من زنزانة بيروت إلى فندق طرابلس... "هانيبال" بديل البحث عن موسى الصدر

ماذا يعنى اليوم أن يعرض القضاء اللبناني إطلاق نجل القذافي مقابل ملايين الدولارات؟

رويترز
رويترز
أنصار "حركة أمل" الشيعية يشاركون في تجمع حاشد لإحياء الذكرى الخامسة والأربعين لاختفاء الإمام موسى الصدر، مؤسس حركة أمل، في بيروت، لبنان، 31 أغسطس 2023

من زنزانة بيروت إلى فندق طرابلس... "هانيبال" بديل البحث عن موسى الصدر

بعد نحو خمسة عقود على اختفاء الإمام الشيعي موسى الصدر، يعود اسمه إلى واجهة الأحداث من بوابة ابن غريمه القديم: نجل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. وكما يبدو فإن القضية تدخل مرحلة انفراج بين بيروت وطرابلس ما قد يؤثر إيجابيا على القضية وفق ما يؤكد لـ"المجلة" فريق الدفاع عن هانيبال القذافي. فقد وصل فريق حكومي ليبي إلى بيروت حاملا معه تحقيقات اعتبرت أنها إشارات جدية لحل هذا الملف المعقد الذي شكل على مدى سنوات أزمة سياسية وقضائية بين البلدين.

قبل هذه الزيارة، في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2025، قرر القضاء اللبناني الإفراج عن هانيبال القذافي بكفالة مالية بلغت 11 مليون دولار بعد احتجاز دام عشر سنوات، ما أعاد الملف الذي جمع بيروت والعاصمة الليبية طرابلس وطهران ودمشق إلى دائرة الضوء من جديد.

في هذا الإطار يعتبر المحامي شربل ميلاد الخوري، أحد أعضاء فريق الدفاع عن هانيبال القذافي أنه "سواء أثمرت المباحثات بين بيروت وطرابلس عن نتائج أم لا، فنحن مصرون على إلغاء الكفالة، لأن فرضها بعد عشر سنوات من الاعتقال دون أي مبرر قانوني يزيد ظلما على الظلم". وقال إنه "من ناحية منع السفر، أُشيع أن هناك نية لتحديد وجهته أو فرض ضوابط على سفره، لكن بالنسبة إلينا هذا خط أحمر. فور رفع القيود القضائية عنه، يكون هانيبال هو من يقرر بحريته وإرادته الكاملة الجهة التي يسافر إليها والمكان الذي يقيم فيه، دون أي شرط أو قيد. وهذا الأمر غير قابل للنقاش أو التفاوض أو التداول بأي شكل".

ولكن هل من علاقة للوفد الليبي بفريق الدفاع عن هانيبال؟ يقول الخوري: "من جهتنا لم نتواصل معهم، لأننا نعتبر هذا مسارا سياسيا بين دولتين، ولا دخل لـهانيبال القذافي بما يحصل به، فيما الملف بالنسبة إلينا قانوني بحت ولا نرغب في ربطه بأي تفاوض أو مسار دبلوماسي أو سياسي". بينما قال رئيس لجنة المتابعة في قضية الصدر القاضي حسن الشامي إن الوفد الليبي لم يناقش ملف هانيبال مع القضاة اللبنانيين، فيما تحدثت وسائل إعلام ليبية عن رفض بيروت تسليمه لوفد طرابلس.

عود على بدء

كان هانيبال، الذي لم يتجاوز الثالثة من عمره عند اختفاء الصدر عام 1978، يعيش لاجئا في دمشق مع زوجته اللبنانية ألين سكاف، حين اختُطف من منطقة الساحل السوري عام 2015 من قبل مجموعة يقودها النائب اللبناني السابق حسن يعقوب (نجل الشيخ محمد يعقوب، أحد مرافقي الصدر الذي اختطف معه، وكان من المفترض أن يتوكل حسن كمحام عن عائلة القذافي أمام المؤسسات المصرفية للحصول على أموال تمت مصادرتها بموجب العقوبات الدولية).

مصدر قضائي لبناني أكد أن "القضية القانونية ضد هانيبال كانت غطاء لنزاع سياسي-قضائي معقد"، بينما اعتبرت عائلة الصدر أن "الاعتراف الضمني من القذافي بأنه يمتلك معلومات، ثم رفضه تقديمها، يثبت أنه ليس مجرد شاهد بريء"

بعد نقل هانيبال إلى لبنان عبر الحدود لم يجد يعقوب من يساعده في القضية فاضطر لتسليمه لقوى الأمن الداخلي، حيث بدأ التحقيق معه ليوجه إليه القاضي زاهر حمادة تهمة حجب معلومات حول اختفاء الصدر، بحجة أنه قال خلال التحقيق إنه لن يدلي بتفاصيل إلا إذا أُطلق سراحه، وفق ما ينقل لـ"المجلة" مسؤول في حركة "أمل"، إلا أن فريق الدفاع عن هانيبال القذافي يؤكد عدم صحة هذه المعلومات مشيرا إلى تأكيده عدم تصريحه بذلك أبدا خلال التحقيق معه. ومنذ ذلك الحين، تحول ملفه من رهينة مختطف إلى موقوف بشكل رسمي حيث تقاطعت ملفات العدالة والتدخل السياسي.

مصدر قضائي لبناني أكد لـ"المجلة" أن "القضية القانونية ضد هانيبال كانت غطاء لنزاع سياسي-قضائي معقد"، بينما اعتبرت عائلة الصدر أن "الاعتراف الضمني من القذافي بأنه يمتلك معلومات، ثم رفضه تقديمها، يثبت أنه ليس مجرد شاهد بريء".

رويترز
الزعيم الليبي معمر القذافي في جامعة غانا في أكرا في 30 يونيو 2007.

أما عائلة القذافي فتتهرب من الحديث مباشرة عن الملف، وفي حديث مع "المجلة" قال أحد المقربين من العائلة إن حساسية الملف بعد طلب الكفالة المالية تتطلب الصمت لعدم تخريب ما يقوم به المحامون من محاولة لخفض قيمة الكفالة، حيث لم تتمكن العائلة من تأمينها كاملة "نظرا لظروفها المالية الصعبة التي تعيشها"، مشيرا إلى عدم امتلاكها المال بسبب العقوبات المفروضة دوليا والتي تمنعها من الحصول على ممتلكاتها من البنوك.

البدايات.. طرابلس - أغسطس 1978

الصحافي والسياسي اللبناني أحمد السويسي، الذي كان في ليبيا خلال احتفالات "الفاتح من سبتمبر" عام 1978، يروي لـ"المجلة" اللقاء الأخير مع الإمام موسى الصدر في فندق الشاطئ بطرابلس قبل ساعات من اختفائه: "خرج الإمام ترافقه حقائبه ومرافقاه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين. وخلال حديث جانبي معه بمشاركة وفيق الطيبي، قال الصدر بابتسامة حزينة: اللقاء مع القذافي لم يكن جيدا.. إخواننا هنا يفكرون بطريقة مختلفة".

كان الصدر، نموذجا شيعيا مستقلا، إذ أسّس حركة "أمل" في لبنان وسعى إلى إدماج الشيعة في الدولة والصيغة اللبنانية رافضا استخدامهم في الحرب الأهلية، أو فتح جبهة في الجنوب ضد إسرائيل

كان الصدر قد جاء إلى ليبيا مباشرة من الجزائر بعد زيارة للرئيس هواري بومدين، الذي شجعه على لقاء القذافي لتسوية "الخلافات الفكرية". لكن الصدر بدا متشائما، متحدثا عن "هوة عميقة يصعب ردمها". والخلافات الفكرية التي كانت بين الرجلين ترتبط بملفات دينية وكذلك برفض الصدر الدعم الذي يقدمه القذافي للمنظمات الفلسطينية واللبنانية التي تطلق النار على إسرائيل من جنوب لبنان ما يؤدي لردود إسرائيلية تدمر قرى الجنوبيين. وما أشعل الخلاف المباشر مع القذافي والقوى التي كان يمولها هو عمل الصدر مع لجنة من النواب الجنوبيين كانت تحمل برنامجا يطالب بمواجهة سلمية شيعية للسلاح الفلسطيني بجنوب لبنان.

بعد اللقاء مع السويسي والطيبي غادر الصدر الفندق إلى المطار لقضاء عيد الأضحى مع ابنته في باريس مرورا بمطار روما، واستغرب الطيبي أن مرافقي الصدر في السيارات من الليبيين ليسوا من موظفي المراسم المعتادين الذين يعرفهم.

وفي اليوم التالي، بث راديو الجزائر خبرا مقتضبا ولمرة واحدة عن "اختفاء الإمام موسى الصدر من فندق في روما بعد وصوله من طرابلس"، بينما كان من المفترض أن مروره في المطار الإيطالي هو "ترانزيت" لمدة ساعتين فقط، من دون دخول روما.

رويترز
هنيبال القذافي، نجل الزعيم الليبي معمر القذافي، في طرابلس، 30 يونيو 2010

لجنة تحقيق لبنانية أُرسلت لاحقا إلى طرابلس لم تجد ما يثبت مغادرته الأراضي الليبية، فيما نفت السلطات الإيطالية دخوله إلى روما أو تسجيل اسمه في أي رحلة قادمة إلى البلاد. وهكذا، بدأ الغموض الذي لم ينته.

هانيبال في بيروت

عام 2002 ارتبط هانيبال القذافي بعلاقة بعارضة الأزياء اللبنانية ألين سكاف، وتزوجا عام 2003، وعاش في بيروت لسنوات متنقلا بينها وبين العاصمة الليبية، من دون أن يقترب منه القضاء اللبناني أو أي من المطالبين بكشف وضع الصدر، وحينما طُرح داخل دوائر ضيقة في تلك المرحلة إمكانية توقيفه والتحقيق معه، رُفضت الفكرة من قبل عدد من كبار المسؤولين اللبنانيين على اعتبار أنه كان طفلا حين اختطاف الصدر، وأنه لا يمكن تحميله مسؤولية تصرفات أبيه.

وبعد سقوط النظام الليبي السابق عاش هانيبال في دمشق والساحل السوري كلاجئ سياسي بحماية بشار الأسد، حيث كان يدخل لبنان من وقت لآخر من دون أن يتعرض لأدنى تحقيق أو مساءلة، ولكن دخول حسن يعقوب على خط البحث عن تسوية مالية لعائلة معمر القذافي غيّر كل الوضع، ليختطفه ويقوم بتعذيبه والطلب منه تصوير فيديوهات هاجم في إحداها عائلة الصدر وقيادة حركة "أمل"، وفق تأكيد القضاء اللبناني.

الصمت الإيراني

كان الصدر، اللبناني الأصل والمولود في قم الإيرانية، يمثل نموذجا شيعيا مستقلا، إذ أسّس حركة "أمل" في لبنان وسعى إلى إدماج الشيعة في الدولة والصيغة اللبنانية رافضا استخدامهم في الحرب الأهلية، أو فتح جبهة في الجنوب ضد إسرائيل.

لكن بعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، فوجئ المقربون منه بصمت طهران بظل الخميني على عملية اختطافه، وبدلا من المطالبة بفتح تحقيق بقضيته، نشأت علاقات وثيقة بين النظام الإيراني الجديد ونظام القذافي؛ فيما زار آية الله أحمد جنتي طرابلس معلنا دعم طهران للثورة الليبية، الأمر الذي وضع علامات استفهام أمام مقربين من عائلة الصدر، وأهمها هل كان الرجل يشكل قلقا للملالي بسبب استقلاليته وعلاقاته العربية، وكذلك علاقاته مع شاه إيران في الأشهر الأخيرة لحكمه؟

منذ 1978 وحتى 2025، تنقل ملف موسى الصدر بين طرابلس وبيروت وطهران ودمشق، تتغير الأنظمة وتبقى الحقيقة غائبة

أما "حزب الله" فهو أيضا لم يتبن قضية الصدر منذ إنشائه منتصف ثمانينات القرن الماضي، وكانت صحيفة "الشرق الأوسط" نقلت عن شخصية سورية من النظام السابق قولها إن "الحزب" كان منفتحا على تسوية اقترحها القذافي الأب عام 2004 وحدد ثلاثة مطالب لإنجازها، أولها تسوية مالية بقيمة 200 مليون دولار لإنشاء مشاريع تنمية ورعاية اجتماعية باسم الصدر يديرها "حزب الله" مباشرة. وثانيها تزويد "حزب الله" بأسلحة، لا سيما الصواريخ المضادة للدروع والعربات، روسية الصنع. وثالثها اعتذار عام من القيادة الليبية عن اختفاء الصدر.

وثائقي "بي بي سي".. صورة تثير الجدل

في سبتمبر/أيلول الماضي، بثّت قناة "BBC" فيلما وثائقيا عرض صورة جانبية غير واضحة قال إنها لجثة موسى الصدر داخل مستشفى ليبي عام 2011، تزامنا مع سقوط نظام القذافي. لكن عائلة الصدر رفضت الرواية، ووصفتها بأنها "تشويه إعلامي يهدف إلى إقفال الملف بطريقة دعائية"، معتبرة أن الصورة مفبركة وأن الإمام "لم يُعثر عليه لا حيا ولا ميتا".

رويترز
سجن رومية، في لبنان، 12 يناير 2015

الوثائقي أعاد فتح الجدل حول إمكانية أن تكون جثة الصدر موجودة في ليبيا، فيما رأت مصادر قريبة لعائلة الصدر أن بث الفيلم جاء متزامنا مع مفاوضات الكفالة التي رافقت إطلاق هانيبال القذافي، وكأنه جزء من تهيئة الرأي العام لإنهاء الملف قضائيا.

منذ 1978 وحتى 2025، تنقل ملف موسى الصدر بين طرابلس وبيروت وطهران ودمشق، تتغير الأنظمة وتبقى الحقيقة غائبة. واليوم، حين يعرض القضاء اللبناني إطلاق نجل القذافي مقابل كفالة عالية جدا بملايين الدولارات، ويُعاد بث وثائقي غامض، وتواصل إيران صمتها الطويل، يبدو أن القضية لم تعد عن "اختفاء شخص"، بل عن ذاكرة جيل كامل اختُطف معه معنى العدالة في لبنان الذي أخفي فيه قسرا خلال الحرب الأهلية آلاف الأشخاص الذين لا يتذكرهم إلا أقرباؤهم.

font change