كوميديا الشاعر السوداء

كوميديا الشاعر السوداء

استمع إلى المقال دقيقة

يرصد فيلم "شاعر" 2025، للمخرج الكولومبي سيمون ميسا سوتو، حياة أوسكار ريستريبو الضالعة في العبث، بالنظر إليه كشاعر نذر نفسه للكتابة، فكانت حصيلته الأدبية إصدار ديوانين في عز شبابه، نال إثرهما حفنة جوائز محترمة، لكن مع التقدم في السن، وقد أمسى في منتصف العمر، سيتلاشى وهم المجد الشعري، مقابل عطالته عن العمل، فضلا عن اختلال توازنه العائلي مع حالة طلاق طارئة، اضطرته على نحو بائس لكي يعيش مع أمه المريضة مرغاريتا، بينما ترتبك علاقته بابنته دانييلا التي تعاني مهانة بسبب الصورة العامة المحرجة لوالدها في التقدير الاجتماعي.

لا عيش يمكن كسبه من الشعر، هي الحقيقة الصادمة، ومع ذلك يحلم أوسكار في أن يصير شاعرا كولومبياً عظيما مثل خوسيه أسونسيون سيلفا، مولياً ظهره لسياط الجلد التي يتلقاها من إخوته، ومن نقابة الشعراء، ومن مجتمع استهلاكي لا يعير الأدب كسرة قيمة أو انتباه.

أوسكار الهش، الفوضوي، المتسكع، السكير، الذي يفسد أمسية شعرية بسبب ثمله، راطنا بخطبة ساخرة عن عبث المحاولة في أن تعيش حياتك كفنان، وإن كان فضائحيا، مغرورا بما لا يتلاءم ومحيطه، هو وحيد في النهاية، يعاني أفدح الخيبات الوجودية.

تتحول حياته ما إن يصادف دفترا للفتاة يورلادي ذات الخمس عشرة سنة، حينما يجرب العمل بدوام جزئي كمُدرس مؤقت، ويحاول تبنيها كشاعرة، إذ ينبهر بموهبتها في الكتابة والرسم، ويسعى لكي يحصل لها على منحة شعرية، كأنما يراهن من خلال أيقونتها على أن تتألق في تحقيق حلم الشاعر العظيم الذي فاته أن يكونه.

بيد أن المفارقة تنكشف وتحتدّ في العلاقة النفعية ليورلادي بالشعر، بالنظر إلى انحدارها من وسط فقير، وبذا فطريق الكتابة الشعرية لن يفضي إلى خلاص مادي محلوم به، يفصلها بأريحية عن سطوة الضائقة، ولذا فإن وقتها أجدر بأن تهدره في أشياء أخرى مهما بدت تافهة.

ما إن يتمكن أوسكار من حجز مكان لها في مهرجان شعري مرموق، حتى يسيل لعاب المسؤولين، وتتهافت عليها مؤسسات بغرض الرعاية المالية. والنوايا الانتهازية وراء هذا الاصطفاف الأرعن إلى جانب الفتاة السمراء، محض ذريعة لجمع التبرعات.

في هذا المحفل المزيف، يحاول أوسكار فضح أقنعة الكرنفال، بدءا بالفنانين المدعين، ورعاة الثقافة من أصحاب الأموال المشبوهة الذين يزعمون اهتماما بالقيم الفنية، فيما حقيقتهم مسألة تبييض لوجه من وجوه فسادهم، بسطوة من نفوذهم السياسي، وأما الهيئات الخارجية التي أبدت اهتماما إنسانيا في نزوع لدعم المواهب الفنية من ذوي البشرة السمراء، استنادا إلى وضعهم الاجتماعي المأزوم، فمجرد دعاية جوفاء.

أكثر من ذلك، يظهر أوسكار في برنامج حواري ويقنع بمهارة في الترويج لملتقى الشعراء الشباب، وقد قدمت فيه يورلادي مادة شعرية جيدة، غير أن مبالغة أوسكار في الشرب، وإهماله لتلميذته الثملة هي الأخرى، مع تفاقم الشائعات باستغلاله الجنسي لها، سيعرضه للطرد من العمل، وتتدهور أحواله دركا أسفل تلو آخر، إلى أن تعثر ابنته دانييلا على دفترها أخيرا في المنزل، وقد استعملته يورلادي عندما عثرت عليه في سيارة أوسكار، ويتضمن رسالة من يورلادي إلى دانييلا، تعرب فيها عن حبها للشعر، وإن كان ليس بحجم الشغف الذي يريده منها أوسكار. وغير ذلك، تفصح عما حدث ليلة ثملها، مُبرِّئة أوسكار من وصمة التهم التي طالته من لدن الجميع، وكان لذلك أثر بمثابة ترميم صورة والدها أوسكار الذي ستتقبل عودته أخيرا.

يقارب الفيلم جدوى الفن، الشعر بالذات، في معالجة مأساوية وساخرة في آن، تصخب بالمفارقات

يوازن الفيلم بين النزوع الكوميدي، والنزوع الدرامي في آن، فبالقدر الذي ينتاب أوسكار شعور الفشل كشاعر أولا، وكأب ثانيا، يؤمن باستطاعته أن يتحوّل إلى عرّاب، أو مرشد، يرعى موهبة ويقودها إلى نجاح مبهر، وهذا ما لا يتحقّق بسبب ارتكاب الحماقات ذاتها.

من الهزلي إلى المأساوي، يستغرق الفيلم 120 دقيقة، جانحا إلى اعتماد أسلوب تسجيلي، مع تصوير سينمائي على مقاس 16 ملم، ممهور ببراعة مونتاج لافتة، تعزّز من حس نقائه، وصدق معيشه، وسوداوية تخييله، حدّ أن بطله التراجيدي وإن كان فاشلا، مثيرا للشفقة من فرط بؤسه، تشفع له نزاهته، وجسارته في فضح الكرنفال الذي يستنسر فيه دجاج النخب الثقافية الزائفة، والمؤسسات المالية المدعية، ولا يستثني من ذلك ضحايا حزام الفقر الذي يطوق المشهد العام.

بالرهان على واقعية رمادية، ذات إيقاع بصري مرتبك، وفق وتيرة بطيئة للحركة، ضمن حيز مساحات داخلية ضيقة، مع إضاءة خافتة، ينجح فيلم "شاعر" في زحزحة شخصية أوسكار إلى زاوية حادة هي نفسية مزمنة أكثر منها شيء آخر، يتعرى فيها البطل المأساوي مرئيا بلا هوادة، وفيما يتعرى بقسوة وعبث، يعري معه من حوله، غير مهادن في الكشف عن الجانب المظلم للفن والفنان معا.

في المجمل يقارب الفيلم جدوى الفن، الشعر بالذات، في معالجة مأساوية وساخرة في آن، تصخب بالمفارقات، ذات منحى وجودي، تُشرّح بنصل لاذعٍ، تجارب إخفاقات الشعراء والفنانين، ومعضلة أو وهم الوصاية الإبداعية، من منظور أخلاقي.

حصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم في نظرة ما بـ"مهرجان كان" لهذه السنة، وجائزة "مهرجان ميونيخ"، وجائزة الآفاق المشرقة في "مهرجان ملبورن"، وجائزة النجمة الذهبية لـ"مهرجان الجونة"، وهو الفيلم الثاني بعد تجربته السينمائية الأولى "آمبارو" عام 2021.

font change