لماذا اختار لبنان مفاوضا مدنيا؟

لماذا اختار لبنان مفاوضا مدنيا؟

استمع إلى المقال دقيقة

ثمة حسابات مدروسة تكمن خلف تكليف الدولة اللبنانية الدبلوماسي المثقف السفير السابق سيمون كرم، بقيادة جولة المفاوضات الجديدة مع إسرائيل، ضمن ما يُعرف بلجنة "الميكانيزم".

أولا: لأن اختيار شخصية مدنية للتفاوض، هو بحد ذاته حدث سياسي استثنائي في لبنان، ومؤشر على انتقال رمزي من مربع "الدولة داخل الدولة" إلى نطاق السيادة الوطنية.

ثانيا: لأن الدولة اللبنانية تريد إيصال رسالة بأنها استرجعت قرار الحرب والسلم من "حزب الله"، بعد عقود كان فيها الطرف الذي يفرض معادلاته.

ثالثا: لأن تسمية المفاوضين دون المرور بفيتو "حزب الله"، يثبت أن الدولة اللبنانية استطاعت إخراج المفاوضات من هيمنة الدويلة بمفهومها الميليشياوي، وأعادتها إلى سلطة الدولة بمفهومها السياسي.

لذلك، يمكن القول إن دخول شخصية مدنية، لم يخترها "حزب الله"، ولم يوافق عليها، ولا يملك القدرة على التحكّم بها، على خط التفاوض، من الخطوات الدبلوماسية الأكثر أهمية منذ "الطائف"، من حيث إعادة توزيع مراكز القوة داخليا. وهي على رغم بساطتها الشكلية، تحمل دلالات تتجاوز الإطار التفاوضي التقني، لتطاول بنية القرار السيادي اللبناني نفسه، فللمرة الأولى منذ عقود، لا يكون "حزب الله" صاحب اليد العليا في حدث مصيري وطني على هذا القدر من الحساسية.

غالبا، تعمد الدول عند سعيها لتوقيع اتفاقيات بعد الحروب، إلى تعيين مفاوضين مدنيين وليس عسكريين، لأن إنهاء الحرب يتطلب قرارات سياسية وترتيبات مدنية، ولأن المفاوضين العسكريين تنقصهم الخبرات الدبلوماسية، فيفتقدون بالتالي المرونة المطلوبة في التعامل مع الضغوط والتشنجات المرافقة للمفاوضات، أما المفاوضون المدنيون المتمرسون في الشؤون الدبلوماسية، فيملكون مهارات ناعمة وتكتيكات مدروسة، تخوّلهم إدارة التسويات التي تشمل شروطا مدنية إنسانية فوق عسكرية، بكثير من الحنكة والموضوعية.

تسمية المفاوضين دون المرور بفيتو "حزب الله"، يثبت أن الدولة اللبنانية استطاعت إخراج المفاوضات من هيمنة الدويلة بمفهومها الميليشياوي، وأعادتها إلى سلطة الدولة بمفهومها السياسي

لذلك فإن اختيار الدولة اللبنانية شخصية مدنية ضمن الوفد المفاوض، هو إشارة إلى أنها تريد حلا سياسيا للوضع القائم، وبناء ثقة دولية، وإعطاء انطباع بأن هناك تغييرا في بنية القرار اللبناني الرسمي، ويعني أيضا أن الطرف الذي أخذ قرار الحرب (حزب الله) ليس هو من يفاوض على إنهائها، وأن الطرف المتضرر سياسيا (الدولة اللبنانية) هو صاحب القرار.

من جهته، لم يسبق أن اعترض "حزب الله" على أي اسم في أي مفاوضات جرت مع إسرائيل، آخرها مفاوضات الترسيم البحري، كون الوفود لم تضم سوى ضباط من الجيش اللبناني، ذلك أن اقتصار المفاوضات على عسكريين، طالما ضمن له حصر التفاوض بالتفاصيل الميدانية، وأعطى المفاوضات طابعا تقنيا، وأبعد النقاش عن الملفات السيادية والسياسية التي لا يرغب في فتحها، علاوة على أن المفاوض العسكري اللبناني لا يعتبر نقاش سلاح "حزب الله" وعلاقته بإيران، وعلاقات لبنان الإقليمية من ضمن مهامه التفاوضية، ما جعله مفاوضا آمنا بالنسبة إلى "حزب الله".

لكنه اعترض اليوم على السفير كرم، لأن المفاوض المدني بطبيعته يملك هامشا سياسيا أوسع، والسفير كرم تحديدا يتمتع بنوع مختلف للغاية من الاستقلالية السياسية، يمكّنه من أن يعبّر عن إرادة وطنية لا يستطيع "الحزب" الالتفاف عليها، مفاوض مثله لا يتبع دوائر النفوذ التقليدية داخل السلطة، يشكل قلقا لـ"حزب الله"، ويضعه في مواجهة أمر واقع جديد، هو أن التفاوض يمكن أن يجري في إطار دبلوماسي مستقل خارج سطوته الأمنية.

لهذا، فإن التفاوض المدني، هو التحوّل الأكثر حساسية في طبيعة المفاوضات بين لبنان وإسرائيل، أكثر من موضوع المفاوضات نفسها، إنه لحظة سياسية دقيقة، وربما مفصلية، على درب حصر قرار الحرب والسلم بيد الدولة، ونزعه من يد "حزب الله".

التفاوض المدني هو التحوّل الأكثر حساسية في طبيعة المفاوضات بين لبنان وإسرائيل، أكثر من موضوع المفاوضات نفسها

من ناحيتها، فإن واشنطن الراعية الرسمية إلى جانب فرنسا وقوات اليونيفيل لهذه المفاوضات، تراعي هذه الخطوة بمزاج هادئ، مقابل مزاج متشنج أظهرته سابقا تجاه المؤسسة العسكرية، وأدى إلى إلغاء زيارة قائد الجيش رودولف هيكل إلى واشنطن.

يمكن النظر إلى قرار التفاوض المدني برغم تعقيداته الكثيرة، وبغض النظر عن اسم المفاوض وشخصيته، على أنه سطر آخر أو أخير ربما، في فصل النهاية غير السعيدة التي وصل إليها "حزب الله" ومن خلفه إيران في المنطقة، كإحدى نتائج العبث بالقضية الفلسطينية عبر المغامرات غير المحسوبة، على الأقل هذا ما أثبته العامان الأخيران، اللذان شهدا أبشع المجازر في تاريخ المنطقة.

ومن زاوية أخرى، يمكن اعتباره مكسبا وطنيا لبنانبا، في حال نجح في إنهاء كابوس المسيّرات وعمليات القتل المجاني اليومي وتفخيخ المنازل والتهجير القسري في مناطق جنوب النهر (الليطاني) وشماله، ووضع حد للحرب غير المتكافئة التي يشهدها لبنان منذ أكثر من عامين، والتي سوت عشرات القرى الحدودية بالأرض، واستدرجت احتلال خمس نقاط داخل أراضيه.

font change