زارت المراسلة والروائية الفرنسية دلفين مينوي أخيرا وللمرة الأولى مدينة داريا السورية، مسقط رأس كتابها "مهربو الكتب في داريا"، الذي حمل عنوانا فرعيا آخر هو "المكتبة السرية في داريا"، وهو الاسم الذي كان شباب داريا الذين أسسوا المكتبة السرية، يعلنون عنه على وسائل التواصل الاجتماعي في سنوات الحصار على المدينة.
كانت الكاتبة قطعت على نفسها عهدا بأن تزور داريا بعد سقوط الأسد، لكي تعيد الحكاية إلى أهلها، وتضع الكتاب بيدها في المكتبة.
ذات يوم، في أحد أيام الحصار الذي ضربه نظام الأسد على داريا بين 2012 و2016، نشرت مجموعة من الشباب على وسائل التواصل الاجتماعي عن إنشائهم مكتبة سرية أنقذت كتبها من تحت الدمار في مدينة داريا. فالتقطت مينوي الحكاية وتواصلت معهم عبر "سكايب"، ومنذ ذلك اليوم وهي تعتبر الحكاية حكايتها أيضا.
تقول الحكاية إن هؤلاء الشباب، وبعد سنة على بدء حصار داريا، قرروا إنقاذ الكتب التي هبطت مع حطام بيوتها عن رفوف مكتباتها. إنقاذ كتاب بالنسبة إليهم هو كإنقاذ روح، كإنقاذ ذاكرة، فعل مقاومة سلمية حرة، كي يتصالح الإنسان مع ذاته. هكذا فكر أكثر من أربعين شابا بقوا في مدينتهم، شقوا طريقا ثالثا للنجاة، لم يهاجروا ولم يحملوا السلاح، اجترحوا مصيرا آخر: تأسيس مكتبة للقراءة في أقسى الظروف وأحلكها.
لم تأت هذه الكتب من فراغ. فالمدينة التي حوصرت، ودمر تسعون في المئة من منازلها، وهجر ثمانون في المئة من أهلها، كانت بيوتها ملأى بالكتب والمعرفة والضوء، وكانت المكتبة ركنا من أركان البيت كما المطبخ والحديقة والشرفة. كانت داريا سباقة في صياغة أشكال المجتمع المدني. وما ورود غياث مطر ورفاقه سوى ضوء ساطع في هذا البناء المدني السلمي.
تحت أنقاض البيوت التي غاب عنها أهلها كانت الكتب لا تزال على قيد الحياة. فجمعوا خلال أشهر أكثر من خمسة عشر ألف مجلد وكتاب. وفي قبو في بناء مهدم عميق لا يصله ضوء النهار، استطاع أن يبتعد عن أصوات القصف ما استطاع، أسسوا المكتبة، رفعوا الرفوف وبنوا الطاولات للمطالعة والكراسي والدواوين للجلوس المريح لمن يرغب في قضاء وقت أطول.
أرشفوا العناوين والمواضيع، ثم من أجل عودة الكتب إلى أهلها سجلوا داخل غلاف كل كتاب عنوان واسم صاحب البيت الذي أنقذ الكتاب تحت أنقاضه، بما يشبه دائرة نفوس للكتب.
أسسوا نظاما داخليا للمكتبة، استعارة الكتب، بشرط إعادتها في موعد محدد، وفرضوا الهدوء في حال المطالعة في القبو. واشتغلوا على إحصائية أكثر الكتب التي تطلب أو تستعار. لم يتركوا تفصيلا صغيرا إلا وفكروا به. كانت فسحة الحياة العجيبة هذه وفتح نوافذها على الآخر تحت أهوال الحصار، هي خيارهم.
جمعوا خلال أشهر أكثر من خمسة عشر ألف مجلد وكتاب. وفي قبو في بناء مهدم أسسوا المكتبة
تحت القصف والبراميل والقنص والجوع وانقطاع الكهرباء وانعدام سبل الحياة الطبيعية، عاشت حكاية المكتبة. كان هذا السلوك هو حقيقة المجتمع المدني السوري الذي اتهم آنذاك بأنه البيئة الحاضنة لـ"داعش".
كانت الكتب الأكثر قراءة بحسب أرشيفهم هي "الأمير الصغير"، و"ألف ليلة وليلة"، و"مصباح علاء الدين" (لعله يستطيع أن يحضر الطعام في تلك المجاعة المفروضة)، و"الخيميائي" وغيرها.
خلال الحصار كانوا يتنقلون من قبو إلى قبو، ويرسلون صورهم للعالم. لكن بعد اجتياح الجيش للمدينة في 2016، هدمت المكتبة وحرقت وسرقت. ظهرت بعض الكتب في سوق شهيرة سميت "سوق الحرامية"، قرب قلعة دمشق، وقعت عيون بعض أصدقاء أصحاب الكتب على أسماء أصحابهم المدونة في الصفحة الأولى، فاشتروها. وتريد الحكاية أن تقول إن هذه الكتب ذهبت إلى أصحابها في منافيهم.
عادت دلفين مينوي إلى داريا، والتقت أمجد الذي كان عمره عشر سنوات في 2012، وصار حارس المكتبة بعد ترحيل رفاقه الذين خرجوا في الحافلات الخضراء باتجاه الشمال، ومنهم من أكمل طريقه إلى مناف أخرى.
استقبل أمجد الذي صار عمره الآن 26 عاما، الكاتبة التي عادت لترى للمرة الأولى بأم العين أطلال المكتبة التي كانت رأتها افتراضيا لسنوات طويلة وكتبت عنها. من هناك، من داريا، تواصلت مع أصدقائها مؤسسي المكتبة في منافيهم عبر تطبيق "واتساب". لقد تبادلوا الأماكن. التقيتها في باريس منذ أيام، أخبرتني أنها تواصلت معهم، هي في داريا وهم في فرنسا،
لم يعودوا لأنهم لا يمتلكون حاليا وثائق عودة. وأخبرتني أنهم قرروا معا إعادة إحياء المكتبة. إعادة إحياء أسلحة البناء الشامل كما تسمي هي المكتبة.
اختير المكان فوق الأرض، وتعهدت منظمة "مكتبات بلا حدود" مع أطراف ثقافية أخرى تمويل إنشاء المكتبة. وقد أفضت لي بفرح أن الافتتاح سيكون في شهر مارس/آذار 2026 ذكرى الثورة السورية.
لا ضير من جمع الكتب بدافع الافتتان بها، فالكتب صبورة وستنتظر طويلا حتى نصبح جاهزين لقراءتها
لا بد أن يخطر على بال المرء في هذا السياق، كتاب "تاريخ القراءة"، لألبرتو مانغويل الذي كانت الكتب نوافذه إلى العالم. وكانت المكتبة بالنسبة إليه هي المكان الذي يحرر الخيال. وكان يعتبر أنه من الحكمة جمع الكتب التي في مقدورنا جمع الحكمة منها، كما فعل المأمون في "بيت الحكمة". ولا ضير من جمع الكتب بدافع الافتتان بها، فالكتب صبورة وستنتظر طويلا حتى نصبح جاهزين لقراءتها.