لم تكن زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن حدثا عابرا في تاريخ العلاقات السعودية–الأميركية، بل محطة كاشفة عن شكل الشرق الأوسط المقبل، وعن حجم التحول الذي صنعته المملكة العربية السعودية في موقعها ودورها خلال أقل من عقد. ومن لحظة الاستقبال المهيب في البيت الأبيض، إلى توقيع اتفاقيات الدفاع، وفتح آفاق استثمارية غير مسبوقة، بدت العاصمة الأميركية في حالة إصغاء حقيقي لما تحمله الرياض من رؤية ومطالب ومعادلات جديدة.
المشهد الافتتاحي أمام البيت الأبيض حمل رمزيته الواضحة، الرئيس دونالد ترمب يتقدم لاستقبال ولي العهد، ويقدمه في لقطة تداولتها وسائل الإعلام بوصفها تعبيرا عن احترام شخصي، واعتراف سياسي بثقل الشريك القادم من الرياض. فذلك الاستقبال لم يكن إجراء مجاملة، بل رسالة للداخل الأميركي والخارج الدولي بأن العلاقة مع السعودية لم تعد ملفا ثنائيا تقليديا، ولكنها محور ترتبط به قضايا الطاقة، والدفاع، والاستثمار، واستقرار الشرق الأوسط بأكمله.
على الطاولة، اتسع نطاق الملفات من الأمن إلى الاقتصاد فالتقنية، فيما كانت اتفاقية الدفاع الاستراتيجي تتويجا لمسار طويل من التعاون العسكري، وأعطت إطارا مؤسسيا لعلاقة أمنية ممتدة لتسعة عقود، مع تصور أوضح لمستقبلها، والحديث هنا لا يقتصر على شراء منظومات سلاح متقدمة، بل على نقل معرفة، وتوطين صناعات، ورفع مساهمة الصناعات العسكرية في الاقتصاد السعودي ضمن مستهدفات "رؤية 2030"، حتى تصل نسبة التوطين إلى نصف الإنفاق الدفاعي خلال السنوات المقبلة.
في الجانب الاقتصادي، ظهرت ملامح شراكة نوعية أكثر نضجا، من خلال الحديث عن فرص شراكة تصل إلى تريليون دولار، واتفاقيات أعلن عنها بأكثر من 275 مليارا، يؤكد أن السعودية تتعامل مع السوق الأميركية باعتبارها ساحة استثمارية كبرى، لا ساحة مجاملة سياسية، وهنا جاء تصريح ولي العهد في المكتب البيضاوي واضحا وحاسما عندما قال إن الاستثمارات السعودية في أميركا لا تهدف إلى إرضاء واشنطن أو الرئيس ترمب، وإنما تنطلق من رؤية لفرص حقيقية تعود بالنفع على السعودية، مع تجنب أي استثمار في فرص وهمية، وهذا الطرح وضع النقاش في إطاره الصحيح: السعودية تتصرف كقوة اقتصادية تبحث عن أفضل عائد لمواطنيها، لا كدولة "تشتري رضا" حليف دولي.
هذا البعد الاستثماري يرتبط مباشرة بأهداف داخلية، منها تنويع الاقتصاد، وخلق وظائف نوعية، ونقل التقنية، وبناء قدرات وطنية في قطاعات المستقبل: (الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، التعدين، والصناعات عالية القيمة)، وبالإضافة إلى الاتفاقيات الموقعة في مجال الطاقة، وتوسيع استثمارات شركة "أرامكو" في التكرير والغاز الطبيعي المسال داخل الولايات المتحدة، تعزز أمن الطاقة العالمي من جهة، وتمنح الاقتصاد السعودي أدوات إضافية للتأثير في مستقبل أسواق الطاقة من جهة أخرى، وكذلك في ملف الذكاء الاصطناعي، تتقدم السعودية بخطوات واضحة لتكون مركزا إقليميا للبنية التحتية الرقمية ومراكز البيانات، مستفيدة من شراكات مع كبرى الشركات الأميركية، ومن برامج ابتعاث وتدريب تستهدف الجامعات ومراكز البحث الرائدة.
سياسيا، عكست الزيارة أن الرياض تمسك بأكثر من خيط في وقت واحد... في ملف غزة والقضية الفلسطينية، كان موقف ولي العهد امتدادا لما طرحته السعودية خلال السنوات الماضية والمتمثل في أنه "لا تطبيع مع إسرائيل من دون مسار حقيقي قابل للتنفيذ نحو دولة فلسطينية"، وهذا الشرط لم يعد مجرد موقف سعودي فقط، بل تحول إلى عنصر أساسي في فهم واشنطن لأي ترتيبات إقليمية، خاصة بعد أن قادت السعودية جهدا واسعا في الأمم المتحدة وفي العواصم المؤثرة لدعم الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتثبيت حل الدولتين كخيار وحيد للاستقرار طويل المدى.
جاء تصريح ولي العهد في المكتب البيضاوي واضحا وحاسما عندما قال إن الاستثمارات السعودية في أميركا لا تهدف إلى إرضاء واشنطن أو الرئيس ترمب، وإنما تنطلق من رؤية لفرص حقيقية تعود بالنفع على السعودية
وفيما يتعلق بسوريا، سبق أن تبنت الرياض مقاربة مختلفة هدفت إلى إعادة هذا البلد إلى مسار التعافي، عبر دعم رفع العقوبات ودمج الحكومة السورية الجديدة في محيطها العربي والدولي، الأمر الذي لقي تجاوبا أميركيا.
وخلال الزيارة الحالية برز ملف السودان باعتباره اختبارا جديدا للدور السعودي في إدارة الأزمات الإقليمية، حيث عرض ولي العهد أمام الرئيس ترمب تفاصيل المشهد السوداني وتعقيداته الإنسانية والسياسية، وشدد على أهمية الدفع نحو تسوية توقف الانهيار وتحافظ على وحدة البلاد، وعبّر الرئيس الأميركي في المقابل عن اهتمامه بهذا الملف، واستعداده للتعامل معه كأولوية في أجندة إدارته خلال المرحلة المقبلة، في إشارة إلى أثر الشرح السعودي في إعادة ترتيب أولويات واشنطن.
هذه الصورة المتكاملة تعطي الزيارة بعدها الحقيقي، فهي شراكة استراتيجية لا تنحصر في الدفاع والاستثمار، بل تتوسع لتشمل صياغة مقاربة مشتركة لملفات الشرق الأوسط، حيث تدخل الرياض هذه الملفات برؤية ثابتة، تدعم الاستقرار، وتمنع التفكك، وتراهن على الحلول السياسية التي تحمي الدول والشعوب معا، وتبتعد عن مغامرات الميليشيات وعن صفقات قصيرة العمر.
في الداخل السعودي، انعكست الزيارة في مستوى الفخر الشعبي بالمنجزات التي تمت، وتلخصت في أن كل ما جرى في واشنطن هدفه في النهاية خدمة المواطن السعودي ومصالحه، كما أعطت انطباعا واضحا عن جيل جديد من القيادة يتعامل مع العالم بعقلية استثمارية واستراتيجية في آن واحد.
هذه الزيارة يمكن النظر إليها باعتبارها محطة ضمن مسار أطول، بدأت ملامحه مع إطلاق "رؤية 2030"، وتكرست مع تنامي دور السعودية كلاعب مركزي في ملفات الطاقة والاقتصاد والسياسة الإقليمية، لكنها أيضا لحظة توضح أن الرياض باتت تجلس إلى طاولة القرار الدولي وهي تحمل مشروعا متماسكا، لا قائمة مطالب متفرقة، مشروعا يتعامل مع الولايات المتحدة كشريك أساسي، ومع ذلك يضع الشروط ويدافع عن القضايا العربية، ويصر على أن تكون فلسطين وسوريا والسودان جزءا من أي حديث جدي عن مستقبل المنطقة.
بهذا المعنى، لا تختزل أهمية زيارة واشنطن في صور الاستقبال أو أرقام الصفقات، وإنما في الرسالة الأعمق: السعودية تقود منطقا جديدا للعلاقة بين الشرق الأوسط والعالم، منطقا يربط بين الاستثمار والتنمية والأمن، ويجعل من شراكتها مع الولايات المتحدة نقطة ارتكاز في رسم خريطة أكثر استقرارا وواقعية للسنوات المقبلة.