الاستقلال الاستراتيجي الهندي... والموازنة بين موسكو وواشنطن

من اللافت أن تصريحات المسؤولين الروس والهنود تجنبت الإشارة إلى الضغوط الأميركية الممارسة على الهند

رويترز
رويترز
رجل على دراجة امام صورتين لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نيودلهي في 4 ديسمبر

الاستقلال الاستراتيجي الهندي... والموازنة بين موسكو وواشنطن

أكدت نتائج زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الهند إصرار نيودلهي على مبدأ "الاستقلال الاستراتيجي" في علاقاتها مع القوى العظمى على أساس "الهند أولا" ضمن عالم متعدد الأقطاب.

وفي زيارته الأولى لنيودلهي منذ بداية الحرب على أوكرانيا، حظي بوتين بحفاوة كبيرة. وحرص رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي على استقباله في المطار، واصطحبه بسيارته إلى مقر إقامته لعقد اجتماع في أجواء غير رسمية. وفي اليوم التالي عقد الزعيمان اجتماعا ثنائيا وآخر بمشاركة وفدي البلدين، كما شاركا في منتدى اقتصادي لرجال الأعمال الروس والهنود. وركزت بنود الإعلان المشترك بين البلدين في ختام الزيارة على تطوير العلاقات في مجالات الاقتصاد والتجارة والطاقة ومن ضمنها الطاقة الذرية والتسليح. كما وقّع البلدان على 29 اتفاقا ومذكرة تعاون لتمتين العلاقات الثنائية القوية منذ الحقبة السوفياتية.

وفيما ركزت تصريحات بوتين ومودي على قضايا التعاون الاقتصادي، ورفع التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار في أسرع وقت، فإن قضايا الدفاع والأمن لم تكن غائبة عن طاولة المفاوضات، وتم الإعلان قبيل وأثناء الزيارة عن عدد من الاتفاقات المهمة. وأكد بوتين أن بلاده مصدر موثوق للطاقة وأنها ستواصل تزويد الهند بكل حاجتها. وفي مؤشر إلى رغبة الهند بزيادة صادراتها إلى روسيا، والتخفيف من الخلل الكبير في الميزان التجاري، أشار مودي إلى أن بلاده تعد من أهم منتجي الأدوية في العالم، وامتدح تقدم بلاده في عدد من الصناعات الأخرى.

ضاعف ترمب الرسوم الجمركية على الهند لتصل إلى 50 في المئة لمعاقبتها على شراء النفط من روسيا، وضغط على نيودلهي لشراء المزيد من الأسلحة الأميركية

وفيما سمحت الزيارة لروسيا بدحض ما يروج له الغرب عن عزلتها، منحت الزيارة والاتفاقات الهند أوراق قوة إضافية في مفاوضاتها المتواصلة مع الولايات المتحدة لإبرام اتفاق تجاري.

في المقابل، بعث الاستقبال المميز لبوتين، والنتائج المعلنة عن تعميق التعاون في جميع المجالات مع روسيا، رسالة هندية قوية لإدارة الرئيس دونالد ترمب مفادها استمرار الهند على خيار "الاستقلال الاستراتيجي" في العلاقات مع القوى العالمية. وتمثل نتائج الزيارة تحديا هنديا جديدا لإدارة ترامب التي من غير المستبعد أن تذهب إلى تصعيد إضافي مع نيودلهي، بعدما أظهرت سابقا استياء واضحا من التعاون العسكري الروسي الهندي، وزيادة الصادرات النفطية الروسية إلى الهند. وعلى خلفية وصول العلاقات بين إدارة ترمب ونيودلهي إلى أدنى مستوى في تاريخ العلاقات بين البلدين بعد الحرب القصيرة بين الهند وباكستان في مايو/أيار الماضي، وتقارب واشنطن مع إسلام آباد، ضاعف ترمب الرسوم الجمركية على الهند لتصل إلى 50 في المئة لمعاقبتها على شراء النفط من روسيا، وضغط على نيودلهي لشراء المزيد من الأسلحة الأميركية.

وتتهم واشنطن الهند بدعم روسيا في حربها على أوكرانيا عبر زيادة مشترياتها من النفط الروسي. بيد أن الهند تبنت موقفا حذرا تجاه الحرب في أوكرانيا، ودعت إلى وقف الحرب عن طريق التفاوض، لكنها رفضت في الوقت ذاته إدانة موسكو، وحرصت على تمتين العلاقات معها. وامتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة على القرارات التي تدين الحرب.

سبوتنيك/ رويترز
الرئيس الروسي متوسطا رئيسة الهند دروبادي مورمو ورئيس الوزراء ناريندرا مودي اثناء مراسم الاستقبال الرسمي في نيودلهي في 5 ديسمبر

وفيما تراهن روسيا على استمرار تجارة النفط مع الهند المستفيدة بدورها من الأسعار الرخيصة للخام الروسي، فإن الهند مجبرة على الموازنة بين حاجتها إلى النفط الخام الرخيص، ورغبتها في تجنب الرسوم والعقوبات الأميركية.

ولم تكن الهند تاريخيا مستوردا كبيرا للنفط الروسي، ولم تتجاوز حصتها من صادرات روسيا النفطية 2.5 في المئة قبل الحرب الروسية على أوكرانيا. وبعد الحرب في 2022، أصبحت الهند أكبر مشترٍ للنفط الروسي المنقول بحرا .

وحسب تقرير لمركز دراسات الطاقة والهواء النظيف في 13 ديسمبر/كانون الأول، فإن الصين احتلت الشهر الماضي المرتبة الأولى في وجهات صادرات النفط الروسي، بواقع 47 في المئة تلتها الهند بنحو 38 في المئة بفارق واسع عن تركيا والاتحاد الأوروبي اللذين تقاسما المركز الثالث بنحو 6 في المئة لكل منهما.

وفي مؤشر إلى رغبة البلدين في استغلال الزيارة لإعطاء دفعة للتعاون في مجالات تتجاوز الطاقة والأسلحة، شارك مودي وبوتين في منتدى أعمال الجمعة الماضي لجذب الشركات الخاصة. ودعا بوتين ومودي إلى رفع حجم التجارة الثنائية من مستواها الحالي البالغ 68 مليار دولار سنويا إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030، وتحسين أنظمة تسوية المعاملات بعملتيهما المحليتين، وأشار بوتين إلى أن 96 في المئة من التجارة الثنائية بين البلدين تسوى بالعملات المحلية.

وتمنح زيادة حجم التبادل التجاري بالعملات المحلية موسكو فرصة لشراء بضائع هندية تدفع ثمنها بالروبية الهندية الواردة من مبيعات النفط للشركات الهندية. وافتتح "في تي بي" ثاني أكبر مصرف في روسيا فرعا له في نيودلهي على هامش الزيارة، ويأمل الروس في أن يساهم افتتاح فرع المصرف في تعزيز التجارة الثنائية والحسابات بين شركات البلدين عبر أنظمة تحويل بديلة عن نظام "سويفت".

ورغم نمو التبادل التجاري باضطراد منذ بداية الحرب فإن الميزان التجاري مختل بقوة لصالح روسيا، فحسب بيان العام المالي الماضي صدرت روسيا للهند نحو 60.8 مليار دولار، فيما استوردت منها بما قيمته 4.2 مليار دولار من الأدوية والأرز والشاي وغيرها.

رغم انفتاح موسكو على تزويد الهند بالأسلحة المطلوبة، فإن إتمام صفقات جديدة يمكن أن يتعطل

وارتفع حجم التجارة الثنائية بينهما إلى 68 مليار دولار أميركي بنهاية مارس/آذار 2025، مقارنة بـ8.1 مليار دولار أميركي فقط في عام 2020. ويعود الارتفاع الكبير إلى زيادة الهند الحادة في مشترياتها من النفط الروسي المخفّض. وقد أدى ذلك إلى ترجيح كفة الميزان بشكل كبير لصالح روسيا، وهو أمر يسعى مودي إلى تصحيحه.
وفي مسعى لزيادة فرص وصول مُصدّريها المتضررين من الرسوم الجمركية الأميركية إلى السوق الروسية، تأمل الهند في زيادة صادراتها من المنتجات البحرية والسلع الغذائية، إضافة إلى التقنيات والملابس وغيرها. ورغم آمال الهند فإن الولوج إلى السوق الروسية لن يكون سهلا بالنسبة لها. فالسلع المحلية والصينية متاحة على نطاق واسع وبأسعار تنافسية، مما يترك قائمة ضيقة جدا من المنتجات القابلة للتسويق بالنسبة للمصدرين الهنود. 

الدفاع


يعد التسليح من أهم مجالات التعاون التقليدية بين البلدين منذ القرن الماضي، لكن السنوات الأخيرة شهدت تراجعا. وحسب تقرير معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام واصلت حصة روسيا من المشتريات الدفاعية الهندية تراجعها من الذروة في الفترة ما بين 2010 و2015 حين هيمنت روسيا على 72 في المئة من محفظة المشتريات الدفاعية، وحسب المعهد فإن واردت الهند من الأسلحة الروسية تراجعت بين عامي 2020 و2024 إلى 36 في المئة من المشتريات الكلية. وزادت الهند اعتمادها على الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل في مجال التسليح، ولم توقع أي اتفاق تسليح كبير مع روسيا في السنوات الأخيرة. 
ورغم التراجع، الناتج إلى حد كبير عن محاولة الهند تنويع محفظة دفاعها وتعزيز التصنيع المحلي، فإن الكثير من منصات الدفاع الهندية تعتمد بشكل كبير منظومات "إس-400" الروسية. ويستخدم الكثير من أسراب سلاح الجو الهندي طائرات "ميغ 29"، و"سوخوي 30". 
وذكرت تقارير أن الهند ترغب في شراء أنظمة "إس-500" المُطوّرة وطائرة "سو-57" المقاتلة من الجيل الخامس. والأرجح أن دروس الصراع القصير مع باكستان الربيع الماضي دفعت الهند إلى زيادة التعاون العسكري مع روسيا. 
ورغم انفتاح موسكو على تزويد الهند بالأسلحة المطلوبة، فإن إتمام صفقات جديدة يمكن أن يتعطل. وتواجه روسيا نقصا في المكونات الأساسية لصناعة منظومات الدفاع الجوي والطائرات بسبب العقوبات الغربية والحرب في أوكرانيا. وأفادت التقارير بتأجيل الموعد النهائي لتسليم بعض وحدات نظام "إس-400" إلى عام 2026. 

أدت التعبئة الجزئية لـ300 ألف جندي احتياطي في عام 2022 إلى نزوح جماعي للشباب خوفا من التجنيد الإجباري ما زاد من حدة الأزمة

وإضافة إلى التعاون في مجال الطيران، والدفاع الجوي، يسعى البلدان إلى تطوير التعاون في مجال البحرية. ونقلت "بلومبيرغ" يوم الخميس الماضي عن مصادر مطلعة أن الهند وافقت على دفع ملياري دولار لاستئجار غواصة تعمل بالطاقة النووية من روسيا، على أن تستلم الهند الغواصة في 2028. وذكرت المصادر التي وصفتها "بلومبيرغ" بالمطلعة أن محادثات استئجار الغواصة الهجومية من روسيا تعثرت على مر السنين بسبب مفاوضات الأسعار. وفي وقت لاحق، أوضحت الحكومة الهندية أن العقد تم توقيعه في مارس 2019، لكن التسليم تأخر، ومن المقرر الآن وصول السفينة في عام 2028. وحسب مصادر "بلومبيرغ" فإن روسيا اشترطت عدم استخدام الغواصة الهجومية الروسية في الحرب. 

سبوتنيك/ رويترز
رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الروسي فلاديمر بوتين قبيل اجتماعهما في نيودلهي في 5 ديسمبر

وبعيدا عن رد فعل الولايات المتحدة وأوروبا من زيادة التعاون العسكري بين روسيا والهند، فإن تزويد الهند بأسلحة متطورة يثير حفيظة الصين، ويمكن أن تتضرر العلاقات الروسية-الصينية في حال تطوير مشترك روسي-هندي لبعض أنواع الأسلحة المتقدمة. 

العمالة الهندية


ووقَّع الزعيمان اتفاقية لمكافحة الهجرة غير الشرعية، وتعزيز فرص العمل لمواطني كل دولة لدى الدولة الأخرى. قال مودي في ختام الزيارة إن "لدى الهند إمكانية تصدير كوادر بشرية ذات كفاءة رفيعة في مجالات الصناعة وغيرها. وعند الحديث عن الأولويات الديموغرافية في روسيا يمكننا السماح لمواطنينا بتعلم اللغة الروسية وأن يساعدوا في ازدهار البلدين".
ومن الواضح أن الاتفاقية تهدف أساسا إلى جذب مزيد من العمال الهنود إلى روسيا. وعمليا، بدأت بعض الشركات الروسية الاستعانة بالعمال والخبراء الهنود في بعض المجالات لتعويض العمالة من منطقة آسيا الوسطى التي تراجع حجمها بشدة بعد العملية الإرهابية في "كروكوس سيتي هول" في موسكو ربيع 2024 وما تلاها من حملة على مواطني هذه البلدان ذات الغالبية المسلمة. 
ويعزى انفتاح روسيا على العمالة الهندية إلى النقص الحاد في العمالة. وأدت التعبئة الجزئية لـ300 ألف جندي احتياطي في عام 2022 إلى نزوح جماعي للشباب خوفا من التجنيد الإجباري ما زاد من حدة الأزمة. ووفقا لتقديرات وزارة العمل الروسية، من المتوقع أن تشهد البلاد عجزا قدره 3.1 مليون عامل بحلول عام 2030. وتسعى الشركات الروسية للحصول على عمالة مدربة تقنيا. وعلى عكس مواطني آسيا الوسطى، يرتبط الهنود بعقد مع صاحب عمل واحد وفي منطقة واحدة، ولا يتمتعون بحرية تغيير وظائفهم بشكل متكرر سعيا وراء أجر أعلى.

ويمكن أن تساهم زيادة حجم العمالة الهندية في تصحيح اختلال التجارة البينية، نظرا لأنها تفتح ممرا جديدا للتحويلات المالية من روسيا إلى الهند، ويخفف من ضغوط البطالة المحلية، ويوسّع مشاركة الهند في مشروعات في الشرق الأقصى الروسي والقطب الشمالي. 
ومن اللافت أن تصريحات المسؤولين الروس والهنود تجنبت الإشارة إلى الضغوط الأميركية الممارسة على الهند من أجل تقليص تعاونها مع روسيا في مجالي الطاقة والدفاع على وجه الخصوص. بيد أن نتائج الزيارة قد تقوض مساعي مودي في الموازنة في علاقات بلاده مع روسيا والولايات المتحدة. وتستفيد الهند من الحسومات الكبيرة على أسعار النفط الروسي، وتوفر روسيا سوقا جديدة للهند وتساعدها على تعزيز دفاعاتها بعد الصراع القصير مع باكستان، وتسعى إلى استمرار "الشراكة الاستراتيجية الخاصة والمتميزة" مع موسكو. وفي الوقت نفسه، تسعى الهند إلى إصلاح علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة، وإبرام اتفاق تجاري، والحصول على إعفاء من الرسوم الجمركية القاسية البالغة 50 في المئة على بضائعها. كما تتوافق الهند مع سياسات الولايات المتحدة لتوجيه ضغوط على الصين. 

رغم الاتفاقات والأجواء الإيجابية التي رافقت زيارة بوتين، فإن النتائج العملية تعتمد بشكل كبير على طبيعة رد إدارة ترمب

ورغم الاتفاقات والأجواء الإيجابية التي رافقت زيارة بوتين، فإن النتائج العملية تعتمد بشكل كبير على طبيعة رد إدارة ترمب. ومن المؤكد أن تشدد البيت الأبيض في مفاوضاته التجارية مع الهند، أو تقديم تنازلات لكبح سرعة التقارب الهندي الروسي قد تضع مودي في موقف صعب لا تكفي البرغماتية للخروج منه، فالخيار حينها سيخضع لحسابات جيوسياسية واقتصادية معقدة.

font change