ثورتان في الغرب

ثورتان في الغرب

استمع إلى المقال دقيقة

وسط غبار التصريحات وصخب المؤتمرات الصحافية ودوي المدافع وأزيز المسيرات، تجري في الغرب اليوم ثورتان متقابلتان عميقتا الجذور ومديدتا الأثر في الزمن والاجتماع كما في الاقتصاد والسياسة.

شخصيات هاتين الثورتين ليست كلها ممن يحتل الشاشات، لكن تياراتها تضرب عميقا. أهم قادة "الثورة من اليمين" إذا جاز القول، الرئيس الأميركي دونالد ترمب (بداهة) وزعيم حزب "الإصلاح" البريطاني نايجل فاراج وزعيمة التجمع الوطني الفرنسي مارين لوبان. زعيما حزب "البديل من أجل ألمانيا" أليس فيديل، وتينو تشروبالا، وزميلهما الهولندي غيرت فيلدرز الذي يترأس حزب "الحرية"، يؤدون أدوارا مهمة في هذه الثورة.

يتفق جميع هؤلاء، ليس فقط على المواقف السلبية من المهاجرين وسياسات الهجرة في بلدانهم، فهذه ليست أكثر من رأس جبل الجليد في ثورتهم. ذلك أن قضيتهم الأساسية هي استبدال حكم يمين الوسط ويسار الوسط الذي ساد في الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بآخر. إفلاس أحزاب الوسط، اليمينية واليسارية، أفضى إلى تفشي الفساد وثقافة "الصواب السياسي" التي تحولت إلى ظاهرة "الووك" (Woke) التي تهدد أسس المجتمعات الغربية بآفات من خارجها كالمثلية وهيمنة ثقافة الأقليات والمهاجرين وتعريض أمن الأفراد والبلاد للخطر الجسيم. هذا النظام الفاسد لا بد أن يسقط، وقد أعلن ترمب مرات عدة أنه سيضع عددا من المسؤولين في "الحزب الديمقراطي" في السجون من دون أن ينسى خصومه في قلب "الحزب الجمهوري" على غرار إليزابيث تشيني الذين دافعوا عن السياسة الجمهورية التقليدية في وجه الموجة الترمبية.

النخب الفاسدة ممثلة في أميركا بعائلة كلينتون والرئيس السابق جو بايدن- بحسب ترمب– تسببت في إفقار الأميركيين إلى جانب زعزعة أسس اجتماعهم وثقافتهم. ولم يعد لها مكان في الولايات المتحدة التي يبنيها ترمب وأنصاره. هذا الخطاب، على الرغم مما فيه من تعميم، يلاقي صدى كبيرا عند المواطن الأميركي الذي يعرف أن "واشنطن عبارة عن مستنقع"– بحسب ترمب مرة ثانية- وأنه يحتاج إلى من يجففه. وهذا وضع تجاوز مرحلة المشكلات الدورية إلى نوع من الأزمة البنيوية والاستنقاع اللذين لا يمكن الخروج منهما دون كسر دورة الأسباب والنتائج التي تتكرر من دون نهاية، أي بثورة يقودها اليمين.

فمنذ نهاية الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود ونيف، وبدلا من أن تتحسن أحوال الفئات الأفقر في الولايات المتحدة جراء التقدم التقني والازدياد الكبير في الثروة الوطنية، تفاقم الاستقطاب بين الأثرياء الذين ازدادوا ثراء على نحو فاحش والفقراء الذين ازدادوا فقرا، سيان أكانت في البيت الأبيض إدارة ديمقراطية أو جمهورية. فالنخب من الحزبين تتشارك في العمق موقفا واحدا سلبيا حيال التخفيف من حدة الفقر من جهة والاندفاع نحو مراكمة الثروة بأي طريقة كانت من الجهة المقابلة، ما جعل من "بارونات النهب" الذين حددوا مسار الاقتصاد الأميركي بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين شخصيات دائمة الحضور في وسائل الإعلام الأميركية.

يمكن الخروج بنقاط تشابه كثيرة بين الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية، حيث لحق إخفاق حكومة يسار الوسط لحزب "العمال" في بريطانيا في إجراء أي إصلاح ملموس، بالفشل الذي نشره خصومهم المحافظون من يمين الوسط، على امتداد 14 سنة من حكمهم، فيما ينتقل "الوسطي" إيمانويل ماكرون في فرنسا من أزمة إلى ثانية أسوأ وأعمق، على سبيل المثال لا الحصر.

شخصيات هاتين الثورتين ليست كلها ممن يحتل الشاشات، لكن تياراتها تضرب عميقا

في المقابل، لم يمر هذا التحول العميق في بنى الاجتماع والاقتصاد من دون أن تلحظه أوساط على يسار الطيف السياسي. وإذا كانت الأضواء مسلطة في الولايات المتحدة على السيناتور بيرني سيندرز كممثل للتيار اليساري، فإن الرجل في رأي آخرين (مثل سلافوي جيجك على سبيل المثال) يمثل نوعا من "المحافظة اليسارية" التي تريد أن تعود إلى زمن "دولة الرعاية" والإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية ومنع الاحتكارات الكبرى من إحكام سيطرتها على الاقتصاد. لكن يتعين الانتباه إلى من يوجه اليمينيون أسهم نقدهم. فما يقوله ساندرز بات من الخطاب المعروف لليسار التقليدي. ما يثير خوف اليمين هو صعود شخصيات شابة تقول ما يخرج عن جادة "الصواب السياسي" لكن في الاتجاه المعاكس لذلك الذي يطالب به اليمين. المرشح لمنصب عمدة نيويورك زهران ممداني. سبق النائبة الديمقراطية عن المدينة الكسندريا أوكاسيو–كورتيز كهدف مفضل في هجمات اليمين الجمهوري بعدما تبنى موقفا واضحا من الإبادة في غزة واعتقال بنيامين نتنياهو إذا جاء إلى المدينة، ومن مسائل المشردين و"جعل نيويورك متوفرة للجميع" حيث تنتهي ظاهرة الغلاء غير المفهوم التي تطيح بالطبقة الوسطى المهمة لاقتصاد المدينة. 
في فرنسا ما زال زعيم "فرنسا الأبية" جان–لوك ميلانشون شخصية محورية في السياسة العليا مقدما نفسه وحزبه بديلا عن يسار الوسط الذي اضمحل ممثله التاريخي، "الحزب الاشتراكي الفرنسي"، وعن اليسار التقليدي في "الحزب الشيوعي"، وسط تأييد لا يستهان به من الشباب الذي عبّر مرات عدة عن رفض جذري لسياسات ماكرون الداخلية وحتى الخارجية. 
باختصار، المجتمعات الغربية وعلى اختلاف أنظمتها السياسية وتواريخها وثقافاتها، تخوض اليوم ثورتين كبيرتين ربما لا تحملان حاليا هذا الاسم، لكن ما يدور أعمق كثيرا من تصريحات متسرعة هنا وبلادة مستفزة هناك. 

font change