على مدى أكثر من قرن، سعت الولايات المتحدة إلى تشكيل المسارات السياسية في أميركا اللاتينية، دعمت انقلابات، أطاحت بحكومات، وأسندت زعماء سلطويين يتوافقون مع مصالحها الاستراتيجية. غير أن قلة من هذه المحاولات أدت إلى الاستقرار الذي وعدت به واشنطن، بل زعزعت التدخلات المجتمعات، وعززت سلطة المستبدين، ورسخت فكرة أن التهديد الخارجي جزء دائم من المشهد السياسي في المنطقة.
واليوم، مع عودة بعض أوساط اليمين الأميركي إلى خطاب معاد للنظام ضد نيكولاس مادورو، يعود الماضي إلى الواجهة. والسؤال لم يعد ما إذا كان التدخل ممكنا، بل لماذا فشل باستمرار، ولماذا تعلّمت أميركا اللاتينية أن تنظر إليه بعين الريبة العميقة.
التاريخ الطويل لتغيير الأنظمة
تبدأ الحكاية قبل الحرب الباردة بوقت طويل. بين عامي 1898 و1934، احتلت الولايات المتحدة كوبا، وبورتو ريكو، وهايتي، وجمهورية الدومينيكان ونيكاراغوا، وغالبا ما بررت غزواتها باعتبارها ضرورة أخلاقية لإعادة النظام. لكن ما نتج عنها كان فترات ممتدة من الحكم العسكري، وضوابط مالية، وأنظمة سياسية صيغت لخدمة أولويات الأمن والمصالح الاقتصادية الأميركية.
يرى كثير من المحللين أن تلك الاحتلالات المبكرة أرست قاعدة لنمط جعل واشنطن تعتبر أي اضطراب في المنطقة تهديدا يستوجب تدخلا مباشرا. المؤرخ والمتخصص في شؤون أميركا اللاتينية غريغ غراندين يؤكد في كتابه "ورشة الإمبراطورية"(2006) أن أميركا اللاتينية تحولت إلى مختبر لسياسات التدخل، شكّل الطريقة التي فهمت بها الولايات المتحدة العالم ودورها الإمبراطوري.
وبحلول خمسينات القرن الماضي، ترسخ هذا المنطق في صورة عقيدة. ففي عام 1954، هندست وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية انقلابا أطاح بالرئيس المنتخب ديمقراطياً جاكوبو آربينز في غواتيمالا، بعدما اصطدمت إصلاحاته الزراعية بالمصالح الاستراتيجية والشركات الأميركية. أطاح الانقلاب بالحكومة لكنه أطلق أربعة عقود من الصراع المسلح والحكم السلطوي. "لجنة الحقيقة" التابعة للأمم المتحدة خلصت لاحقا إلى أن التدخل "أوجد الظروف المؤدية إلى الإبادة الجماعية" (1999). ولم تتعاف غواتيمالا أبدا.
وتكرر النمط في أنحاء المنطقة. ففي عام 1964، يوثق المؤرخ والخبير في الأنظمة العسكرية كارلوس فيكو كيف ساعد الدعم الأميركي على إقامة دكتاتورية عسكرية في البرازيل استمرت واحدا وعشرين عاما (2008). وفي تشيلي، يكشف الباحث بيتر كورنبلوه، استنادا إلى أرشيفات رفعت عنها السرية، حجم الجهود الأميركية السرية لزعزعة استقرار سلفادور أليندي قبل أن يستولي الجنرالات على السلطة عام 1973. دكتاتورية أوغوستو بينوشيه، التي حظيت بدعم دبلوماسي واقتصادي من واشنطن، أصبحت واحدة من أكثر الأنظمة قمعا في تاريخ أميركا اللاتينية الحديث.
أما السلفادور ونيكاراغوا وهندوراس فتحولت إلى ساحات مواجهة خلال الحرب الباردة، حيث سلّحت الولايات المتحدة بعض الفصائل ووصمت أخرى بأنها تهديدات شيوعية. والنتيجة لم تكن انتصار الديمقراطية، بل كانت حروبا أهلية طويلة، وعمليات سرية، وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.
تتضح خيوط متصلة، إذ إن التدخلات التي وعدت بالاستقرار غالبا ما أدت إلى اضطراب طويل الأمد.
لماذا لم ينجح تغيير الأنظمة إلا نادرا
تحدّى المشهد السياسي في أميركا اللاتينية مرارا توقعات واشنطن. وهناك ثلاثة عوامل رئيسة تفسر سبب فشل التدخلات في معظم الأحيان، ولماذا ما زالت تلقي بظلالها على ردود الفعل الإقليمية حتى اليوم.
1. سوء قراءة السياسة المحلية
كثيرا ما صاغت الولايات المتحدة النزاعات باعتبارها أيديولوجية لا اجتماعية. فالحركات الزراعية المطالبة بإصلاح الأراضي وُصفت بأنها تهديدات شيوعية، والوطنيون الساعون إلى الاستقلال فُسّروا على أنهم وكلاء سوفيات. هذا التبسيط المفرط للواقع السياسي جعل واشنطن تدعم قادة يفتقرون إلى الشرعية الداخلية، وتقلل من شأن المظالم التي غذّت الانتفاضات. وما إن تُنصَّب تلك الحكومات المدعومة أميركياً حتى تعتمد على القمع، فتدخل في دوامة من المقاومة والاضطراب.
2. الفراغ الذي يخلّفه السقوط
كان إسقاط الحكومات يسيرا، لكن بناء مؤسسات مستدامة نادرا ما تحقق. سقوط آربينز في غواتيمالا أطلق الفوضى، وإزاحة أليندي فتحت الباب أمام دكتاتورية، أما الحكم العسكري في البرازيل فانتهى بانتقال ديمقراطي هش ما زال مثقلا بإرث سلطوي. القاعدة البسيطة التي برزت: إسقاط حكومة أمر سهل، أما إقامة بديل شرعي فمهمة عسيرة.
3. التدخل يقوي القوى التي يسعى لإضعافها
أكثر النتائج ديمومة كانت نفسية. الضغط الأميركي غالبا ما عزز السرديات الوطنية التي استخدمها القادة السلطويون لترسيخ قبضتهم الداخلية. من كاسترو إلى شافيز وصولا إلى مادورو، ظهروا في صورة المدافعين عن السيادة تحت الحصار. التدخل، سواء وقع فعلا أو ظل متوقعا، تحول إلى مورد سياسي. محاولات إضعاف هذه الحكومات ساعدت في كثير من الأحيان على بقائها.
مفارقة الرجل القوي
رغم رفع شعار الديمقراطية عالميا، دعمت الولايات المتحدة باستمرار زعماء سلطويين يتوافقون مع مصالحها الاستراتيجية. فقد ساندت دكتاتوريات عسكرية في البرازيل والأرجنتين وتشيلي وباراغواي خلال الحرب الباردة، ورعت علاقات شخصية مع سوموزا في نيكاراغوا، وتروخيو في جمهورية الدومينيكان، وباتيستا في كوبا، كما دعمت سرا أنظمة سلطوية اعتُبرت موثوقة في الأمن أو الأسواق.
هذا النهج الانتقائي عُرف بمفارقة "الرجل القوي"، حيث تدين واشنطن الاستبداد لدى خصومها بينما تعتمد على أنظمة مشابهة لخدمة مصالحها. هذه التناقضات شكّلت منذ زمن طويل أساسا لعدم ثقة أميركا اللاتينية في نوايا الولايات المتحدة. وأزعم أن السياسة الخارجية الأميركية تفضل الاستقرار على الديمقراطية، إلا إذا كانت الديمقراطية متوافقة مع أولوياتها.
هذه المفارقة تفسر كيف يستطيع قادة مثل مادورو حتى اليوم أن يستنهضوا دعما داخليا عبر استدعاء شبح التدخل الأميركي. فالسردية تلقى صدى لأنها تعكس تجربة تاريخية معاشة، لا مجرد أيديولوجيا مجردة.


