على أبواب العام الجديد تعود قصيدة مظفر النواب للحضور، ومنها:
"أي إلهي إن لي أمنية
أن يسقط القمع بداء القلب
لم يعد يذكرني منذ اختلفنا غير قلبي.. والطريق
صار يكفي
كل شيء طعمه.. طعم الفراق
حينما لم يبق وجه الحزب وجه الناس
قد تم الطلاق..".
تلك واحدة من مقولات مظفر النواب، لوطنه الذي سقط في الخوف والاستبداد بوصفة قائد معركة العرب الأولى، ومنذ صعود المدّ القومي العربي في أعقاب ثورة يوليو/تموز 1952 في مصر، وما لحق بها من ثورات وانقلابات للاشتراكيين والبعثيين، ومنها ثورة/انقلاب يوليو 1958 في العراق، كان تركيز الخطاب السياسي العربي أن لا سبيل للتقدم العربي إلا بالوحدة والتحرر. وفي المقابل وقعت البلاد في الخوف وتوسعت السجون.
وتوالت الوعود في ليبيا واليمن والسودان، ولم تتعافَ تلك الدول من أزمة توظيف ثنائية الوحدة والتحرر مطلقًا، لا بل غرق بعضها في حروب أهلية قسمت المجزأ إلى أجزاء وأحالت البلدان إلى الفوضى، واتسعت أعداد المنفيين وسجلات المشبوهين بتهمة العمالة للخارج، والسبب أنهم نادوا بالحرية والتحول نحو الديمقراطية.
في المقابل، نادى أصحاب الخطاب القومي الوحدوي، بالضروريات كما زعموا، فخيار المطالب الديمقراطية. ردوا عليه، بأنه ليس ممكناً، لأن الأولوية هي للوحدة العربية أولاً وتحرير فلسطين ثانياً.
في دولتي السودان واليمن حالتان اليوم متصلتان بخطابين ونهجين. خطاب الوحدة، وخطاب الرفض للديمقراطية
في دولتي السودان واليمن حالتان اليوم متصلتان بخطابين ونهجين. خطاب الوحدة، وخطاب الرفض للديمقراطية. في الأولى حصل أول انقلاب في ذات السنة التي حدث بها انقلاب العراق عام 1958، وكان بقيادة إبراهيم عبود، الذي أطاح بالحكومة المدنية السودانية، وسبقته محاولة فاشلة عام 1957 وتوالت الانقلابات الخمسة بعد عام 1958 وصولًا لانقلاب 1989 بقيادة عمر البشير الذي أطاح بحكومة الصادق المهدي، وللأسف تحالف الجنرال العسكري مع رجل الدين الإخواني الأستاذ حسن الترابي، فأغرق السودان بالتخلف والتشدد والتقسيم، ثم اختلفا، وزج العميد بالأستاذ في السجن.
والسودان اليوم صورة مسطحة للتذرر والفوضى واختلال الخرائط والتداخلات الخارجية. فالحلم بالخلاص من زمن البشير الذي ملأ البلاد فسادًا وجعلها قبلة للمتشددين، انتهى بالبلاد إلى غير ما كان يراد لثورتها أن تنتهي عليه.
أما في اليمن فثمة سرد طويل لرغائب الوحدة والتحرر وبلاغات الوعود الكبرى، كما هو الحال بالأيمان التي كان يقطعها البشير من ظهر "سيارة الجيش" واعداً بهزيمة قوى التجزئة والعمالة لإسرائيل، وكذا الحال بوعود العسكر في اليمن لشعبهم بالتخلص من الحكم الرجعي الذي كان يوصف به إبان عهد الإمام أحمد حميد الدين والذي واجه انقلاب 1955 ثم ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962 التي كان شعارها "تغيير النظام"، في سياق المدّ الناصري الذي غطى المشهد السياسي في المشرق العربي وأورث المنطقة تأثيرًا سلبيًا كبيرًا. وقد كانت دعوة عبد الناصر والناصرية ضد الدول الملكية ودعوته لأنظمة جمهورية تقدمية. لكنها سرعان ما انتهت بوفاته بعدد سلسلة من القرارات الكارثية، ليأتي محمد أنور السادات الذي أحدث انعطافة كبيرة في مصر، بالتحول من الأهداف القومية إلى الأهداف الوطنية، وعلى رأسها تحرير سيناء ثم توقيع اتفاق كامب ديفيد عام 1978، وما حققه السادات بخطاب واحد في الكنيست الإسرائيلي، هو ما عجز عنه عبدالناصر بكل خطاباته.
عاش اليمن الشمالي انقلابات وتوترات مستدامة، وفي اليمن الجنوبي نزاعات لا تقل عن جارتها الشمالية
عاش اليمن الشمالي انقلابات وتوترات مستدامة، وفي اليمن الجنوبي نزاعات لا تقل عن جارتها الشمالية، فقد حدثت ثورة 14 أكتوبر/تشرين الأول 1973 وكان شعارها "التحرر من الاحتلال"، ثم تحاربت الدولتان عام 1972، ولاحقًا حرب الجبهة 1978-1982، ثم حرب الجنوب 1986.
وبعد الوحدة جاءت حرب صيف 1994، وصولًا إلى حروب صعدة التي بدأت في 2004، وانتهت بالحرب السادسة 2008، ثم تمرد الجنوب 2009، إلى ثورة الشباب اليمني 2011 التي جاءت في سياق ما عُرف إعلاميا باسم "الربيع العربي"، والتي انتهت بسيطرة الحوثيين على السلطة عام 2014. وهي سيطرة دعمتها إيران التي احتفلت بسقوط اليمن كبلد رابع بعد سقوط العراق وسوريا ولبنان في يديها.
وفي مارس/آذار 2015 جاءت عملية "عاصفة الحزم" في هيئة تحالف عربي بقيادة السعودية بعد طلب من الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي لاتخاذ موقف عربي لوقف تعدي وتقدم جماعة "أنصار الله" على محافظات الجنوب، وفي 21 أبريل/نيسان أعلن عن انتهاء العملية لتبدأ عملية "إعادة الأمل". وفي المقابل اتضح أن الفجوة بين الشمال والجنوب تعاظمت بالسيطرة الحوثية، فبعد 2014 أصبح الجنوب ساحة صراع معقدة، إذ إن المجلس الانتقالي الجنوبي سيطر على معظم محافظات الجنوب، منفصلًا عن الحكومة الشرعية التي أدامت ودعمت وجودها المملكة العربية السعودية التي تتحرك اليوم في إطار واضح وسياق متصل بسبل إعادة الاستقرار لليمن ووقف التدهور الأمني فيه لصالح استعادة الاستقرار والحدّ من الفوضى.
صحيح أن الجنوب اليمني تقاسمته أدوار الجماعات والعشائر والمجالس، وليس الشمال بأفضل منه حالاً، لكنه اليوم بحاجة إلى صوت العقل والحكمة والإنصات للمسعى السعودي النبيل المدعوم عربياً، كما أن السودان يحتاج إلى ما هو أكثر من الحكمة.