"حماس"... العقلية القاصرة

العقلية التي تمثلها "حماس" هي ما يبقي الشعب الفلسطيني أسيرا للمأساة

"حماس"... العقلية القاصرة

استمع إلى المقال دقيقة

يخطئ من يظن أن المأساة الفلسطينية هي قدر محتوم، أو أنها فقط نتاج قوة خارجية لا يمكن مقاومتها، لأن جزءا كبيرا من استمرار هذه المأساة، وتحديدا ما يعانيه سكان قطاع غزة اليوم، هو نتاج عقلية قاصرة تدير القضية بمنطق الفصيل لا بمنطق الدولة، وهذا المنطق الضيق هو الذي يبقي القضية أسيرة حسابات الربح و"الخسارة التكتيكية"، ويغفل الأبعاد الاستراتيجية التي تحقق السيادة الحقيقية.

لقد جاءت الكلمة الأخيرة للقيادي في حركة "حماس" خليل الحية، لتقدم دليلا واضحا على هذا القصور. ففي خطاب تناول فيه الكثير من الموضوعات والقضايا، وقدم الشكر لدول عديدة، كانت المفارقة الكبرى في التجاهل المتعمد للمملكة العربية السعودية، والذي لا يمكن اعتباره مجرد زلة دبلوماسية، بل هو انكشاف لعقلية لا ترى أبعد من مصالحها التنظيمية الضيقة.

فكيف يمكن لمن يدعي تمثيل القضية أن يتجاهل القوة الفاعلة التي كانت قضيتها الأولى تاريخيا هي القضية الفلسطينية؟ والأهم، كيف يتجاهل الدور الذي لعبته السعودية خلال السنوات الماضية، وتحديدا بعد مغامرة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي أدت إلى حرب إبادة مروعة تعرض لها سكان غزة؟ إن هذا التصرف لا يسيء إلى الرياض، التي لا تحتاج إلى شهادة، بقدر ما يظهر أن "حماس" لا تمتلك بوصلة سياسية سليمة.

الدبلوماسية السعودية تحركت بثقلها مدركة أن الحل لا يمكن أن يأتي إلا عبر القنوات الدولية، وجمعت المملكة العالم في مؤتمر تاريخي في نيويورك لحل الدولتين

مواقف السعودية نابعة من مبدأ راسخ يضع الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة فوق كل اعتبار، وليست نابعة من الانحياز لحركة أو حزب أو جماعة، وهذا الوضوح هو ما منح الرياض الثقل اللازم لتقود الجهود الدبلوماسية العالمية، مدركة أن القوة الحقيقية تكمن في التأثير السياسي لا في تغذية الصراعات.
الدبلوماسية السعودية تحركت بثقلها مدركة أن الحل لا يمكن أن يأتي إلا عبر القنوات الدولية، وجمعت المملكة العالم في مؤتمر تاريخي في نيويورك لحل الدولتين، واستعرضت نتائجه كخارطة طريق، ولم يكن هذا التحرك مجرد خطاب عاطفي، إنما استثمار حقيقي للثقل السياسي والاقتصادي في خدمة القضية، كما مارست الرياض ضغطا دبلوماسيا على عدد كبير من الدول للاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما أسفر عن موجة اعترافات دولية رفعت عدد الدول المعترفة إلى أكثر من 150 دولة، وهذا الإنجاز الدبلوماسي هو ثمرة منطق الدولة الذي يجيد استخدام أدوات القوة.

أدنى قواعد اللياقة السياسية تقتضي الاعتراف بالدور المحوري الذي تلعبه الرياض في حماية مصالح الشعب الفلسطيني، فمواقف السعودية لا تغطى بغربال، ويعرفها عدوها قبل صديقها لما تتمتع به من وضوح وتأثير

الفرق بين استراتيجيات الدول واستراتيجيات الفصائل يكمن في القدرة على ربط المصالح الكبرى بالقضايا، والمملكة جعلت القضية الفلسطينية حاضرة في شراكاتها الاستراتيجية مع دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، واشترطت إيجاد مسار لا رجعة فيه نحو إقامة الدولة الفلسطينية، وكان الرفض القاطع للتطبيع دون هذا الشرط دليلا على أن مواقفها لا تدار بالمصالح الضيقة، بل بالرؤية الاستراتيجية التي تضع الأمن والاستقرار الإقليمي في المقام الأول، وهذا التصرف هو الذي يقنع العدو قبل الصديق بأن الموقف السعودي هو موقف لا يمكن تجاوزه أو تجاهله.
في المقابل، نجد أن العقلية التي يمثلها خطاب الحية، والتي تفتقد إلى أدنى مستويات الدبلوماسية، هي عقلية تؤكد أنها لا ترى أبعد من مصالحها التنظيمية وتفضل الانغلاق الفصائلي، وتصر على أن تكون القضية أسيرة سلاحها ومواقفها وشعاراتها، حتى لو كان الثمن هو حرب إبادة يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وهذا التصرف يؤكد أن الحركة لا تمتلك الرؤية لتمييز من يعمل من أجل القضية، حيث إنه حتى لو افترضنا أنها تكن العداء السياسي للسعودية، فإن أدنى قواعد اللياقة السياسية تقتضي الاعتراف بالدور المحوري الذي تلعبه الرياض في حماية مصالح الشعب الفلسطيني، فمواقف السعودية لا تغطى بغربال، ويعرفها عدوها قبل صديقها لما تتمتع به من وضوح وتأثير.
هذا المشهد يختصر الفرق بين من يعمل من أجل إقامة دولة فلسطينية ومن يعمل من أجل بقاء تنظيم أو حركة، والعقلية التي تمثلها "حماس" هي ما يبقي الشعب الفلسطيني أسيرا للمأساة، أما الرياض فلا تحتاج إلى شكر أو شهادة، فمواقفها نابعة من إيمان بأن القضية هي قضية الشعب الفلسطيني ككل، وأن الحل لا يمكن أن يأتي إلا عبر الدبلوماسية الحكيمة التي تجيد الدول استخدامها، وليس عبر حسابات الفصائل التي تبقي غزة في دائرة الصراع الأبدي، متجاهلة حقيقة أن الطريق إلى "الدولة" يمر عبر عواصم القرار التي تحركها الدبلوماسية... وليس عبر أنفاق العزلة.

font change