قرن من التدخلات... جذور إساءة فهم واشنطن لأميركا اللاتينية

مختبر لسياسات التدخل

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رجل يحمل لافتة تحمل صور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، كُتب عليها "أعداء الشعب" خلال مظاهرة في شارع باوليستا بمدينة ساو باولو البرازيلية، في 10 يوليو 2025.

قرن من التدخلات... جذور إساءة فهم واشنطن لأميركا اللاتينية

على مدى أكثر من قرن، سعت الولايات المتحدة إلى تشكيل المسارات السياسية في أميركا اللاتينية، دعمت انقلابات، أطاحت بحكومات، وأسندت زعماء سلطويين يتوافقون مع مصالحها الاستراتيجية. غير أن قلة من هذه المحاولات أدت إلى الاستقرار الذي وعدت به واشنطن، بل زعزعت التدخلات المجتمعات، وعززت سلطة المستبدين، ورسخت فكرة أن التهديد الخارجي جزء دائم من المشهد السياسي في المنطقة.

واليوم، مع عودة بعض أوساط اليمين الأميركي إلى خطاب معاد للنظام ضد نيكولاس مادورو، يعود الماضي إلى الواجهة. والسؤال لم يعد ما إذا كان التدخل ممكنا، بل لماذا فشل باستمرار، ولماذا تعلّمت أميركا اللاتينية أن تنظر إليه بعين الريبة العميقة.

التاريخ الطويل لتغيير الأنظمة

تبدأ الحكاية قبل الحرب الباردة بوقت طويل. بين عامي 1898 و1934، احتلت الولايات المتحدة كوبا، وبورتو ريكو، وهايتي، وجمهورية الدومينيكان ونيكاراغوا، وغالبا ما بررت غزواتها باعتبارها ضرورة أخلاقية لإعادة النظام. لكن ما نتج عنها كان فترات ممتدة من الحكم العسكري، وضوابط مالية، وأنظمة سياسية صيغت لخدمة أولويات الأمن والمصالح الاقتصادية الأميركية.

يرى كثير من المحللين أن تلك الاحتلالات المبكرة أرست قاعدة لنمط جعل واشنطن تعتبر أي اضطراب في المنطقة تهديدا يستوجب تدخلا مباشرا. المؤرخ والمتخصص في شؤون أميركا اللاتينية غريغ غراندين يؤكد في كتابه "ورشة الإمبراطورية"(2006) أن أميركا اللاتينية تحولت إلى مختبر لسياسات التدخل، شكّل الطريقة التي فهمت بها الولايات المتحدة العالم ودورها الإمبراطوري.

وبحلول خمسينات القرن الماضي، ترسخ هذا المنطق في صورة عقيدة. ففي عام 1954، هندست وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية انقلابا أطاح بالرئيس المنتخب ديمقراطياً جاكوبو آربينز في غواتيمالا، بعدما اصطدمت إصلاحاته الزراعية بالمصالح الاستراتيجية والشركات الأميركية. أطاح الانقلاب بالحكومة لكنه أطلق أربعة عقود من الصراع المسلح والحكم السلطوي. "لجنة الحقيقة" التابعة للأمم المتحدة خلصت لاحقا إلى أن التدخل "أوجد الظروف المؤدية إلى الإبادة الجماعية" (1999). ولم تتعاف غواتيمالا أبدا.

وتكرر النمط في أنحاء المنطقة. ففي عام 1964، يوثق المؤرخ والخبير في الأنظمة العسكرية كارلوس فيكو كيف ساعد الدعم الأميركي على إقامة دكتاتورية عسكرية في البرازيل استمرت واحدا وعشرين عاما (2008). وفي تشيلي، يكشف الباحث بيتر كورنبلوه، استنادا إلى أرشيفات رفعت عنها السرية، حجم الجهود الأميركية السرية لزعزعة استقرار سلفادور أليندي قبل أن يستولي الجنرالات على السلطة عام 1973. دكتاتورية أوغوستو بينوشيه، التي حظيت بدعم دبلوماسي واقتصادي من واشنطن، أصبحت واحدة من أكثر الأنظمة قمعا في تاريخ أميركا اللاتينية الحديث.

أما السلفادور ونيكاراغوا وهندوراس فتحولت إلى ساحات مواجهة خلال الحرب الباردة، حيث سلّحت الولايات المتحدة بعض الفصائل ووصمت أخرى بأنها تهديدات شيوعية. والنتيجة لم تكن انتصار الديمقراطية، بل كانت حروبا أهلية طويلة، وعمليات سرية، وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.

تتضح خيوط متصلة، إذ إن التدخلات التي وعدت بالاستقرار غالبا ما أدت إلى اضطراب طويل الأمد.

لماذا لم ينجح تغيير الأنظمة إلا نادرا

تحدّى المشهد السياسي في أميركا اللاتينية مرارا توقعات واشنطن. وهناك ثلاثة عوامل رئيسة تفسر سبب فشل التدخلات في معظم الأحيان، ولماذا ما زالت تلقي بظلالها على ردود الفعل الإقليمية حتى اليوم.

1. سوء قراءة السياسة المحلية

كثيرا ما صاغت الولايات المتحدة النزاعات باعتبارها أيديولوجية لا اجتماعية. فالحركات الزراعية المطالبة بإصلاح الأراضي وُصفت بأنها تهديدات شيوعية، والوطنيون الساعون إلى الاستقلال فُسّروا على أنهم وكلاء سوفيات. هذا التبسيط المفرط للواقع السياسي جعل واشنطن تدعم قادة يفتقرون إلى الشرعية الداخلية، وتقلل من شأن المظالم التي غذّت الانتفاضات. وما إن تُنصَّب تلك الحكومات المدعومة أميركياً حتى تعتمد على القمع، فتدخل في دوامة من المقاومة والاضطراب.

2. الفراغ الذي يخلّفه السقوط

كان إسقاط الحكومات يسيرا، لكن بناء مؤسسات مستدامة نادرا ما تحقق. سقوط آربينز في غواتيمالا أطلق الفوضى، وإزاحة أليندي فتحت الباب أمام دكتاتورية، أما الحكم العسكري في البرازيل فانتهى بانتقال ديمقراطي هش ما زال مثقلا بإرث سلطوي. القاعدة البسيطة التي برزت: إسقاط حكومة أمر سهل، أما إقامة بديل شرعي فمهمة عسيرة.

3. التدخل يقوي القوى التي يسعى لإضعافها

أكثر النتائج ديمومة كانت نفسية. الضغط الأميركي غالبا ما عزز السرديات الوطنية التي استخدمها القادة السلطويون لترسيخ قبضتهم الداخلية. من كاسترو إلى شافيز وصولا إلى مادورو، ظهروا في صورة المدافعين عن السيادة تحت الحصار. التدخل، سواء وقع فعلا أو ظل متوقعا، تحول إلى مورد سياسي. محاولات إضعاف هذه الحكومات ساعدت في كثير من الأحيان على بقائها.

مفارقة الرجل القوي

رغم رفع شعار الديمقراطية عالميا، دعمت الولايات المتحدة باستمرار زعماء سلطويين يتوافقون مع مصالحها الاستراتيجية. فقد ساندت دكتاتوريات عسكرية في البرازيل والأرجنتين وتشيلي وباراغواي خلال الحرب الباردة، ورعت علاقات شخصية مع سوموزا في نيكاراغوا، وتروخيو في جمهورية الدومينيكان، وباتيستا في كوبا، كما دعمت سرا أنظمة سلطوية اعتُبرت موثوقة في الأمن أو الأسواق.

هذا النهج الانتقائي عُرف بمفارقة "الرجل القوي"، حيث تدين واشنطن الاستبداد لدى خصومها بينما تعتمد على أنظمة مشابهة لخدمة مصالحها. هذه التناقضات شكّلت منذ زمن طويل أساسا لعدم ثقة أميركا اللاتينية في نوايا الولايات المتحدة. وأزعم أن السياسة الخارجية الأميركية تفضل الاستقرار على الديمقراطية، إلا إذا كانت الديمقراطية متوافقة مع أولوياتها.

هذه المفارقة تفسر كيف يستطيع قادة مثل مادورو حتى اليوم أن يستنهضوا دعما داخليا عبر استدعاء شبح التدخل الأميركي. فالسردية تلقى صدى لأنها تعكس تجربة تاريخية معاشة، لا مجرد أيديولوجيا مجردة.

السياسة الخارجية الأميركية تفضل الاستقرار على الديمقراطية، إلا إذا كانت الديمقراطية متوافقة مع أولوياتها

أزمة جديدة بأنماط مألوفة

لم تُنفذ الولايات المتحدة عملية تغيير نظام في فنزويلا، لكن الخطاب المحيط بنيكولاس مادورو يكرر في كثير من الأحيان منطق التدخلات السابقة.

خلال إدارة ترمب، لوّح كبار المسؤولين مرارا بأن "جميع الخيارات" بما فيها القوة العسكرية مطروحة. صُممت العقوبات لزيادة الضغط الداخلي، لكنها عززت رواية مادورو عن الحصار والضحية. استخدم العداء الخارجي دليلا على عدوان إمبراطوري، مقدّما حكومته كخط الدفاع الأخير عن السيادة الوطنية.

أ.ف.ب
صورة للرئيس الأميركي دونالد ترمب وشعار "عودوا إلى دياركم أيها اليانكي" في إشارة إلى ما يصفه المتظاهرو بالنزعة الاستعمارية الأميركية

تعكس هذه الاستراتيجية ديناميات شوهدت في كوبا ونيكاراغوا وغيرهما، حيث يسهم الضغط الخارجي في ترسيخ السلطة الاستبدادية بدلا من تفكيكها.

ورغم أن حكومة مادورو غير شعبية وتدير اقتصادا منهارا، فقد اكتسبت رصيدا سياسيا من خلال الإيحاء بوجود تهديد خارجي. أما المعارضة فانقسمت حول ما إذا كان الضغط الخارجي سيخدم قضيتها أم يضرها، فيما اختلف الفاعلون الدوليون حول تشديد العقوبات أو رفعها. في هذا المناخ، عاد المأزق القديم إلى الواجهة: التغيير بدا مقنعا في الخطاب لكنه عجز عن تقديم مسار عملي للمستقبل.

صُممت العقوبات لزيادة الضغط الداخلي، لكنها عززت رواية مادورو عن الحصار والضحية

لماذا تسيء الولايات المتحدة فهم فنزويلا؟

تعكس فنزويلا اليوم كثيرا من المشكلات البنيوية التي أضعفت تاريخيا تدخلات واشنطن في أميركا اللاتينية. فجذور الأزمة سياسية واجتماعية وأمنية أكثر منها أيديولوجية محضة. انهيار فنزويلا نتج عن الفساد وسوء الإدارة وتآكل المؤسسات. اختزال هذا المسار في صراع عقائدي يغفل الديناميات الاجتماعية الأوسع التي تبقي حكم مادورو قائما والشبكات التي تمكّن الدولة من الاستمرار بصورتها الحالية.

كما أن إزاحة مادورو لن تعني بالضرورة عودة الديمقراطية. فقد أثبتت التجارب السابقة أن إسقاط قائد من دون إعادة بناء المؤسسات يفاقم الاضطراب. الدولة الفنزويلية اليوم مجزأة، مثقلة بالعسكرة، ومتشابكة مع اقتصادات غير مشروعة. وأي انتقال جاد يتطلب توافقا داخليا طويل الأمد، وإطارا مؤسسيا معاد بناؤه، ودبلوماسية إقليمية منسقة.

أ.ف.ب
الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا والرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال اجتماع ثنائي على هامش القمة السابعة والأربعين لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في كوالالمبور في 26 أكتوبر 2025.

يزيد الضغط الخارجي المشهد تعقيدا. فتهديدات التدخل تعزز رواية الحكومة بأن فنزويلا تحت الهجوم، وهي قصة كررها مادورو لسنوات. وما زال هذا الخطاب يجد صدى لدى قطاعات تشكك في الولايات المتحدة أو تستحضر تدخلاتها السابقة في المنطقة، مما يعزز بالضبط الديناميات التي يسعى الفاعلون الخارجيون إلى تغييرها.

جذور الأزمة سياسية واجتماعية وأمنية أكثر منها أيديولوجية محضة

دروس التاريخ عن الحاضر

على مدى أكثر من قرن من محاولات إعادة تشكيل المسارات السياسية في أميركا اللاتينية، برزت مجموعة من الدروس الثابتة التي ما زالت تؤثر في الطريقة التي تنظر بها المنطقة إلى أفعال الولايات المتحدة اليوم.

أولا، نادرا ما يفضي تغيير الأنظمة إلى الديمقراطية التي يُوعَد بها. الضغط العسكري أو العمل السري قد يطيح بقائد، لكنه لا يكاد يبني مؤسسات سياسية شرعية أو مستدامة. والنتيجة غالبا اضطراب طويل الأمد، وحوكمة ضعيفة، ودورات من الصراع تتجاوز زمن التدخل الأصلي.

ثانيا، مفارقة "الرجل القوي" تقوّض صدقية الترويج للديمقراطية. إذ تمتلك الولايات المتحدة سجلا طويلا في إدانة الاستبداد لدى خصومها، بينما تدعم الاستبداد لدى حلفائها الاستراتيجيين. هذا التناقض يضعف الثقة، يعقّد الدبلوماسية، ويعزز الاعتقاد بأن أولويات واشنطن جيوسياسية أكثر منها ديمقراطية.

ثالثا، يستغل القادة السلطويون الضغط الخارجي لترسيخ قبضتهم. تهديدات التدخل أو العقوبات أو العزلة تغذي بسهولة سردية "الحصار الوطني"، وتقوّي القوى التي يُراد إضعافها.

هذه الدروس مجتمعة تكشف أن الأزمة الراهنة في فنزويلا لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق الأوسع. فهي جزء من نمط إقليمي طويل، حيث يولّد الضغط الخارجي في كثير من الأحيان نتائج غير مقصودة.

منعطف في سياسة الولايات المتحدة

اليوم، لم تعد أميركا اللاتينية ساحة جيوسياسية كما كانت في زمن الحرب الباردة، ومع ذلك ما زالت الولايات المتحدة تواجه إرث تدخلاتها السابقة، خصوصا عند الحديث عن فنزويلا. فالمنطقة شديدة الحساسية تجاه أي خطاب يشبه تغيير الأنظمة، لا لأن مادورو يحظى بتعاطف إقليمي، بل لأن ذكريات الإخفاقات الماضية ما زالت حيّة.

أ.ف.ب
مواطن فنزويلي يحمل شمعة خلال وقفة احتجاجية ضد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو ودعماً للرئيس الأميركي دونالد ترمب في حديقة لورديس في بوغوتا، 3 ديسمبر 2025.

والتحدي أمام واشنطن هو إدراك أن "الكتاب القديم" لم يعد صالحا. التهديدات العسكرية، والضغط السري، والعقوبات المصممة لإسقاط الأنظمة، ارتدت تاريخيا بنتائج عكسية. إن الاستقرار في المنطقة يعتمد على الشرعية لا على القوة.

يمكن للولايات المتحدة أن تدعم الفاعلين الديمقراطيين، وتعزز المؤسسات الإقليمية، وتساهم في معالجة الحاجات الإنسانية، لكن التاريخ يوضح أن قرار تغيير الحكومات يجب أن يكون بيد الفنزويليين أنفسهم.

بعد قرن من التدخلات، تواجه الولايات المتحدة حسابا مع تاريخها في أميركا اللاتينية. ومع عودة الدعوات إلى استراتيجيات مناهضة للأنظمة، تتذكر المنطقة ما أنتجته تلك الاستراتيجيات سابقا. والسؤال الحقيقي لم يعد ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على إسقاط حكومة، بل ما إذا كان ذلك قد جلب يوما الديمقراطية التي ادعت الدفاع عنها.

font change