في الأحزاب الأيديولوجية الدينية، ولا سيما أحزاب الإسلام السياسي مثل حركة "حماس" و"حزب الله" اللبناني، يتجاوز مفهوم الشهادة كونه مقاما دينيا رفيعا أو منحة إلهية يكرّم بها الله عباده المختارين، ليتحوّل إلى سلطة سياسية وثقافية واجتماعية، تُسهم في ترسيخ شرعية هذا النوع من الأحزاب وتغذية أيديولوجياتها.
وتلعب "شخصية" الشهيد دورا أساسيا في تشكيل أيديولوجيا أحزاب الإسلام السياسي، وتبسيطها وتقريبها من عقل الجمهور، وكلما عظمت الشخصية تكثّفت الرمزية، فلا تعود مجرد "صورة"، بل تصبح نقطة محورية في تشكيل الوجدان الشعبي، فتضاعف بذلك قدرة "الحزب" على إنتاج منظومة ثقافية حديدية، يُعاد من خلالها ضبط سلوك الجمهور.
تسير عملية التنشئة الأيديولوجية أو إعداد بيئة الشهادة، لدى هذه الأحزاب، توازيا وعلى أكثر من صعيد، من "احتلال" أسماء الشهداء وصورهم الذاكرة البصرية، إلى تمجيدهم بالقصائد والأناشيد والبرامج التلفزيونية التي يعاد بثها تكرارا، وصولا إلى الدروس الدينية والحلقات التثقيفية التعبوية، التي تفسّر الآيات القرآنية وتروي التاريخ الديني من منظور استشهادي يقدّس الموت ويقبّح الحياة، فتصبح التضحية بالنفس هدفا لا حدثا، والشهادة طقسا من طقوس الولاء، وسيرة الشهيد مرجعية أخلاقية ضابطة.
بهذه الطريقة، تستخدم الأيديولوجيا الشهادة، لتوليد مناخ السيطرة، بمعنى أنها تنتج عنفا رمزيا داخليا، يمكّنها من تشكيل عاطفة جماعية، تضمن انقياد الجماهير إلى خياراتها كفعل وجداني محض، لا كخيار سياسي. وهذا، لا ريب، يؤدي إلى إلغاء الحدود بين السياسي والأيديولوجي، ويُعيد تعريف القيم والمفاهيم، انطلاقا من موقع الانتماء الحزبي الضيق، لا من معناها الثقافي والإنساني الشامل.
عبر تطبيق هذه الآليات، يحكم "حزب الله" الطائفة الشيعية في لبنان، ويتحكّم بها، بحياتها وموتها معا، ويفرض الشهادة كمشروع سياسي على الجماهير، يتقدّم فيه الحق في الموت على الحق في الحياة، ويتحوّل فيه القتلى إلى "شهداء سعداء"، وتتحوّل تضحياتهم إلى خطاب يومي يعزز صوابية مسيرته السياسية وعدالة قضيته.
ينفق "حزب الله" ميزانيات مالية ضخمة، ويسخّر إعلامه لضمان ازدهار "صناعة الشهداء". فالمسألة عنده لا تنحصر بتكريم الأموات، بل تتعداها إلى السيطرة على الأحياء، عبر خلق شعور دائم بالذنب والدَّين تجاه الدماء التي سُفكت من أجل بقائهم على قيد الحياة.
يعمد "حزب الله" إلى استغلال المناسبات الدينية والطقوس العاشورائية لنشر خطاب الشهادة، حيث تُعيد منابره، استحضار مشهد الفداء في معركة كربلاء، باعتبار التضحية بالنفس أسمى معاني الوجود
وتُقدَّم عائلات الشهداء كنماذج للإيثار والالتزام الأخلاقي الحزبي، وتحصل على امتيازات مادية ومنافع وظيفية تسهم في ارتقائها اجتماعيا، فتتحوّل خساراتها إلى شكل من أشكال المكافأة القيمية، التي تغري الآخرين بالسعي إلى طلبها. في هذا السياق، تلعب "مؤسسة الشهيد"، المستنسخة عن مؤسسة "بنياد شهيد" الإيرانية، دورا مهماً في تحميل هذه الصورة معاني رمزية إضافية، علاوة على الرعاية المالية.
من جهة أخرى، يعمد "حزب الله" إلى استغلال المناسبات الدينية والطقوس العاشورائية لنشر خطاب الشهادة، حيث تُعيد منابره بصورة مكثّفة، استحضار مشهد الفداء في معركة كربلاء، باعتبار التضحية بالنفس أسمى معاني الوجود. من هنا، تمتلئ الفضاءات العامة في الضاحية الجنوبية لبيروت ومناطق الجنوب والبقاع، بصور الشهداء ومجسّمات قادتهم، كما نجد أضرحتهم تتحوّل مع الأيام إلى مزارات تقصدها الجماهير، وينمو حولها خطاب تعبوي، ليظهر بوضوح كيف يتحوّل الموت إلى أداة تثقيف وتربية أيديولوجية ممنهجة.
كما تشارك مؤسسات "حزب الله" من مدارس وجامعات ومستشفيات وجمعيات، وكذلك مساجد وحسينيات، في إنتاج هذا الجو الرمزي، عبر رفع صور "الشهداء" سابقا- "السعداء" حاليا- على مداخلها وجدرانها وفي أروقتها ومكاتبها، بينما تتكفّل البلديات التابعة له برسم باقي عناصر المشهد، حيث تُطلق على الشوارع والساحات في البلدات أسماءهم، وترفع صورا عملاقة لهم، وتربط حضورهم بكل مناسبة عامة أو خاصة.
بناء على ما سلف، من الطبيعي أن يصبح الاعتراض على "حزب الله" سياسيا أو ثقافيا، أو حتى نقد دوره تنمويا واقتصاديا، فعلا يشابه الخطيئة، إذ تتحوّل "دماء الشهداء" إلى سلاح موجّه نحو رؤوس المعارضين، وتُنصب لهم المحاكم الأخلاقية، وتتشكّل التهم على الفور: عدم احترام دماء الشهداء، الاستهانة بتضحياتهم، الاعتداء على قدسيتهم...
لا شك في أن "حزب الله" تمكّن من تحصين نفسه من النقد والمساءلة والمحاسبة وأسئلة الولاء والتبعية، بدماء من قُتلوا في سبيله، واستخدمها كخطوط حمراء يُمنع على أي كان تجاوزها، لكن شهداء الأحزاب الأخرى أو القوى غير المنتمية إلى خطابه الأيديولوجي، لا مكان لهم في سرديته وذاكرة جمهوره، وفي حين يصر على تغييب دورهم وتهميش تضحياتهم، ويتعامل مع دمهم كأمصال، يجعل من "الشهادة" وساما حزبيا حصريا، يمنحه وفق معاييره الأيديولوجية المحددة، وبناء على حساباته السلطوية التي تحتكر تعريف التضحية والفداء، وتسمّي من هو "الشهيد" ومن هو "القتيل" أو حتى "العميل".
برع "حزب الله" في تحويل شهدائه إلى أدوات لإنتاج العنف والخوف والتهديد، كما برع في الوقت نفسه، في جعلهم ركيزة لبناء سلطة فوقية قمعية تحكم الحياة بشروط الموت، مقسّما المجتمع الشيعي إلى طبقتين، حاكمة ومحكومة، أو غالبة ومغلوبة: طبقة "الشهداء السعداء" الذين فازوا بموتهم، وطبقة "الأحياء التعساء"، الذين عليهم أن يشعروا بذنب النجاة أو ذنب الحياة، سواء كانوا من جمهوره أو من "الآخرين".