لماذا يكثر النقاد والأطباء في جوائز الرواية؟

لماذا يكثر النقاد والأطباء في جوائز الرواية؟

استمع إلى المقال دقيقة

مع إعلان القوائم الطويلة للجوائز الأدبية الكبرى، نلاحظ تكرار حضور أسماء لافتة تنتمي إلى خلفيات مهنية بعينها، على رأسها النقاد والأطباء. هذه الملاحظة، التي قد تبدو للوهلة الأولى عابرة، لعلها تفتح بابا أوسع للتساؤل حول تحولات المشهد الروائي المعاصر، فمن يكتب الرواية اليوم؟ وبأي أدوات؟

بطبيعة الحال الناقد الأدبي ليس قارئا عاديا، فهو يعيش داخل النصوص. يقرأ البنية، ويحلل الإيقاع، ويدرك آليات السرد، ويعرف تاريخ الأشكال الروائية وتحولاتها، وعندما يقرر كتابة رواية، فإنه يفعل ذلك مسلحا بوعي عميق باللعبة السردية، ولعل عبد الفتاح كليطو نموذج بارز في هذا السياق.

لكن هذا الوعي سلاح ذو حدين، فبعض الروايات التي يكتبها نقاد تقع في فخ الذكاء الزائد، نصوص متقنة، واعية بنفسها أكثر مما ينبغي، وأحيانا باردة شعوريا، في المقابل، حين ينجح الناقد روائيا، فإنه غالبا ما ينجح لأنه تخلى جزئيا عن سلطته النقدية، وسمح للفوضى، وللهشاشة الإنسانية، بأن تتسلل إلى النص.

تاريخ الأدب يعطينا أمثلة على هذا العبور الإشكالي بين النقد والإبداع، ويظهر أن المعرفة وحدها لا تصنع رواية عظيمة، لكنها قد تمنحها تماسكا وقابلية للدفاع النقدي، وهي صفة باتت مطلوبة بقوة في زمن الجوائز، فالناقد يدخل الرواية وفي رأسه أسئلة المعنى، ووعي باللغة، وشك دائم في الحكاية، ونصه يبدأ من الفكرة، ولا يثق بالسرد البريء، ولا بالانفعال السهل، ولا بالنهاية المفتوحة، بينما نجد قوة روايته في الذكاء البنيوي وتعدد الأصوات والعمق التأويلي، لكن صوته الحاد يجعل النص واعيا بنفسه أكثر من اللازم، وقد يشعر القارئ بأنه يمتحن لا يفتن.. فتطغى الفكرة على الروح.

ما أريد قوله إن الناقد يفهم كثيرا، لكن الفهم وحده لا يصنع الدهشة.

أما بالنسبة إلى حضور الأطباء في الأدب، فله جذور أكثر رسوخا، منذ القرن التاسع عشر، يكفي أن نستحضر اسم أنطون تشيخوف، الطبيب الذي رأى في العيادة مختبرا للروح البشرية، فكانت مسرحيته "العنبر رقم6"، تشريحا للطب حين يتحول إلى اللامبالاة، أي طبيب يرى المرض، ويفهم أسبابه، لكنه يتخلى عن مسؤوليته الأخلاقية، ونجده مؤمنا من خلال النص بأن الألم وهم، وأن المعاناة فكرة ذهنية، وكذلك القاص والروائي يوسف إدريس الطبيب النفسي، الذي كتب رواية "الحرام"، فلم يكن الجسد لديه رمزا، بل مادة حية للفهم، الجسد المرهق والمستنزف الذي تسقط عليه السلطة الاجتماعية ذنبا مضاعفا، والحس الطبي يراقب الجسد ويسجل الألم دون أن يدينه أو يفسره أخلاقيا.

بحكم مهنته، يرى الطبيب الإنسان في لحظات ضعفه القصوى. يرى الخوف والألم والاعترافات التي لا تقال في العلن. يتعامل مع الجسد لا بوصفه فكرة، بل بوصفه كيانا هشا قابلا للكسر. هذه الخبرة تمنحه قدرة نادرة على تفكيك النفس البشرية، ولكنه حين يكتب رواية، يبدو أقل خيالا، ويقدم أجوبة حول الشفاء والعجز، وكيف نعيش ونتألم؟ وليس لماذا نتألم. إذن الطبيب لا يختلق الدراما في النص، فهو يراها كل يوم.

لغة الروائي الموهوب المحلق، تتنفس وتتعثر، تخطئ أحيانا لكنها لا تتصنع، لأنه لا يستخدم اللغة ليثبت شيئا، بل ليكشف شيئا

ولكن من هو الروائي الحقيقي؟ بالطبع هو ليس أقل معرفة من الناقد ومن الطبيب، ولا أقل وعيا منهما، ولا أقل احتكاكا بالألم، لكنه يملك شيئا مختلفا تماما متعلقا بالعمل الداخلي للحكاية، وهو لا يبدأ من الجرح فقط، ولا حتى من الفكرة، بل من نبضة خفية لا يعرف هو نفسه مصدرها، ولا يشخصها ولا يحللها، بل يصغي إليها، فلا يقول هكذا هو الإنسان، ولا هكذا السلطة، ولا هكذا يتألم الجسد، بل يقول للقارئ ضمنا: تعال وانظر وأنا سأمشي معك.

وهنا يثبت للقارئ أنه لا يعرف أكثر منه لكنه يرى أكثر، فهو يملك حساسية استثنائية للتفاصيل وقدرة على التقاط ما يمر بلا اسم، مع شجاعة الدخول إلى مناطق غير مفسرة. وبالتالي لا يشرح الألم ولا يعيش النص قبل أن يكتبه، ولا يفكر كيف تبنى الحبكة، ولا أين يضع الفجوة، وأين يترك الصمت، بل يجعلك تشعر به دون أن تدري كيف.

لغة الروائي الموهوب المحلق، تتنفس وتتعثر، تخطئ أحيانا لكنها لا تتصنع، لأنه لا يستخدم اللغة ليثبت شيئا، بل ليكشف شيئا، ولأنه لا يخاف من الجهل، وهنا سر التحليق الحقيقي.

 ويبقى السؤال: هل تغيرت ذائقة الجوائز الأدبية وقد باتت تتأثر بالمشهد الثقافي العالمي، وبالنقد الأكاديمي، وبفكرة الرواية الجادة، القابلة للترجمة والنقاش؟

ولعل كثرة النقاد والأطباء في قوائم الجوائز لا تعني أنهم أفضل بالضرورة، بل تعني أن الرواية المعاصرة تمر بمرحلة عقلنة واضحة. مرحلة يراد فيها للنص أن يكون مفهوما، قابلا للتأويل، وقادرا على الوقوف أمام النقد العالمي.

ويبقى السؤال مفتوحا: هل نريد رواية تشرح العالم، أم رواية تربكه؟

لعل الرواية العظيمة، في كل الأزمنة، هي تلك التي تنجح في الجمع بين الأمرين، وهذا ما يجعل الجميع يرغب في كتابة الرواية، فلم تعد حكرا على الروائيين. اليوم، يكتب الرواية الناقد والشاعر والطبيب والفيلسوف والمؤرخ، بل وحتى من أعلن سابقا عداءه لهذا الجنس الأدبي، واعتبره شكلا مائعا أو فاسدا، أو أقل نقاء من الشعر والفكر. هذه المفارقة ليست تناقضا عابرا، بل علامة على تحول عميق في وظيفة الرواية ومكانتها في الثقافة المعاصرة.

الرواية بوصفها الوعاء الأكبر، بل ربما هي الوعاء الأخير للمعرفة الإنسانية.

 

font change