غزة التي كادت أن تعزل أميركا

غزة التي كادت أن تعزل أميركا

استمع إلى المقال دقيقة

بعد عامين كاملين من حرب الإبادة في غزة، تحولت إسرائيل إلى دولة مكروهة من قبل شريحة كبيرة من شعوب العالم، كما أن الجيش الإسرائيلي، بات يواجه هزيمة "أخلاقية" لأول مرة في تاريخه، كونه يصنف نفسه "من أكثر الجيوش أخلاقية في العالم".

فعلى مدى عامي الإبادة المتواصلة، لم يحصد الجيش الإسرائيلي انتصارات في غزة، بقدر ما راكم كراهية، نتيجة لارتكاباته وتجاوزاته التي وثق بعضها جنوده أنفسهم، عدا التي نقلتها وسائل الإعلام التقليدي والحديث، الأمر الذي دفع القضية الفلسطينية وحق شعبها في امتلاك أرض ودولة وطنية إلى الصدارة مجدداً، وأصبح اتخاذ موقف مناهض لإسرائيل، مناصر للشعب الفلسطيني معيارا إنسانيا عالميا.

تحت هذا الضغط العالمي المتبوع بحراك دبلوماسي عربي، اضطر الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشكل فجائي، إلى إعلان وقف إطلاق النار في غزة بين إسرائيل و"حماس"، وتقديم خطة من عشرين بندا لتثبيته.

لا شك في أن الحروب في هذه المنطقة هي حروب تقودها أميركا بشكل مباشر أو غير مباشر، وحرب غزة واحدة منها، إلا أن أميركا لا يمكنها أن تستمر وحدها في إدارة أي حرب، خاصة إذا أصبحت كلفتها الدبلوماسية مرتفعة جدا كحرب غزة. وأغلب الظن أن ترمب حين قرر فجأة أن ينهي حرب غزة، لم يكن مدفوعا فقط برغبته في أن يصبح رجل سلام، بل لالتقاطه إشارتين مهمتين: تكتل حلفائه وأصدقائه معا للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتحوّل إسرائيل إلى عبء أخلاقي على العالم الحر.

الخطوة الأكثر أهمية، حين قادت السعودية وفرنسا مؤتمر الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وانضمت إليه دول غربية كبرى، مما أعطى انطباعا بأن إسرائيل تتجه نحو المزيد من العزلة الدولية

طوال هذين العامين، بالغت إسرائيل في استخدام العنف المطلق ضد الشعب الفلسطيني، مستندة إلى ذاكرة "الهولوكوست" لتبرير حقها في الدفاع عن وجودها، وحقها في عدم السماح بتكرارها مرة أخرى، لكنها هذه المرة أخفقت في حشد المتعاطفين، وخسرت كل ما راكمته من تعاطف في السابق، حين بدأت تخرج من غزة مشاهد الجثث المكدسة، والأشلاء المنثورة، والأطراف المبتورة، والأفواه الجائعة، والمدن التي تحولت إلى رماد، كما اتضح أن الإبادة الجماعية التي ترتكبها بحق الغزيين، ليست بالضرورة إبادة لـ"حماس"، كما أنها ليست بسبب وجود حكومة يمينية متطرفة فحسب، بل نتيجة لبنى اجتماعية متجذرة تقبلها المجتمع الإسرائيلي، وأعاد إنتاجها على مدى عقود من الاحتلال والحروب مع جيرانه. 
وعندما أصبحت الحرب عبارة عن جريمة مستمرة لمجرد القتل، ولم تعد الإبادة الجماعية مقتصرة على احتساب عدد الضحايا، بل تجاوزته إلى التدمير التدريجي للمجتمع، وخلق ظروف مسببة لدمار أمة، سقطت مبررات استمرارها في القتال، وصار الرأي العام العالمي الرسمي والشعبي، يرى أنها لا تحارب "الإرهاب" كما تدّعي، بل تحارب الإنسانية نفسها.
ولذلك، شهدنا كيف قوبل خطاب نتنياهو في الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، بانسحاب جماعي للدبلوماسيين، وهتافات استهجان من الحضور، ومظاهرات في الشوارع، مما دفع وسائل إعلام عالمية إلى توصيف ما جرى بأنه يعكس عزلة إسرائيل، وصورة زعيم مكروه! 
أما الخطوة الأكثر أهمية فأتت بعد أيام، حين قادت السعودية وفرنسا مؤتمر الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وانضمت إليه دول غربية كبرى، مما أعطى انطباعا بأن إسرائيل تتجه نحو المزيد من العزلة الدولية. 
ولا ننسى أنه بالتوازي، تمكن حراك الجامعات والتظاهرات الثقافية والنقابية وإضرابات عمال الموانئ والأصوات الحرة في عالم الرياضة وفي المهرجانات الفنية العالمية والمظاهرات المليونية التي عمت عواصم العالم الكبرى، خصوصا مثل الانتفاضة الشعبية التي شهدتها شوارع إيطاليا وبريطانيا وهولندا وألمانيا، إضافة إلى أسطول الصمود، من فرض نفسه كقوة مؤثرة على القرار السياسي الغربي. 

حتى في داخل إسرائيل نفسها، سمعنا "أصواتا أخلاقية" رغم تأخرها، استطاعت فصل القيم الإنسانية عن الذاكرة الجمعية الغارقة في سرديات الخوف والحرب والأمن.
هذا كله، لم يبق مجرد ضجيج كما كان يحصل على مدى عامين من الإبادة المستمرة، بل شكل شبكة ضغط أخلاقية وسياسية أخرجت الإبادة من حدود غزة إلى ساحة الضمير العالمي. 
وهذا كله جعل ترمب أيضا يشعر بالعزلة، إذ وجد نفسه يساند إسرائيل وحده، بعدما انفض من حوله حلفاؤه الأوروبيون وأصدقاؤه العرب، وبالتالي بدت بلاده وكأنها فقدت مركزيتها إزاء العالم، فما كان منه إلا أن اتصل بنتنياهو وقال له بصراحة: "لا تستطيع أن تحارب العالم كله يا بيبي". قالها ترمب وهو يبرّر لحليفه رغبته في وقف الحرب، بعدما استنفذ كل ذرائعه لتبرير الإبادة، وأدرك أن العالم في طريقه للتحول إلى محكمة لمحاسبة إسرائيل، وعليه إنقاذ إسرائيل من هذه الإبادة قبل غزة...
من هنا لا يمكن فهم قرار إنهاء الحرب الذي أصدره ترمب من منطلق الحسابات الاستراتيجية وحدها، إنما خشية عزل أميركا من المشاركة في حل أكثر القضايا الإنسانية تحديا في العالم. 

font change