منذ الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد ووصول أحمد الشرع إلى السلطة في دمشق، بدا واضحا أن المملكة العربية السعودية اتخذت قرارها بدعم سوريا الجديدة، ودون إنكار الشق العاطفي بالأمر بعدما تكشف للعالم حجم ما عاناه السوريون خلال عقود من حكم الأسدين، إلا أن المملكة أدركت مبكرا أن المنطقة اليوم، وليس سوريا فحسب، أمام فرصة قد لا تتكرر بعقود من الزمن.
سوريا التي تحولت عبر تاريخها الحديث إلى أكبر معمل لإنتاج المخدرات، والمصدر الأول عالميا للاجئين، والممر الإلزامي للسلاح والميليشيات الإيرانية التي لم تتوقف عن زعزعة الاستقرار والأمن في دول الجوار، صار مشروعها الجديد الاستقرار والتنمية، كلمتان فتحتا الأفق أمام القيادة الجديدة للشروع بعلاقات قائمة على التعاون والشراكة والتنسيق مع دول العالم والمنطقة.
"رؤية المملكة العربية السعودية 2030" التي تسعى إلى إرساء الاستقرار والتنمية في المنطقة وتعزيز التعاون الإقليمي، برزت واضحة بالحوار الذي أجراه الرئيس السوري أحمد الشرع على هامش مبادرة "مستقبل الاستثمار" (FII9)، وكان لافتا حضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للجلسة الحوارية مع الشرع ودعمه الواضح.
من هنا يمكن القول إن العلاقة بين السعودية وسوريا، وبين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس الشرع، تبرز كحجر أساس في إعادة تشكيل خارطة العلاقات العربية-العربية، والسعودية-السورية، فالرؤية والأولويات المشتركة لدعم الاستقرار في المنطقة هي خطوة أساسية للتنمية الاقتصادية.
المملكة أكدت مرارا على دعمها لوحدة سوريا واستقرارها وأمنها، وفي المقابل أكد الشرع مرارا أنه يسعى لتصفير المشاكل والأزمات بين سوريا ودول المنطقة والعالم، وأن الأولوية هي لوحدة سوريا واستقرارها وازدهارها، وكان للسعودية وولي عهدها الدور الأكبر في رفع العقوبات عن سوريا.
اقتصاديا، الشراكة بين البلدين آخذة في التبلور أكثر فأكثر، الشرع نُقل عنه في الصحافة قوله إن سوريا لا ترغب في طلب المعونات والمساعدات بل تطلب الشراكة والاستثمارات، هذا الكلام الذي كلما كرره أزعج بعض الدول التي اعتادت أن يكون اقتصادها مبنيا على المعونات والهبات، إلا أنه فتح أمام سوريا أفقا جديدا.
أكد الشرع مرارا أنه يسعى لتصفير المشاكل والأزمات بين سوريا ودول المنطقة والعالم
في الأيام المقبلة سيزور الشرع الصين وبريطانيا، بعدما زار موسكو، وهناك تسريبات عن زيارة إلى واشنطن ولقاء مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، هي خطوات في الاتجاه الصحيح لإعادة إعمار سوريا ولكن أيضا لإعادة تموضعها على خارطة المنطقة والعالم، ولكن يبقى التحدي الأكبر هو الداخل السوري، فتحقيق رؤيا الاستقرار والتنمية تحتاج أولا إلى بلد آمن يقوم على حكم المؤسسات والقانون، وحل جميع الميليشيات وسحب السلاح من أيدي المجموعات المختلفة، وفتح باب الاستثمارات يحتاج إلى قوانين وتشريعات تحمي المستثمرين كما تحمي مصلحة سوريا، فالاستقرار السياسي هو ما سيحول كل هذه الفرص إلى واقع ملموس، وكل ذلك يجب أن يحصل بالتوازي مع الانفتاح الذي يبديه العالم على سوريا.
تحقيق رؤيا الاستقرار والتنمية تحتاج أولا إلى بلد آمن يقوم على حكم المؤسسات والقانون، وحل جميع الميليشيات وسحب السلاح من أيدي المجموعات المختلفة
استقرار سوريا حجر أساس باستقرار المنطقة، وإن كان من صورة توضح حجم التغير الحاصل في المنطقة بعد سقوط نظام الأسد، فكل ما علينا فعله هو أن نتذكر الحديث قبل أعوام عن مشروع إيران لإقامة "أوتوستراد" يربط بين طهران ودمشق مرورا ببغداد، الأوتوستراد الذي تحول إلى رمز لمشروع إيران التوسعي في المنطقة، وبين الحديث اليوم عن محادثات تجري بين الرياض ودمشق لإنشاء خط سكة حديد يربط الرياض بدمشق عبر الأردن.
هذا الطريق المرتبط بالتغيرات الجيوسياسية هو "رمز" لحجم التغير الحاصل في المنطقة، وهو مصلحة استراتيجية لكل من يرغب بالاستقرار والسلام والتنمية لكي يدعم استقرار سوريا كحجر أساس لاستقرار دول الجوار، فإذا ما نجحت عملية إعادة إعمار سوريا وتحقق الاستقرار في سوريا والمنطقة، فستكون العلاقة السورية-السعودية علاقة شراكة ونموذج تتحقق من خلالها رؤية 2030، وتستفيد منها المنطقة إذا ما قرر البعض وضع بعض المصالح والمشاعر الشخصية جانبا لصالح مشروع تكامل عربي قائم على احترام الاختلافات والتنوعات ويصب في مصلحة الاستقرار والتنمية.