ليس ما يوازي القتل المنهجي للصحافيين الفلسطينيين في غزة، سوى الصمت الدولي على استمرار الجريمة وتقديم الذرائع والمبررات لها.
الأرقام المتداولة للعاملين في مجال الإعلام الذين قتلوا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تتراوح بين 191 و273. الرقمان هائلان إذا وضعا على خلفية عدد سكان غزة الذي لا يزيد على 2.2 مليون نسمة. ويشير إلى أن الصحافة التي يشكل التلفزيون ومواقع الإنترنت عمودها الفقري تتعرض لحملة لمنع حقيقة ما يجري في القطاع من التسرب إلى الخارج، على ما صار معروفا. فالمجزرة اليومية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي تجاوزت منذ الأيام الأولى للحرب الانتقام لهجوم "طوفان الأقصى" الكارثي، وباتت جزءا من إعادة رسم خريطة المنطقة وتوازناتها.
الشهود غير مرحب بهم في هذه المقتلة المفتوحة، سيان أكانوا من الفلسطينيين أو من الأجانب. وترفض إسرائيل السماح بدخول مراسلي الصحافة الغربية إذا لم يكونوا ضمن الوحدات العسكرية الإسرائيلية. المشاهد الشبيهة بيوم القيامة والحشر وتدافع الناس وتقاتلهم للحصول على علبة غذائية، لا تتفق مع ما تريد حكومة بنيامين نتنياهو تعميمه بشأن مسؤولية "حماس" الكاملة عن الجريمة ضد الإنسانية الجارية على مدار اليوم في غزة بسبب إشعالها الأخرق لحرب أحسن نتنياهو استغلالها حتى الثمالة وخدمت مشاريعه الأكثر جنونا.
والصمت الدولى حيال قتل الصحافيين، أعمق على ما يبدو من مساهمة في طمس الأدلة على جريمة متمادية. ثمة ما يقول إن الحيلولة دون انتشار صور الأطفال ضامري الوجوه والأجساد جراء المجاعة ومشاهد جعل الساعين للحصول على حصة من المساعدات أهدافا متحركة لتدريب الجنود الإسرائيليين على القنص، هدف تعمل الحكومة الإسرائيلية بجد على تحقيقه لتخفيف الشعور بالذنب عن مشاهدين في الولايات المتحدة وأوروبا يجب أن يقتنعوا بأهمية المساهمة بتمويل "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم".
أما الجانب الآخر من الصورة، فهو أن الإعلام بصيغته الحالية، حتى لو نقل وسائطه إلى الفضاء السيبراني، يجب أن يُحاصر وأن يُلغى تاليا من الأدوات المُشكّلة للرأي العام. ولا يخفي أصحاب الدعوة هذه وجوههم وراء أقنعة. بل يبشرون بها بصراحة ووضوح.
"الإعلام القديم" أو التقليدي، كما يصفه الملياردير الأميركي إيلون ماسك يجب أن يزول بسبب وضعه حدودا أمام حرية التعبير التي تشمل– وفق تفسيره- نشر خطاب الكراهية والتحريض على العنف العنصري والعرقي والعداء لكل مختلف سواء كان مهاجرا أو مغايرا دينيا.
تجفيف الموارد المالية للمؤسسات الإعلامية المستقلة وحصارها والعمل على تقليص عدد متابعيها عملية لن تتوقف
هذه الوجهة تتمتع بدعم وازن في مؤسسات سياسية وفكرية في الغرب والشرق سواء بسواء، خلافا لما يقوله خصوم "الرجل الأبيض" و"الاستشراق" و"الغرب الاستعماري". ذلك أن القوى الصاعدة في الشرق لا تخفي هي الأخرى عنصريتها وكراهيتها للمختلفين عن الأكثريات السياسية والعرقية الحاكمة.
فنوع جديد من الوعي (إذا جاز التعبير) ينشر ظلاله على العالم. وفي الوقت الذي تتهم فيه قوى اليسار و"الجنوب العالمي"، الدافعين نحو التخلص من الإعلام القديم بالمبادرة إلى الهجوم للاستيلاء على موارد ومقدرات الشعوب الفقيرة، فواقع الأمر أن جوهر موقف الباحثين عن "حقائق بديلة ونسبية" هو دفاعي يتمثل في الجهود التي يبذلونها لمنع تغيير يقولون إنه لن يصب في مصلحتهم ومصلحة من يمثلون، استطرادا. ومن بين "المصالح" هذه، تتصدر مهمة إبقاء علاقات الإنتاج والتوزيع والهيمنة على حالها وتطويع الثورات التقنية والعلمية الجارية لخدمة فئات بعينها بدل تعميم فوائدها. الحملة التي جرت في العشرية الأولى من القرن الحالي لتحويل شبكة الإنترنت إلى أداة ربحية ما زالت طرية في الذاكرة.
عليه، فإن تجفيف الموارد المالية للمؤسسات الإعلامية المستقلة وحصارها والعمل على تقليص عدد متابعيها عملية لن تتوقف. وفي هذا السياق، يسقط صحافيو غزة بالمئات في مجزرة تقع في صلب عملية بناء عالم جديد.