هنالك أمور نعتاد عليها ونألفها، وهي في الواقع مدعاة للاستغراب، بل الاستهجان. من ذلك مثلا أن الكتاب الرجال عندنا يسألون دائما عن المرأة ودورها في كتاباتهم، وكأنها مجرد موضوع من موضوعاتهم.
من حيث المبدأ، لا بأس في أن تكون المرأة موضوعا لكتابات الرجال، وكذلك لا بأس في أن يكون الرجل موضوعا لكتابات النساء. ولكن الغريب واللامنطقي أن ينظر الرجال إلى المرأة وكأنها ليست سوى موضوع، أو بالأحرى ليست سوى عنصر من العناصر التي يحتاج إليها الرجل في الكتابة وفي غيرها. أليس في هذه النظرة قدر كبير من ازدراء المرأة؟ أليس فيها تكريس لعدم التكافؤ بينها وبين الرجل؟
في المقابلات الصحافية التي تجرى مع الكتاب الرجال، تطرح أسئلة كالآتية: ما حضور المرأة في كتاباتك؟ ما دورها في حياتك؟ ماذا تعني لك المرأة؟ وقد يسأل الكاتب (الرجل) عن تعدد النساء لديه، وعن أثر هذا التعدد في كتاباته (الإبداعية). أنا هنا لا أعترض على السؤال، أي سؤال، وإنما أود أن أشير إلى الخلفية الثقافية والاجتماعية التي تقف وراء الأسئلة التي أوردت أمثلة منها. في هذه الخلفية ما يدل على قناعة بأن المرأة ليست ندا للرجل، وإنما هي مساعد أو حافز له، مثير (أو مثيرة) له... إلخ. ونادرا ما تسأل المرأة الكاتبة عن الرجل كموضوع من موضوعاتها. وكأن الذي يصح من الرجل في اتجاه المرأة لا يصح من المرأة في اتجاه الرجل. فالتكافؤ والمساواة بين الرجل والمرأة لم يستتبا حتى في الأدب، وهو الذي ينبغي له أن يعمل أكثر من غيره على الإقرار بإمكاناتهما على السواء، وعلى تجاوز الفوارق المفتعلة بينهما. أقول ذلك مع ملاحظتي أن الواقع الأدبي الراهن يشهد على تقدم المرأة، وعلى قدرتها في مجاراة الرجل، وأحيانا في التفوق عليه.
وإذا كانت مساهمات النساء في حقول الثقافة، عبر تاريخنا العربي كله، أقل بكثير من مساهمات الرجال، فهذا يعود إلى الوضعية الاجتماعية التي حددها الرجل للمرأة. بل يعود إلى السلطة الأبوية أو الذكورية التي تحكمت في شؤون المجتمع بعامة، وفي شؤون المرأة بخاصة. فالمسؤولية في تخلف المرأة عن الرجل ثقافيا هي مسؤولية الرجل، الذي لم يتح فرصا للمرأة كما أتاح لنفسه. وفي أدبنا العربي، القديم خصوصا، ليس للمرأة حضور كبير أو مكانة مرموقة. ولنقل إن مساهمات النساء في هذا الأدب هي أهون خطرا أو شأنا، من مساهمات الرجال. ولنأخذ الشعر، الذي هو فن العرب الأول، والذي يأتي في طليعة أدبنا العربي، ولنتكلم قليلا على مساهمات النساء فيه.
إذا كانت مساهمات النساء في حقول الثقافة، عبر التاريخ العربي كله، أقل بكثير من مساهمات الرجال، فهذا يعود إلى الوضعية الاجتماعية التي حددها الرجل للمرأة
في القديم من هذا الشعر، وبالتحديد في الشعر الجاهلي، عندما يذكر الشعراء تذكر الخنساء من بينهم. تذكر وحدها تقريبا. وهي من الناحية الفنية ليست في مستوى امرئ القيس أو لبيد أو النابغة أو الأعشى أو زهير... إلخ. ولا يذكر عادة لها من الشعر سوى قصيدتها في رثاء أخيها صخر. كأنها تذكر بين الشعراء الجاهليين لكي يكون للمرأة تمثيل في الشعر الجاهلي. كأنها تمنح أسبابا تخفيفية لكونها امرأة. وإذا ما تقدمنا في الزمن، من القديم إلى الحديث، لرأينا أن النساء اللواتي يذكرن بين الأعلام في تراثنا الشعري لم يقدمن مساهمات جليلة، وإنما تنسب إلى الواحدة منهن أبيات قليلة، وقد تكون النسبة غير صحيحة، بل هي في الغالب مشكوك فيها. هل نذكر على سبيل المثال ولادة بنت المستكفي، أو رابعة العدوية، أو ليلى الأخيلية، أو علية بنت المهدي...أو غيرهن؟ وهل نقول إن الأشعار المنسوبة إليهن ترقى إلى مرتبة الأشعار التي نظمها الأعلام المرموقون من الشعراء الرجال؟
وإذا ما وصلنا إلى الحديث والمعاصر من أدبنا العربي، وجعلنا الكلام على الشعر وغيره من أنواع الأدب، كالرواية والقصة والمسرحية... ربما نقول إن المساهمات النسائية قد تقدمت أو تحسنت بالمقارنة مع مساهمات الرجال؟ ربما، ولكن ليس على نحو يجعل المرأة ندا للرجل. فالنساء الأديبات ما زلن يمنحن أسبابا تخفيفية لكي يذكرن في الدراسات أو الأنطولوجيات، وذلك على سبيل الممالأة في الغالب، وأحيانا قليلة على سبيل الإقرار بالكفاءة والتميز.
إزاء هذه الصورة التي قدمناها، قد يقول قائل: إن المرأة بطبيعتها ليست مؤهلة، كالرجل، للقيام بأعمال معينة، منها الكتابة الأدبية، أو الفلسفية، أو التاريخية... أو غير ذلك. ولكن، إزاء هذا القول، يمكننا طرح السؤال الآتي: هل المرأة هي المسؤولة عما تعرضت له عبر الزمن من تضييق واضطهاد وإقصاء؟
المرأة لا تحتاج إلى تعاطف من الرجل، أو إلى أسباب تخفيفية في تقويم مساهماتها الإبداعية، فهي لا تقل عن الرجل من ناحية المؤهلات أو الكفاءات
هذا السؤال يتطلب دراسات وتحليلات طويلة عريضة، وأنا في هذه المقالة لا أرمي إلى شيء منها. وإنما أكتفي، على سبيل الاقتراح الذي لا يحتاج إلى مسوغات كثيرة، بالدعوة إلى أن يكف الرجل (الكاتب) عن النظر إلى المرأة وكأنها مجرد موضوع من موضوعاته، وإلى أن يقتنع بأنها ند له، خصوصا عندما تتاح لها الفرص التي تتاح له.
في الخلاصة، أود القول إن المرأة لا تحتاج إلى تعاطف من الرجل، أو إلى أسباب تخفيفية في تقويم مساهماتها الإبداعية، فهي لا تقل عن الرجل من ناحية المؤهلات أو الكفاءات. وفي النقد أو التقويم الأدبي لا ينبغي الأخذ إلا بالاعتبارات الفنية، دون تصنيف للأدب يجعل بعضه نسائيا وبعضه الآخر رجاليا.