"الإخوان" في زمن ترمب... مأزق "السيولة الأيديولوجية" واختبار البقاء

لقد استفادت الجماعة طويلا مما يمكن تسميته المنطقة الرمادية في ظل الفراغ المعرفي لدى بعض المؤسسات الغربية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
تظاهرة رفعت فيها أعلام جماعة "الإخوان المسلمين" والأردن وأحزاب سياسية، ضد "صفقة القرن" التي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في العاصمة الأردنية عمان في 21 يونيو 2019

"الإخوان" في زمن ترمب... مأزق "السيولة الأيديولوجية" واختبار البقاء

لم يكن التوقيع الذي خطّه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يوم الأحد الماضي، على مذكرة الأمن القومي التي تطلق مسار تصنيف جماعة "الإخوان المسلمين" منظمة إرهابية، مجرد إجراء بيروقراطي عقابي، ولا هو رد فعل سياسي معزول عن سياق التحولات الدولية الكبرى. بل نحن أمام لحظة تاريخية مفصلية يمكن وصفها سوسيولوجياً وسياسياً بانحسار المناطق الرمادية. هذا القرار، الذي يستهدف تصنيف فروع محددة للجماعة كمنظمات إرهابية أجنبية، يمثل تغيراً جوهرياً في المقاربة الأميركية التقليدية التي سادت لعقود، والتي كانت تميز بين التنظير الفكري والعنف المادي.

اليوم، تقرر واشنطن عبر هذا المسار القانوني والسياسي، إعادة تعريف علاقتها بجماعات الإسلام السياسي، معتبرة أن الازدواجية الخطابية التي ميزت أدبيات الجماعة، بين خطاب موجه للغرب يركز على الحقوق والديمقراطية، وآخر داخلي يركز على مفاهيم الحاكمية والمفاصلة، لم تعد مقبولة ضمن معايير الأمن القومي الأميركي.

سبق أن طرحنا في سلسلة مقالات بـ"المجلة" تساؤلات تحليلية حول مستقبل الجماعة وآليات عملها؛ فناقشنا نوستالجيا الخلافة كمحرك عاطفي ونفسي للأعضاء، وفككنا إشكالية الرهان على الانتخابات الأميركية بين الديمقراطيين والجمهوريين، وتساءلنا مؤخرا: هل يعود "الإخوان" للعمل السري؟ واليوم، يأتي تحرك البيت الأبيض ليقدم معطى جديدا وحاسما يربط هذه الخيوط ببعضها البعض، ويضع الجماعة أمام خيارات وجودية صعبة، قد تدفعها نحو إعادة هيكلة جذرية لنشاطها، وربما العودة إلى آليات العمل السري التي ميزت بداياتها.

سوسيولوجيا المنطقة الرمادية: تحولات النظرة الغربية

لفهم أبعاد التحول الذي يحدثه هذا القرار، يجب أولا تفكيك البيئة التي سمحت لـ"الإخوان" بالعمل في الغرب خلال العقود الماضية. لقد استفادت الجماعة طويلا مما يمكن تسميته المنطقة الرمادية. في ظل الفراغ المعرفي لدى بعض المؤسسات الغربية حول طبيعة حركات الإسلام السياسي، قدمت الجماعة نفسها كبديل معتدل أو حائط صد في مواجهة "السلفية الجهادية" وتنظيمات مثل "القاعدة" و"داعش". كانت السردية القائمة تعتمد على فكرة أن احتواء الجماعات التي تتبنى العمل السياسي، وإن كانت ذات مرجعية دينية محافظة، هو الخيار الأمثل لتجفيف منابع العنف الراديكالي.

تاريخياً وسوسيولوجياً، عندما تواجه الحركات الأيديولوجية الشمولية ضغوطا وجودية وحصارا قانونيا، فإنها تلجأ إلى تفعيل ميكانيزمات دفاعية للحفاظ على تماسكها

هذه الفرضية هي التي حكمت دوائر صنع القرار الغربي لسنوات، والتي رأت في الإسلام السياسي شريكا وظيفيا محتملا. لكن التوجه الحالي لإدارة ترمب يشير إلى مراجعة جذرية لهذه الفرضية. الوثائق والتحقيقات التي استندت إليها الإجراءات الجديدة تشير إلى قناعة متزايدة لدى الأجهزة الأمنية الأميركية بوجود ترابط فكري، وربما تنظيمي، بين ما يطرحه "الإخوان" وجماعات العنف. التحول هنا يكمن في النظر للجماعة ليس كبديل للتطرف، بل كجزء من البيئة الحاضنة التي قد تسهل الانتقال من التدين التقليدي إلى تبني أفكار راديكالية مثل الولاء والبراء والحاكمية، مما يهيئ الأرضية النفسية والفكرية للانخراط في العنف متى توفرت الظروف الموضوعية لذلك.

سقوط الرهان على المؤسسات الأميركية

في مقال سابق بعنوان: "الإسلاميون في أميركا: رهان على ترمب أم هاريس؟"، أشرنا إلى القراءة التي تبناها تيار الإسلام السياسي للمشهد الأميركي، والتي راهنت بشكل كبير على الحماية المؤسسية. كان الاعتقاد السائد لدى قيادات الجماعة وأنصارها في الغرب أن منظومة الدولة العميقة، وشبكة العلاقات العامة داخل أروقة واشنطن، بالإضافة إلى القنوات المفتوحة مع تيارات داخل الحزب الديمقراطي والمراكز البحثية، ستشكل كابحا قانونيا وسياسيا يمنع أي رئيس من اتخاذ إجراءات تصنيف شاملة.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب في المكتب البيضاوي للبيت الأبيض في واشنطن العاصمة في 17 نوفمبر 2025.

إلا أن الخطوة الأخيرة للرئيس ترمب أثبتت عدم دقة هذه الحسابات. يبدو أن الجماعة لم تلتقط بدقة حجم التحولات في المزاج العام الغربي، والأميركي تحديدا. هناك تيار عريض، يتجاوز الانقسام الحزبي التقليدي، بات ينظر لظاهرة الإسلام السياسي ليس فقط كتهديد أمني مباشر، بل كتحدٍ لقيم المجتمع الليبرالي وللأمن المجتمعي بشكل عام. هذا التحول في الرؤية ينقل الملف من خانة مكافحة الإرهاب بمعناها الضيق، إلى خانة أوسع تتعلق بحماية الهوية والقيم الدستورية.

ومع ذلك، لا يمكن قراءة هذا التصنيف بمعزل عن المناخ السوسيو-سياسي المشحون الذي تعيشه الولايات المتحدة مؤخرا. فلا يمكن إغفال موجة الكراهية المتصاعدة ضد المهاجرين والمسلمين بشكل عام، والتي تجلت في مظاهر عدة، منها الاعتراضات الإعلامية والشعبوية الحادة على مسألة رفع الأذان في مدن مثل هامترامك وديربورن في ولاية ميتشيغن. هذا المناخ العدائي يقدم للجماعة- بشكل غير مقصود- طوق نجاة دعائيا، إذ يمنحها الفرصة لإعادة تأطير الإجراءات العقابية الموجهة ضد هيكلها التنظيمي بوصفها جزءا من حرب شاملة على الإسلام والمسلمين. هذه السردية، التي تخلط بين الأمني والهوياتي، قد تجد صدى لدى قطاعات من المسلمين المستشعرين للخطر، مما يعقّد مهمة الفصل بين الجماعة والمجتمع المسلم.

حتمية العودة إلى التنظيم الخاص: الديناميات الدفاعية

في تحليل سابق لنا حول إجراءات فرنسا والأردن، طرحنا فرضية العودة للسرية كسيناريو محتمل. اليوم، ومع دخول الولايات المتحدة بثقلها القانوني والمالي على خط التصنيف، يتحول هذا السيناريو من مجرد احتمال إلى مسار شبه حتمي تفرضه غريزة البقاء التنظيمي. تاريخياً وسوسيولوجياً، عندما تواجه الحركات الأيديولوجية الشمولية ضغوطا وجودية وحصارا قانونيا، فإنها تلجأ إلى تفعيل ميكانيزمات دفاعية للحفاظ على تماسكها.

على المستوى الجيوسياسي، يعكس قرار ترمب تقاربا ملحوظا في الرؤى بين واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط

المتوقع الآن هو أن تلجأ الجماعة إلى استراتيجيات تكيفية تعيد إنتاج ما يعرف في أدبياتها بـ"فقه المحنة". وتشمل هذه الاستراتيجيات: الانكماش الهيكلي عبر التحول التدريجي من الهياكل التنظيمية الكبيرة والعلنية إلى نظام الخلايا الصغيرة أو الأسر المغلقة لتقليل احتمالات الرصد والاختراق الأمني، والبحث عن تمويل بديل بعيدا عن القنوات المالية الرسمية والجمعيات المسجلة التي ستخضع لرقابة صارمة، والاعتماد على الاقتصاد غير الرسمي أو استخدام العملات المشفرة. كما قد تلجأ القيادة إلى عمليات فلترة تنظيمية لاستبعاد العناصر المترددة والاحتفاظ بالنواة الصلبة الأكثر ولاءً أيديولوجياً.

بين الأممية والواقع القانوني: أزمة الهوية

لطالما اعتمد الخطاب الإخواني على مفاهيم عابرة للحدود تقوم على الشحن العاطفي من خلال الاستدعاء الانتقائي للتاريخ، بحيث يتم تصوير ماضي المسلمين بأنه ذو صورة وردية خالصة. وأبرز الأسباب التي يطرحها "الإخوان" لقوة وعزة الإسلام والمسلمين في الماضي هو "الخلافة"، التي تشكل حجر الزاوية في السردية الإخوانية الأقرب للنوستالجيا. تلك السردية التي لا تعترف بالحدود التي رسمها المستعمر، بل تركّز على الرابطة الدينية التي تتجاوز الانتماء الوطني. هذا الخطاب، الذي كان يجد مساحة للتعبير عنه في الغرب تحت مظلة التعددية الثقافية وحرية الرأي، يصطدم اليوم بواقع قانوني جديد. فقرار تصنيف الجماعة، أو فروع منها، كمنظمات إرهابية، يحول الدعوة لأفكار مثل إسقاط الحدود أو تكفير الأنظمة من مجرد رأي سياسي إلى مادة قد تُستخدم كدليل إدانة بدعم الإرهاب أو التحريض عليه.

رويترز
مسجد الجمعية الإسلامية الأميركية في ديربورن، ميتشيغن، الولايات المتحدة في 4 فبراير 2024.

هذه الأزمة الهوياتية لا تتجلى فقط في الانكماش، بل في التخبط في التحالفات السياسية بحثا عن مظلة جامعة مع بقية المكونات المسلمة، بغض النظر عن طبيعة خلفيتها، أو حتى توجهاتها سواء كانت إسلامية أو علمانية. ولعل أبرز تجليات هذا التناقض هو احتفاء أوساط الجماعة بفوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك. المفارقة السوسيولوجية هنا صارخة، إذ تغاضت القواعد الإخوانية عن الهوية المذهبية لممداني المنحدر من خلفية شيعية، وقفزت فوق هويته الأيديولوجية الاشتراكية التي تتقاطع مع أقصى اليسار وتتنافر جذريا مع أدبيات الإسلام السياسي المحافظة.

هذا الاحتفاء يكشف عن حالة من السيولة الأيديولوجية، حيث يصبح المعيار الوحيد هو البحث عن حليف سياسي يتناقض مع قيم الحزب الجمهوري والرئيس ترمب، حتى وإن كان هذا الحليف يتبنى منظومة قيمية لا تتناغم مع المرتكزات الفكرية للجماعة. إنها مرحلة التحالف مع النقيض التي تعكس عمق المأزق الوجودي أكثر مما تعكس مرونة سياسية مدروسة. ويعكس مثل هذا التوجه الجانب البرغماتي عند "الإخوان"، فهم أنفسهم الذين يمجّدون تركيا التي تقيم علاقات وثيقة مع إسرائيل ويهاجمون دولا مثل مصر والإمارات لإقامة علاقات معها، فالمبدأية غائبة لصالح البرغماتية.

الجيوسياسة الجديدة: تقارب الرؤى

على المستوى الجيوسياسي، يعكس قرار ترمب تقاربا ملحوظا في الرؤى بين واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط. لسنوات، كان هناك تباين في تعريف التهديد الإرهابي بين الولايات المتحدة وبعض حلفائها العرب مثل السعودية ومصر والإمارات. فبينما كانت واشنطن تركز غالبا على محاربة التنظيمات التي تمارس العنف المباشر، كان حلفاؤها يرون ضرورة استهداف الحاضنة الفكرية والسياسية التي تفرخ هذا العنف.

قرار تصنيف "الإخوان المسلمين" يمثل علامة فارقة في تاريخ التعامل مع حركات الإسلام السياسي. إنه يشير إلى نهاية مرحلة الغموض البنّاء وبداية مرحلة تتسم بالوضوح والمفاصلة

القرار الأميركي الأخير يمثل ردما لهذه الفجوة، واعترافا ضمنيا بوجاهة المقاربة التي تتبناها هذه الدول، والتي تقوم على فكرة أن مواجهة الإرهاب تتطلب تفكيك بنيته الأيديولوجية والتنظيمية، وليس فقط العسكرية. هذا التناغم المستجد سيؤدي بلا شك إلى تضييق الخناق على حركة الجماعة دوليا، مما سيصعّب تنقل القيادات وتنسيق الأنشطة عبر الحدود، ويضعف قدرة التنظيم الدولي على العمل بفعالية.

ماذا بعد؟

وعلى صعيد استشراف المآلات، لا بد من الإشارة إلى التداعيات الأمنية المحتملة لهذا التحول. إن الضغط الشديد على الهياكل التنظيمية، وانسداد قنوات العمل السياسي العلني، قد يولد حالة من الإحباط الاستراتيجي لدى القواعد الشبابية المشحونة أيديولوجياً. هذا الوضع قد يدفع ببعض الأفراد، المتأثرين بأدبيات سيد قطب والمودودي، نحو تبني خيارات عنيفة بشكل فردي.

قد نشهد تحولا في نمط التهديد من عمل منظم إلى عنف لا مركزي أو ما يعرف بظاهرة الذئاب المنفردة. فعندما تتفكك المركزية التنظيمية، قد تتناثر الشظايا بشكل يصعب التنبؤ به. ومع ذلك، فإن هذا الخطر- على جديته- يظل في نظر صانع القرار الأميركي وحلفائه أقل كلفة استراتيجية على المدى الطويل من السماح لتنظيمات شمولية بالتمدد داخل المؤسسات والمجتمعات واستغلال الأدوات الديمقراطية لتقويضها من الداخل.

إن قرار تصنيف "الإخوان المسلمين" يمثل علامة فارقة في تاريخ التعامل مع حركات الإسلام السياسي. إنه يشير إلى نهاية مرحلة الغموض البنّاء وبداية مرحلة تتسم بالوضوح والمفاصلة، حيث تُختبر فيها قدرة الدولة الوطنية على فرض سيادتها ومعاييرها القانونية في مواجهة مشاريع عابرة للحدود.

font change

مقالات ذات صلة