الأدب لا ينفك يتخلى عن الأدب

الأدب لا ينفك يتخلى عن الأدب

استمع إلى المقال دقيقة

في نهاية كتابه التخلي عن الأدب يقف عبد الفتاح كيليطو عند التحول الذي طرأ على أبي زيد السروجي الذي ظل خلال مقامات الحريري الخمسين يلقي خطابا وعظيا أمام جمهور يتأثر بما يسمعه منه فيغدق عليه العطايا. لا ينفك أبو زيد يمارس سلوك "الابتزاز" هذا بمحضر الراوي الحارث بن همام. في كل مقامة يسعى إلى تسخير أدبه لإغواء الناس والاستحواذ على ما يجودون به عليه تحت تأثير بلاغته، لكن الأمر ينتهي في سائر المناسبات باكتشاف خداعه من لدن ابن همام. وهكذا تقدم لنا المقامات الأدب مرادفا للخداع والتمويه، وكونه "مبنيا على الباطل" كما نعته أحد أكبر أعلامه.

يستمر الحال على هذا المنوال إلى أن نصل إلى المقامة الأخيرة التي تجري أحداثها في المسجد. يخاطب أبو زيد المصلين، كما هو دأبه، بنية خداعهم، ثم تماديا في الخداع يعترف بذنوبه أمامهم ويطلب منهم أن يدعوا له بالتوبة والمغفرة. يدخلون في لعبته دون أن يفطنوا لكيده ويرفعون أكف الضراعة راجين له التوبة، وفي هذه اللحظة تحدث المفاجأة، يضطرب أبو زيد ويرتجف وتدركه حالة غريبة. وبعد أن ينفض الجمع ويختلي بالراوي، يقول للحارث: "إن دعاء قومك مجاب [...] لقد قمت فيهم مقام المريب الخادع، ثم انقلبت منهم بقلب المنيب الخاشع".

توبة أبي زيد تعني تخليه عن الأدب. لم يعد يتنقل بين البلدان، عاد إلى موطنه، ولزم بيته لا يخرج منه إلا للذهاب إلى المسجد. "صار أبو زيد ذا الكرامات بعد أن كان ذا المقامات". لن يلتقي به الحارث بن همام مرة أخرى لأنه "تخلى عن الأدب"، ولم يعد ينتمي إليه.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة. أبو زيد السروجي يتوب، يتنكر للأدب، لكن هل يوافقه الحارث بن همام؟ لم يلمه كما كانت عادته في خاتمة كل مقامة، لكنه لم يؤيده أيضا. سيظل الحارث يروي ما سمع من أبي زيد، لا يرغب في التخلي عن الأدب الذي أنذر نفسه له.

يستخلص كيليطو: "تنتهي مقامات الحريري بالتخلي عن الأدب باعتباره باطل الأباطيل، وظاهريا بالاشمئزاز منه وكراهيته، لكن التخلي عن الأدب داخل في مجال الأدب، يندس فيه ويشكل أحد مواضيعه، ضمنيا أو صراحة. الحارث أقرب إلى ابن القارح منه إلى أبي زيد. هل يتصور ابن القارح تائبا؟ وأبو العلاء بالأحرى؟ والحريري مؤلف المقامات؟ لو كان الحريري أخذ بمذهب أبي زيد لما ألف الكتاب الذي أنشأه، ثم قضى ما تبقى من عمره يفسره ويجيز روايته".

يواصل الأدب طريقه "متخليا" عن أبي زيد الذي لم يدرك أن التخلي عن الأدب لا يتوقف على قرار من يساهمون في إبداعه، فهناك دوما رواة لن ينفكوا عن ترديد ما نقل إليهم، ومقلدون لن ييأسوا من استنساخ النموذج، بل حتى أولئك الذين يقرون بصعوبة منافسة الحريري في هذا المجال مثل الزمخشري، فإنهم لا يمتنعون عن نهج طريقه والسير على منواله. فرغم أن الزمخشري أقر أن لا أحد يمكنه منافسة الحريري، وبالأحرى تجاوزه، فإنه ألف خمسين مقامة، عدد مقامات الحريري، موضوعها الانقطاع عن الأدب، التوقف التام عنه، لكن الزمخشري سيمضي يقول إنه لن يخوض فيه، أعلن عن التقاعد لكنه لم ينقطع عن الكتابة، جعل من نبذه للأدب موضوعه، كل قوله وداع للأدب، وهكذا بابتعاده عن الأدب ظل في إطاره. فالتخلي عن الأدب داخل في مجال الأدب، يندس فيه ويشكل أحد مواضيعه، بل لعله سر استمراره.

التخلي عن الأدب" لا يتوقف على قرار من يساهمون في إبداعه، فهناك دوما رواة لن ينفكوا عن ترديد ما نقل إليهم، ومقلدون لن ييأسوا من استنساخ النموذج.

يذهب كيليطو في مقال آخر أبعد من ذلك، فيكتشف امتداد الحريري في الأدب المعاصر، بل في الأدب الأوروبي المعاصر، وهو يجد ذكرا له عند أحد رواد "الأوليبو"، أي تلك الجماعة من الكتاب التي تأسست في فرنسا سنة 1960 وشملت، إضافة إلى فيزيائيين وعلماء رياضيات، أدباء مرموقين من بينهم ريمون كونو صاحب رواية زازي في المترو، وإيتالو كالفينو صاحب رواية لو أن مسافرا في ليلة شتاء، وجورج بيريك صاحب الاختفاء وصاحب رواية الحياة دليل استعمال. سعت هذه الجماعة، شأنها شأن أصحاب المقامات، إلى البحث عن إمكانيات اللغة والتنقيب عن مدى احتمالاتها والاقتراب من حدودها القصوى، فأطلقت على نفسها اسم "أوليبو" (OULIPO) اختصارا لاسم "محترف الأدب الممكن Ouvroir de littérature potentielle

يقول كيليطو في تلك المقالة: "مما أثار انتباهي ودهشتي وأنا أقرأ رواية الحياة دليل استعمال أنني وجدت فيها، ويا للمفاجأة، إشارة صريحة إلى مقامات القاسم الحريري. والعجيب في الأمر أنه لم يعد يذكر حتى عند الأدباء العرب، وإن ذكر فللإزراء به والحط من شأنه واتهامه بأنه تسبب في انحطاط الأدب العربي، فإذا به على بغتة ودون سابق إنذار يغدو من الآباء المؤسسين للأوليبو".

ليس غريبا أن يبعث الحريري بين هؤلاء، لأنهم بالضبط بسعيهم الدؤوب إلى البحث عن إمكانيات اللغة والتنقيب عن مدى احتمالاتها والاقتراب من حدودها القصوى جعلوا الكتابة تروي بروايتها مغامرات اللغة مغامرات الأدب في الآن ذاته. كان رولان بارت قد بين فيما سبق أن ما يميز العمل الأدبي هو كونه يقوم بما يمكن أن نطلق عليه "محاكاة اللغات"، إنه يغرق في "لانهائية اللغة". الممارسة الأدبية محاكاة واستنساخ لا متناه. يقول: "إن إحدى أكثر الروايات الفرنسية بعثا على الحيرة هي رواية بوفار وبيكوشي لفلوبير، لأنها تجسد الإشكاليات جميعها وتكثفها. وهي رواية استنساخ، بل إن رمز الاستنساخ موجود في الرواية ذاتها، ما دام بوفار وبيكوشي نساخين، وما داما يعودان في نهاية الرواية إلى النسخ، وما دامت الرواية كلها نوعا من الميدان الذي تتبارى فيه اللغات المقلدة. ذاك هو دور النسخ، ما دامت اللغات تقلد بعضها بعضا، وما دامت اللغة لا تنطوي على عمق أصيل تلقائي، وما دام الإنسان دوما ملتقى عدة قواعد لا يدرك أبدا عمقها. يكاد الأدب يكون هذه التجربة بالضبط".

خلخلة الذات وخلخلة اللغة، تلك هي تجربة الكتابة، إنها في نهاية الأمر تجربة هجر وتحرر وتخلص وتخلٍّ لا متناهٍ ، سعي حثيث نحو فقدان ما نملك.

هذا الالتصاق بما يسميه بارت "دنيا اللغة" يجعل الأدب كما يقول "إما ألا يكون، وإما أن يستمر ويبقى". ذلك ما سبق لبلانشو أن لاحظه عندما كتب: "الأدب يسير نحو ذاته، أي نحو ماهيته التي هي اختفاؤه".

قيل هذا حتى عن الفلسفة التي ما تنفك تتخطى ذاتها، وربما يصح قوله على مناحي الفكر وأشكال الكتابة جميعها بما هي تفكيك وتقويض وتخلص مما يتملكنا وما نملكه. كتب رولان بارت: "الأدب في رأيي، وإن كنت أفضل أن أتحدث عن الكتابة أو عن النص، الأدب يظهر في عالم لغوي، أي ما أطلقت عليه في مناسبة أخرى دنيا اللغة، وأعني عالم اللغات الذي نعيش فيه. الكتابة تعني أن نضع لغتنا وإنتاجنا الخاص للغة ضمن لانهائية اللغة. الأدب عندي هو نموذج في الخلخلة، لهذا أفضل أن أسميه كتابة، هو دوما خلخلة، أي ممارسة تهدف إلى زعزعة الذات الفاعلة وتقويضها".

خلخلة الذات وخلخلة اللغة، تلك هي تجربة الكتابة، إنها في نهاية الأمر تجربة هجر وتحرر وتخلص وتخلٍّ لا متناهٍ، سعي حثيث نحو فقدان ما نملك.

font change

مقالات ذات صلة