بعد مضي ما يقرب من الشهر على رفض جان بول سارتر جائزة نوبل للآداب سنة 1964، نشر جيل دولوز مقالا في مجلة "فنون" Arts تحت عنوان "كان معلمي".
لا يهمنا من مقال الفيلسوف الفرنسي حماسته إزاء موقف "معلمه"، ونعته رفض الجائزة بأنه "خبر سار"، كما لا تعنينا أساسا سخريته من أولئك الذين حاولوا "حمل سارتر على التناقض، وتذكيره بأن نجاحه، على كل حال، إنما كان وسيبقى بورجوازيا"، مشيرين إلى "أن رفضه ليس أمرا عاقلا ولا راشدا"، مقترحين عليه "أن يحذو حذو من يقبلون-وهم-يرفضون، حتى لو كلف ذلك وضع المال ضمن أعمال خيرية"، كما أننا لن نقف مطولا عند حماسة دولوز الشديدة لكون معلمه "لم يقبل-وهو-يرفض"، مما دفعه إلى أن يسجل مهللا: "وأخيرا، ها هو من لا يحاول أن يبرر أنها مفارقة لذيذة للكاتب، والمفكر حر، في أن يقبل التشريفات والتمثيلات العمومية".
المفكر الحر
ما يهمنا في نص دولوز أساسا تمييزه بين ما يطلق عليه "المعلم" أو "المفكر الحر"، وما يدعوه "الأستاذ العمومي". يبدأ المقال بهذا التمييز: "ليس معلمونا هم الأساتذة العموميون فحسب، على ما بنا من حاجة ماسة إلى أساتذة. إذ حين نبلغ سن الرجال، يكون معلمونا أولئك الذين يبهروننا بجدة جذرية، أولئك الذين يعرفون كيف يبدعون تقنية فنية أو أدبية، ويجدون طرق التفكير المناسبة لحداثتنا، أعني لصعوباتنا كما لحماستنا المتدفقة".
بينما يكتفي الأساتذة العموميون، بما هم أساتذة، بأن يفتحوا لنا أبواب "المعرفة" الفلسفية، ويحيطونا علما بتياراتها المتشعبة، ومدارسها المتعددة، وقضاياها الشائكة، فإن المعلمين الأحرار يعلموننا كل جديد، يعلموننا طرقا جديدة في التفكير، إنهم أولئك الذين يواكبون كل تحديث، بل يساهمون في إرساء أسس التحديث نفسه. هم معلمون كبار لا بما يعرفونه، بل ربما بما لا يعرفون. إنهم أولئك الذين يهزونك ويدفعونك إلى التفكير معهم والتفكير بهم، فلا تكف عن العودة اللامتناهية إلى نصوصهم التي تخرج منها كل مرة على غير النحو الذي دخلت به.
يسوق دولوز نموذجين عن هؤلاء المعلمين والأساتذة: نموذج سارتر نفسه، ثم نموذج ميرلوبونتي: لا جدال في مقدرة صاحب "فينومينولوجيا الإدراك" و"المرئي واللامرئي" وكفاءته كأستاذ، تلك الكفاءة التي خولته التدريس في الكوليج دو فرانس، لا أحد يمكنه أن ينكر الدور الذي أداه في تنشئة أجيال من فلاسفة فرنسا، والمكانة التي تبوأها في انفتاحه على هوسرل ومحاورة الماركسيين. لكن، "مهما كانت أعمال ميرلوبونتي لامعة وعميقة، فهي كانت تحمل صبغة الأستاذ، كما كانت تابعة لأعمال سارتر من أوجه عدة".



