الوجه الآخر للإبادة

"إنسانية" أي جيش؟

الوجه الآخر للإبادة

استمع إلى المقال دقيقة

ينفذ الجيش الإسرائيلي منذ نحو أسبوع عملية منظمة لمحو مدينة غزة وإبادة وجودها الجغرافي، وقتل ما أمكنه من أهلها، استهلها بإصدار أوامر للسكان بإخلاء المدينة، وتحذيرات من مغبة بقائهم في بيوتهم على مسؤوليتهم، ثم بدأت طائراته بشن سلسلة من الغارات دمرت أبراج المدينة الشهيرة واحدا تلو الآخر، وها هي مستمرة بقضم آلاف السنين من التاريخ والتراث الإنساني والعمارة بالتدريج.

كعادته منذ نحو سنتين، يزعم الجيش الإسرائيلي لتبرير استخدامه القوة المفرطة ضد الغزيين، بأنه ينفذ خطة عسكرية محكمة ومدروسة، ويدعي في الوقت نفسه الحرص على أرواح المدنيين، ولذلك يعمد إلى إصدار أوامر وتحذيرات بمغادرة المناطق التي يعتزم قصفها.

لكن، هل يمكن اعتبار أوامر كهذه، أو التعامل معها كدلائل على "إنسانية" أي جيش؟ أو حرصا منه على تحييد المدنيين أو الحفاظ على أرواحهم؟

في الواقع، مثل هذه الأوامر أو التحذيرات، لا يتعدى كونه شكلا من أشكال العنف، الذي يمارسه القوي لإرعاب الضعيف تمهيدا للقضاء عليه نفسيا أو فيزيائيا، وفق خطة نفسية وعسكرية دقيقة ومدروسة، وفي حالة الجيش الإسرائيلي هو نوع من العنف الذي يتعامل مع وجود الغزيين كبشر، على أنهم مجرد عقبة أو عائق تقني يحول دون تحقيق الحلم القومي الإسرائيلي، أي إعلان دولة إسرائيل التاريخية من النهر إلى البحر، الذي كبر مؤخرا ليصبح "إسرائيل الكبرى".

وهو حلم بدأ بشعار محاربة الإرهاب، بعد عملية "طوفان الأقصى"، ثم لم ينتهِ بتدمير غزة وتطهيرها عرقيا، وكأن غايته الأساسية، كما تكشّف، هي إسقاط الحدود الجغرافية التي قسمت خريطة المنطقة على أثر اتفاقية "سايكس-بيكو"، وإعادة هندستها من جديد، وإنهاك دولها واستنزاف مقدراتها ماديا ودبلوماسيا إلى الحد الأقصى، بما يضمن أمن إسرائيل واتساع حدودها.

في أذهان أصحاب هذا الحلم، كل الشعوب التي تحيط بإسرائيل لا تستحق الحياة، بحيث إن كل فرد من الملايين التي تعيش في جوارها أو على حدودها، أو أبعد قليلا، هو هدف عسكري مشروع لطائراتها وقناصيها

في أذهان أصحاب هذا الحلم، كل الشعوب التي تحيط بإسرائيل لا تستحق الحياة، بحيث إن كل فرد من الملايين التي تعيش في جوارها أو على حدودها، أو أبعد قليلا، هو هدف عسكري مشروع لطائراتها وقناصيها، فضلا عن أن الشعب الفلسطيني في غزة أو الضفة، هو عبارة عن كائنات فائضة عن الحاجة ينبغي التخلص منها، وهذه هي ذروة عملية نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطيني، بحيث لا يعود كائنا له الحق في الحياة، إنما مجرد عائق أمام بداية تحول الحلم الجيوسياسي إلى واقع.

أوامر الإخلاء في هذا السياق، لا تعكس أي مستوى من المسؤولية الأخلاقية، التي يدعيها الجيش الإسرائيلي، إذ إن الغاية منها معروفة وواضحة، وهي ترهيب الغزيين وإذلالهم حينا، ودفعهم إلى حالة من اليأس تجعلهم يختارون "الانتحار" تجنبا لتكرار النزوح المُرة، أحيانا كثيرة.

فعندما تتخذ عائلة قرار عدم الاستجابة لأوامر الإخلاء، والبقاء في منطقة الخطر (وهو أمر يحدث كثيرا) لعدم وجود مكان آمن تلجأ إليه، أو لانعدام مقدرتها على النزوح، ذلك أن النزوح في ظل الوضع المادي الكارثي أصبح رفاهية، وامتيازا لا يتاح إلا لمن يملكون الوسائل والمال والمأوى البديل، فتكون بذلك قد قررت الانتحار تحت ضغط العنف المقنع، الذي يسميه الجيش الإسرائيلي "أوامر إخلاء"، وهنا لا يعدم الجيش حيلة، فيبرر: لقد حذرناهم من البقاء. قُتلوا (أي انتحروا) لأنهم لم يطيعوا الأوامر، فيتبرأ بذلك من أي مسؤولية تقع على عاتقه.

قد تبدو أوامر الإخلاء لمن ينظرون بعين واحدة، سلوكا أخلاقيا، لكنها في الواقع إذلال للنفس البشرية، وامتهان للكرامة الإنسانية، خاصة حين تنحصر فرصة النجاة في عدد محدد من الدقائق، مما يدفع الناس إلى الركض بما يشبه الهستيريا حاملين أطفالهم وما تيسر لهم من أغراض ضرورية، والخروج نحو المجهول، وفي اللحظات الفاصلة ما بين الإخلاء ونفاذ الوقت، تسقط الصواريخ، تمحو المباني والأرزاق والشوارع والحقول، وتمزق في طريقها أجسادا وأرواحا ونسيجا كاملا من الحياة والعلاقات والذاكرة الجماعية.

تولد هذه الأوامر في نفوس الضحايا في بعض الأحيان، نوعا من الاستسلام، ينزحون لكنهم في قرارة أنفسهم يدركون أن نجاتهم مؤقتة

علاوة على ذلك، تولد هذه الأوامر في نفوس الضحايا في بعض الأحيان، نوعا من الاستسلام، ينزحون لكنهم في قرارة أنفسهم يدركون أن نجاتهم مؤقتة، فالمعتدي لا يكتفي بكونه مجرد آلة عسكرية، بل يتحول إلى قاتل متسلسل خارج من أحد أفلام الرعب والجريمة، يلاحق ضحاياه من بيت إلى بيت، من شارع إلى شارع، من حي إلى حي، لتصبح حياتهم لعبة بين يديه، هو يحدد زمان استهلاكها وزمان إتلافها.

السؤال الذي يتكرر على لسان النازحين من غزة الآن: "لوين بدنا نروح"، والجواب يأتي من التاريخ: لم تسقط روما لأنها انهزمت أو ضعفت أو تراجعت قدرتها على البطش... ما أسقطها هو فائض قوتها، القوة التي تحولت إلى عبء عليها، إلى ثقل داخلي، أفقدها توازنها، ففقدت بالتالي سيطرتها عليه، فتحول إلى وحش التهمها.

font change