤية السعودية- والجهد العربي المشترك القابل بأن تكون السعودية هي رأس المبادرة العربية للحل في  فلسطين- أن تجعل الرئيس ترمب يُغير أفكاره، ويمارس ضغوطه على نتنياهو لكي يتراجع عن خطواته التصعيدية في الضفة، وليوقف الحرب في غزة. وهي أمور لم يكن من السهل الحصول عليها أو دفع الرئيس ترمب لأن يتعاطف مع حقوق الفلسطينين ويقول عنهم إنهم يحبونه.
فصل المقال أن زيارة الدولة السعودية لواشنطن، التي قام بها ولي العهد السعودي، حققت الشرط التاريخي الذي لطالما حلم به العرب، كي يفكر الغرب بهم، وفي مقدمته الولايات المتحدة، خارج حدود الوصف التقليدي بأنهم شعوب تسكن منطقة غنية بالنفط وحسب، وبأن الشرق الأوسط عليه فقط أن ينتظر إطلالات الرؤساء الأميركان كي يمنحوه عطفهم، وذلك أمر لم يكن سهل المنال.

font change