لم يعد صراع المفكرين في عصرنا الحالي امتدادا لذلك الاختلاف الخلاق الذي ازدهرت به الحواضر العربية قديما، إنما تحول إلى حالة استهلاك فكري تغذيه "السوشال ميديا"، حيث ينتصر الصوت الأعلى على الحجة الأمتن، وتتداخل العاطفة مع الدين، ويتحول الرأي إلى معركة جماهيرية لا تنتج معرفة بقدر ما تربك الوعي العام.
هذا المشهد الحديث ليس بجديد ولا مستغرب، فالتراث الإسلامي مليء بأمثاله من الفتن التي تنامت بسبب تضارب خطابات الصراع وغياب المرجعية، بدءا من أحداث صدر الإسلام، مرورا بما رواه الطبري وابن كثير في أمهات الكتب عن تأثير المنابر على تشكيل المواقف. التاريخ إذن يكرر نفسه، لكن أدواته هي التي اختلفت، فبعد أن كانت الكلمة على المنبر تثير جموعا، غدا اليوم منشور على التواصل الاجتماعي قادرا على تغيير اتجاهات الرأي.
ومع تصاعد هذه الاستقطابات الحادة وتعدد أساليبها، يجد العربي نفسه في مواجهة سردية غربية ضخمت ذاتها وقللت مكانته، بل وأغفلت إسهامات علمية وفكرية عربية شكلت أساس النهضة الأوروبية، وتحديدا بعد سقوط طليطلة عام 1085م، ثم الأندلس عام 1492م، وهذا العام تحديدا شهد تسريع أوروبا آليات نقل المعرفة عبر آلاف الكتب العربية إلى مراكز الترجمة في صقلية وطليطلة، لتغدو تلك المخطوطات هي الشرارة الأولى للثورة العلمية التي يتباهى بها الغرب اليوم.
عاشت الحضارة العربية الإسلامية في القرون الوسطى ذروة عطائها العلمي، ففي بغداد ودمشق وقرطبة، ازدهرت علوم الفلك والطب والرياضيات والبصريات، في الوقت الذي كانت تعيش فيه أوروبا مراحل ما عُرف بـ"العصور المظلمة" الممتدة من القرن الخامس حتى أواخر القرن العاشر. يكفي استحضار مفكرين وعلماء عرب أسسوا نواة علوم قائمة إلى اليوم، كابن الهيثم، واضع قواعد المنهج العلمي التجريبي، ومؤسس علم البصريات الحديث في كتابه "المناظر"، والخوارزمي الذي صاغ علم الجبر وقدم الخوارزميات التي استندت إليها برمجة الحاسوب. وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، والبيروني الذي وضع أساس علم قياس محيط الأرض واختلاف خطوط الطول.
هذه الأسماء وغيرها ليست جزءا من تاريخ المفكرين العرب بالمعنى الاحتفالي، بل هي أعمدة حقيقية قامت عليها العلوم الحديثة التي يفاخر بها الغرب اليوم. وبمجرد استعادتنا لها من كتب التراث العربي ستكشف أمامنا حقيقة واحدة: أن العربي ظل قادرا على الوصول إلى العالمية حينما تكاملت له البيئة العلمية مع الشخصية القادرة على الإبداع والمغامرة، حتى وهو في أزمنة خالية من أهم الأدوات. ما نحتاجه اليوم إذن ليس إنتاج أمثلة جديدة فحسب، بل إعادة قراءة تلك النماذج التي تثبت أن العالم لم يصل إلينا بل نحن من وصل إليه أولا.
2
العربي ظل قادرا على الوصول إلى العالمية حينما تكاملت له البيئة العلمية مع الشخصية القادرة على الإبداع والمغامرة، حتى وهو في أزمنة خالية من أهم الأدوات
مع كل هذا، ومن قبيل الإنصاف، لا يمكن إنكار وجود حضارة أوروبية قبل صراعها مع العالم الإسلامي ومفكريه. فالإغريق والرومان تركوا إرثا فلسفيا وقانونيا مؤثرا، وبرزت في العصور الوسطى نماذج محدودة من الحواضر الفكرية مثل الأديرة التي احتفظت بالمخطوطات القديمة. غير أن هذا الإرث ظل مفككا ضعيف التأثير، ولم يشكل منظومة معرفية يمكن أن تقود الى نهضة كاملة، خصوصا في ظل الاضطرابات السياسية التي عاشتها أوروبا بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، وانتشار الحروب الإقطاعية والمجاعات والأوبئة. ولكن مع بدايات القرن الحادي عشر حدث التحول الجذري عبر احتكاكها المباشر بالحضارة الإسلامية، سواء عبر الحروب الصليبية أو بعد سقوط الأندلس، حيث تدفقت إليها آلاف الكتب العربية في شتى العلوم، ولولا هذا الاحتكاك لما تمكنت أوروبا ولا الغرب من بناء مشروعهما الحديث على الصورة التي نعرفها، والتي يتفاخران بها منذ قرون.
إن الصراعات الفكرية الكبرى في التاريخ الإسلامي لم تولد من فراغ، بل نشأت من تضارب الآراء، وتغول العاطفة على العقل، واحتدام الخطاب المؤثر على العامة أكثر من رسوخ العلم، حيث ظلت الكلمة لقرون طويلة سلاح المتحدث وقدرته على استمالة الناس، بل وتعدى خطرها السيف. وإذا ما رجعنا إلى كتب التراث من الطبري إلى ابن كثير، ومن قبلهما ابن سعد ومناهجه، لوجدنا أن اختلاف المفكرين العرب اليوم هو امتداد لذلك التنوع المعرفي الذي ظل يثري مراحل الازدهار العلمي في تاريخنا، بل وتحول في كثير من الأحيان إلى حالة صدام استنزف طاقة المجتمع، وأربك وعيه، خصوصا في المجالين الديني والإبداع الأدبي. فبدل أن تكون الآراء مسارات متعددة تقود إلى معرفة أوسع، أصبحت ساحات مواجهة يختلط فيها الشخصي بالفكري، وتضيع فيها القيمة خلف ضجيج الجدال.
ووفق جميع المرجعيات والمصادر، لم يكن العربي في تاريخه القديم مجرد ساكن صحراء أو راحل يتنقل مع القافلة، بل كان حاملا لرسالة، وباحثا عن معرفة، ومغامرا يمتلك شجاعة أوصلته إلى أقصى الأرض. أما صورة "البدوي" التي حاول الغرب أو بعض العرب المأجورين لاحقا اختزالها في البساطة أو التخلف، فتتناقض تماما مع النماذج التي قدمها التاريخ الإسلامي والعربي في ذروة انتشاره وتأثيره العلمي والجغرافي، في زمن كانت فيه البادية مدرسة في الفطرة، والمدينة مدرسة في التدوين، ومع اتحاد الاثنتين صنع العربي أثرا عالميا لا يزال يُدرّس حتى اليوم.
اللحظة الفارقة التي نعيشها في عصرنا الحالي يجب ألا تكون مجرد وقت عابر، أو رحلة صراع طويلة الأمد، بل يجب أن تتحول إلى فرصة للكشف عن تراثنا
إن اللحظة الفارقة التي نعيشها في عصرنا الحالي يجب ألا تكون مجرد وقت عابر، أو رحلة صراع طويلة الأمد، بل يجب أن تتحول إلى فرصة للكشف عن تراثنا، عبر اعتماد مركز عربي مهمته توحيد الجهود لاستخراج ما طمرته الأرض العربية، أو سلبته يد الاستعمار، أو خبأته القصور، والمتاحف التاريخية. إضافة إلى تفعيل قدراتنا الفكرية، وحماية وعي مجتمعنا من التشويش والتلاعب الإعلامي الحديث.
علينا إعادة قراءة التاريخ الإسلامي من مخطوطه الأصلي بفكر واع، بعيدا من مصادره الإلكترونية الزائفة، علّنا نتعلم من نماذج البدوي الذي وصل إلى العالم، ومن العلماء العرب والمسلمين الذين تركوا بصمتهم في كل مجال، ومن المبتعثين العرب والمسلمين الذين أثبتوا لجامعات ومؤسسات ومراكز دولية عديدة أن النهضة ممكنة رغم التحديات، وأن الرعيل العربي الأول وإن سُلِب وزوّر علمه وفكره، إلا أن جينات إبداعه ما زالت على قيد الحياة.