ساهم "طوفان الأقصى" من دون قصد أصحابه على الأرجح في إحياء مشكلة عضال في الفكر السياسي العربي الحديث تتلخص في تعيين "صاحب القضية" وبالتالي الفاعل السياسي الذي يفترض به أن يتولى العمل من أجلها وأن يكون مفوضا بالنطق باسمها وأن يتحمل عواقب هزائمها ويجني ثمرات انتصاراتها.
القضية الفلسطينية كانت منذ ظهورها، الساحة الأبرز للخلط غير البريء الذي مارسته أطراف من شتى أنحاء العالم لاستغلال القضية وتوظيفها في صراعات تتجاوز مهمة استعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية. أدرك القادة الفلسطينيون قابلية القضية للاستثمار ولم يقصروا في مجاراة كل من أراد أن يسجل نقاطا وأهدافا لمصلحته الخاصة عبر استخدام المأساة الفلسطينية.
سجلات الأردن ولبنان والحرب الباردة والصراعات العربية–العربية تعج بأسماء فصائل فلسطينية تورطت حتى العظم في "حروب الآخرين"، وصولا إلى الإعلان الشهير عن أن "طريق القدس يمر في جونيه" (البلدة الصغيرة) على ما أعلن مسؤول فلسطيني في يوم من أيام الحروب الأهلية اللبنانية حالكة السواد.
بيد أن الأهم يبقى هو الأساس الذي فتح الطريق إلى هذا الإعصار من التدخلات السياسية والعسكرية، وقوامه انعدام الحدود الفاصلة بين "الشعب" و"الأمة" وتوزع هذه الأخيرة على معان مختلفة قومية ودينية. فمقابل الشعب الفلسطيني صاحب القضية، جاء الشعب العربي الذي يجب أن يشارك في التحرير من موقع الأخوة العربية. ثم أتت "الأمة العربية" التي يحق لها أن تراقب سلوك الفلسطينيين إذا مالوا إلى السلام أو إلى الحرب وأن تعاقبهم عندما يبادرون إلى الخروج عن طاعة الأنظمة العربية.
"الأمة الإسلامية" لم تتأخر في المشاركة في زحمة الفاعلين السياسيين هذه، خصوصا بعد الثورة الإيرانية وشعاراتها عن "لا شرقية ولا غربية... بل وحدة إسلامية". غني عن القول إن الوحدة الإسلامية لا تتحقق إلا إذا وجّهها واختار طريقها رجال الدين الإيرانيون الذين ثاروا في وجه "الطاغوت" ونصروا "المستضعفين"...
نحن اليوم في المرحلة الأخيرة من اضطلاع "أمة" غير محددة الهوية والقيادة، بدور الفاعل السياسي الذي يقال إنه حرّك "طوفان الأقصى". غموض الفاعل يؤدي إلى تهرب الجميع من تحمل مسؤوليات الكارثة التي انتهى إليها الوضع في غزة وفي المشرق كله. فباستثناء "حماس" التي لا تستطيع محو بصماتها عن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، نأى كل من تسنم المنبر يوما للتحريض على القتال، عما تفوه به.
اليساريون العرب كان لهم ما يقولونه في هذا المجال، إذ رأوا أن حركة التحرر الوطني الفلسطيني جزء لا يتجزأ من النضال الأممي ضد الإمبريالية. وذهب أحدهم إلى صوغ نظرية "الرافعة" التي ستتشكل عند تحرير فلسطين وستكون العنصر الحاسم في الثورة العربية.
إحلال "الأمة" ذات المحددات الغامضة لناحية المكونات والقيادة والمسؤولية، مكان "الشعب" ضرب القدرة على توصيف المصالح المرتبطة بتسوية القضية الفلسطينية. إذ إن مصالح "الأمة" ليست بالضرورة هي ذاتها مصالح "الشعب". والأولى تعلو الثانية بما لا يقاس وتتفوق عليها. مصالح "الأمة العربية" تسبق تلك التي للشعب الفلسطيني حكما. وعندما فرض الإسلام السياسي اللون الديني على القضية، صارت مصالح "الأمة الإسلامية" هي العنصر المهيمن على كل الخطاب المتعلق بالقضية الفلسطينية.
حطمت "الأمة" والخطاب الذي بُني عليها، النسيج الوطني وقسمت الفلسطينيين على نحو لم يشهدوه أثناء ازدهار الفصائل القومية واليسارية وأضعفت موقفهم
ولا مفر من وصف الوضع الذي أنشأه الإسلاميون بالكارثة. فعوضا عن التسويات الملموسة والمصالح المباشرة التي تعني مجموعة معينة بوضوح من البشر، صرنا أمام فروض دينية ونبوءات عن حرب يقضي فيها المسلمون على الكفار وانتظار خروج أئمة من غيباتهم، وهو ما لا يمكن وضعه على طاولة المفاوضات ولا تحمل تبعات تحققه أو فشل التحقق. لقد أضفى الخطاب الديني بعدا مستحيلا على القضية الفلسطينية وحولها إلى ما يشبه الفريضة الدينية التي لا يمكن أن يحاسب على الالتزام أو عدم الالتزام بها سوى خالقها.
عليه، حطمت "الأمة" والخطاب الذي بُني عليها، النسيج الوطني وقسمت الفلسطينيين على نحو لم يشهدوه أثناء ازدهار الفصائل القومية واليسارية وأضعفت موقفهم وصولا إلى طرح السؤال عمن يشكل "الفاعل السياسي" الذي يتعين عليه حمل القضية الفلسطينية. الهزيمة العسكرية التي منيت بها "حماس" قد تتحول إلى هزيمة أيديولوجية وسياسية نهائية، لكن ذلك لا يعني أن الانقسام الفلسطيني سيلتئم قريبا على ما يبدو.
ولا بأس من التذكير بملاحظة كان المفكر اللبناني الراحل جورج قرم قد أبداها قبل سنوات، وهي أن المستشرقين الأكثر عداء للمسلمين والعرب، يضعون هؤلاء خارج قوانين التطور الاجتماعي والتاريخ باعتبار أن الإسلام يسيطر على كل نواحي الحياة من السياسة إلى الاقتصاد وغيرهما. في الوقت ذاته يرى غلاة الإسلاميين أن "الأمة" الإسلامية لا تنطبق عليها ما جاءت به الحداثة باعتبار هذه الأخيرة نتيجة الفكر الغربي الكافر وأن "الأمة" لها قوانينها المختلفة المنصوص عليها في كتبهم. ويتابع قرم، هذا اللقاء بين أعداء المسلمين وغلاتهم يجب أن يثير دهشة عميقة لدى المتابع لأحوال هذه المنطقة من العالم....