"الأيخمانية الجديدة"... العنف بوصفه مهمة تقنية

إلى جانب هذا العنف المادي العاري، يظهر ما يمكن أن نسميه العنف الرمزي

"الأيخمانية الجديدة"... العنف بوصفه مهمة تقنية

استمع إلى المقال دقيقة

في كتابها "أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر"، ترى هانا آرنت أن الشر في العالم الحديث لا ينشأ من غريزة شيطانية داخل النفس الإنسانية، بل نتيجة عدم حرص الإنسان على اتخاذ موقف أخلاقي حيال جريمة ما. وتكشف آرنت أن تفاهة تفكير المرتكبين تدفعهم، في كثير من الأحيان، إلى التعامل مع الشر بوصفه مهمة بيروقراطية قانونية.

بناء على هذه الرؤية، يصوّر صانعو الحروب التي يشهدها العالم حاليا- لا سيما في غزة- الشر على أنه إجراء قانوني أو حتى سلوك أخلاقي، وأن ما يرتكبونه من أعمال عنف وقتل ليس مهمات عسكرية بقدر ما هي دفاع عن النفس. بمعنى آخر، هم يبتكرون "أيخمانية" جديدة تافهة (نسبة إلى أدولف أيخمان أحد المنظمين النازيين للمحرقة اليهودية) تُعيد إنتاج الشر وتعريفه وتبريره، وتحرره من غريزيته وضحالته، وصولا إلى محاولة جعله سلوكا حضاريا ضروريا.

وإذا اعتبرنا الحروب المعاصرة مختبرا أخلاقيا للإنسانية الحديثة، نجد أن التجارب التي تم اختبارها فيه، أثبتت بالدليل المادي القاطع، كيف يمكن للسياسة والتكنولوجيا والثروة والمدنية بكل ما تحويه من تشريعات ودساتير حقوقية متقدمة وحتى قيم أخلاقية، أن تنقلب إلى شر.

هذا الشر يمكن أن نراه اليوم في مشاهد الجنود الذين ينشرون الرعب أينما حلّوا، في غزة والسودان على سبيل المثال، والقناصين الذين يستهدفون أجساد النساء والأطفال بأعصاب باردة، والمتحدثين الرسميين الذين يصفون القتل بالدفاع المشروع عن النفس وعن الحضارة، مع مسحة فوقية استعلائية، تجرّد الضحايا من شخصيتهم الإنسانية، والأخيرة هي من أبرز مظاهر "تفاهة الشر"، إذ إنها تُسمّي الضحايا خسائر جانبية، والتجويع إجراءات أمنية، والحصار قيودا ضرورية، فتمنح العنف بذلك طابعا تبريريا تلطيفيا.

إلى جانب هذا العنف المادي العاري، يظهر ما يمكن أن نسميه العنف الرمزي، وهو هيمنة منطق بيروقراطي يعتبر المدني تهديدا أمنيا دائما، بينما الجندي مدافعا عن الحضارة أو حاميا لها.

العالم الذي يركن إلى التفاهة في التعامل مع الشر، هو في الواقع عالم يعيد إنتاج أنواع ومستويات جديدة منه، ولا يجد حرجا في تكراره والتطبيع معه

رغم ذلك، لا تقتصر "تفاهة الشر" على ما ترتكبه الجيوش من عنف، إذ يظهر أيضا في لا مبالاة الرأي العام، فعندما تتحول معاناة الملايين من المدنيين الأبرياء إلى مشهد متكرر على الشاشات، يصبح الشر روتينا يوميا، فيلتبس معناه وتفقد الضحية بالتالي قدرتها على تحريك المشاعر الإنسانية وحقها في التعاطف.
مع العلم أن هذه اللامبالاة قد تكون في بعض الأحيان آلية دفاع ذاتية، أو إحدى وسائل الحماية النفسية، لعدم قدرة المتلقي على فعل شيء، أو العجز عن فهم ما يحدث وتفسيره، والحكم عليه من منطق إنساني مجرد من أي تأثير سياسي أو دعائي أو موقف ثقافي أو آيديولوجي مسبق.
أما من يملك القدرة على التفكير خارج الصندوق، والبحث عن رواية مخالفة للسائد، فيدخل ضمن "مقاومة البديهيات الزائفة" كما تقول آرنت. 
هذا إضافة إلى أن الكائن المعاصر وللأسف، يعاني من لوثة تطبيق القانون، بحيث يعتقد أنه يكفي في الحروب أن لا يُنتهك "القانون" لتكون حروبا "آمنة"، دون أن يقدّم لنا أية فكرة ناضجة أو واعية عن طبيعة هذا القانون وحساسيته تجاه الشر، ومدى مراعاته حقوق الإنسان وقيمته، وهذا بدوره يسمح بأن يتحوّل القانون نفسه إلى أداة للشر، ويولّد لدى الكائن المتمسك بتطبيقه، نوعا من "الأيخمانية" التافهة التي تفصله عن ضميره، وتُقنعه بأن العنف يمكن أن يكون مهمة تقنية.
علاوة على ذلك، يبدو أن الشر بات جزءا من الاقتصاد السياسي، في العالم الحديث، حيث تتشابك مصانع الأسلحة وشركات التكنولوجيا والمنصات الإعلامية في سلسلة من العمليات التجارية الربحية. وبهذا الترتيب، لا تعود الحروب كوارث إنسانية، بل تصبح فرصا استثمارية، تزدهر فيها الأسواق، ويراكم تجارها أرباحا خيالية، ما يجعل الشر نقاشا يحتمل الخطأ والصواب، ويخرج القانون عن كونه أداة للتمييز بين المعتدي والمعتدى عليه أو لتحقيق العدالة، إلى إطار رسمي يشرعن العنف.
ربما يمكن القول إن "الأيخمانية" الجديدة أصبحت بمثابة مرآة للعالم الحديث، ذلك أن العالم الذي يركن إلى التفاهة في التعامل مع الشر، هو في الواقع عالم يعيد إنتاج أنواع ومستويات جديدة منه، ولا يجد حرجا في تكراره والتطبيع معه، هو عالم اكتفى بالوقوف على قمة جبل الحضارة، متقبّلا انحدار مدنيته ومنظومته الأخلاقية وشخصيته الإنسانية نحو القعر، بينما تتابع "الأيخمانية" الجديدة تحويل الشر إلى مسألة إدارية أو إجراء قانوني، وتحويل العنف إلى مهمة تقنية... 

font change