طالما سعت إسرائيل إلى تضخيم قوة "حزب الله" العسكرية، بينما اعتمد "حزب الله" التقليل من تفوق إسرائيل، والاستهانة بإمكاناتها، والركون إلى عدم قدرتها على خوض حرب طويلة الأمد، وظل أمينه العام الراحل حتى آخر يوم في حياته يصفها بأنها "أوهن من بيت العنكبوت". لكن "حرب الإسناد" كشفت غباء "حزب الله" الاستراتيجي، وخبث إسرائيل التكتيكي.
لذلك حين تعاود إسرائيل التحذير من ترسانة "حزب الله" العسكرية، ردا على تصريحات "التعافي" و"الجهوزية" التي يطلقها قادة "حزب الله"، لا يعني أنها تشعر بقلق وجودي، أو أن نتنياهو "ميت من الرعب" على حد قول الأمين العام الجديد، بل تبحث عن ذريعة، ولو أنه لا يعوزها ذلك، لتجديد الحرب على لبنان.
في المقابل، يبدو أن "حزب الله" يغتبط لهذه التحذيرات ويعدها إطراء، متجاهلا أن كل الصواريخ التي أسقطها على أعمدة الإرسال الإسرائيلية خلال "حرب الإسناد"، لم تكن أكثر من دعوة مجانية لإسرائيل لقتل قادته وعناصره، وشن حرب طاحنة على لبنان، واحتلال الجنوب مجددا.
حاليا، يشيع "حزب الله" أنه "تعافى" وأنه بات جاهزا للحرب، برغم أنه منذ وقف إطلاق النار لم يتجرأ على رد أذى إسرائيل المتمادي ضد سكان الجنوب، أو إسقاط مسيرة إسرائيلية واحدة من تلك التي تلاحق عناصره وتغتالهم، خلال الـ48 ساعة الماضية قتلت المسيرات 7 عناصر. أما إيران التي يعتقد أنه يمكنه الاعتماد على دعمها، وعلى قدراتها الصاروخية، فقد سقطت عسكرياً وأمنياً في 12 يوما، في حرب جبنت عن خوضها أربعين سنة، حتى فُرضت عليها غصبا، وبعدما كانت قد اكتفت خلال هذه العقود بتحريك خيوطها من بعيد، ودفع انتحارييها إلى الواجهة، ومنهم "حزب الله"، ليكونوا درعا لها، وهي أساسا لم تبنِ قدراتها العسكرية لتزيل إسرائيل من الوجود، أو لتزحف نحو القدس، كما تدعي، بل لتحقيق مصالحها، كما لم تلعب ورقة المقاومة لأغراض إنسانية أو دينية، بل لتعزيز نفوذها الإقليمي.
ينكر "حزب الله" دور الدولة في محاولات "التعافي" ما بعد الحرب، وما زال يرفض التسليم بأنها الإطار السياسي الجامع والحامي الوحيد للحدود والوجود، ويتعمد التشكيك الاستباقي في قدرتها على فرض سيادتها والتعامل مع اعتداءات العدو، والحقيقة الأخرى التي ينكرها هي أن موافقة الحكومة السابقة على الاتفاق كان إنقاذا له أولا، وللطائفة الشيعية ثانيا، قبل أن يكون وقفا لإطلاق النار بين طرفين، ومنذ تشكيل الحكومة الجديدة فتح صراع قوة معها، ساعة بالتهديد بحرب أهلية، وساعة بإشهار "سلاح الموستيكات" و"المؤثرين" بوجهها، ويصر علاوة على تحميلها تبعات حرب لم يكن لها لزوم، مسؤولية اتفاق لم تكن فيه الجانب المفاوض، بل الجانب الذي عليه تنفيذه دون شروط، إلا عدم تكرار المجزرة.
وها هو يمضي في المسار الانتحاري الذي تجره إليه إسرائيل، ليثبت مرة أخرى أنه لم يستوعب درس خساراته السابقة، ولم تنضجه التجربة ليدرك أن الحروب لا تُخاض بالسبابات المرفوعة، ولا بالرؤوس الحامية، ولا بروحية المعارك التاريخية، بل بالتقنيات الحديثة التي لا يملك هو ودولته الداعمة منها شيئا، كما اتضح.
على ضوء هذا الانكشاف، لم يعد من الجائز السكوت عن ربط مصير لبنان بأوهام "حزب الله"، كما ربط الطائفة الشيعية به أو بإيران، واعتبار هذه العلاقة قضاء وقدرا، بذريعة "الدعم" الذي قدمته وتقدمه إيران لـلمقاومة، لأن هذه العلاقة أصبحت تشكل خطرا وجوديا على الشيعة وعلى لبنان، وتعد بخراب أوسع من الذي خلفته الحرب الأخيرة.
الجهة التي تحمي لبنان كله والطائفة الشيعية بالأخص، هي الدولة، لأنها هي الوحيدة القادرة اليوم على إنهاء التوتر الآخذ بالتصاعد، والتحرك من أجل فرض انسحاب العدو من النقاط الخمسة التي احتلها بسبب "حرب الإسناد".
لم يعد من الجائز السكوت عن ربط مصير لبنان بأوهام "حزب الله"، كما ربط الطائفة الشيعية به أو بإيران، واعتبار هذه العلاقة قضاء وقدرا
واللافت إزاء هذا المشهد، أن هناك مراجعات شجاعة أخذت بالتشكل داخل المجتمع الشيعي، لم تكن ممكنة من قبل، ترفض المسار الذي أوصلها إلى حافة الإبادة، وليس سرا القول إن تسليم السلاح هو خيار أبناء الطائفة غير العلني.
في التاريخ، لم يكن اعتراف الشعوب بالهزيمة نهاية الطريق، بل كان بداية للنهوض. على سبيل المثال خرجت ألمانيا واليابان من الحرب العالمية الثانية مدمرتين، لكن الاعتراف بالواقع قادهما إلى إعادة البناء. في المقابل، فإن الشعوب التي ترفض مواجهة الحقيقة، وتعيش على أوهام النصر، لم يكن مصيرها سوى الزوال.
يتناقل أبناء الطائفة أن خطابات النصر الحماسية لن تعيدهم إلى قراهم، ولن تطلق صافرة إعادة الإعمار، ولن توقف النزيف البشري اليومي الذي يشهدونه يوميا على الطرقات، وقد تكون مهمتهم المقبلة إقناع "حزبهم" بالهزيمة المُرة، قبل فوات الأوان... واليوم تصل المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس إلى بيروت حاملة رسالة تحذيرية أن الحرب على الأبواب.