أفول الزمن الإيراني

أفول الزمن الإيراني

استمع إلى المقال دقيقة

منذ انتصار الثورة الإيرانية في طهران وسيطرة الإسلاميين على السلطة هناك، كان الشغل الشاغل للجمهورية الإسلامية هو نشر نفوذها وهيمنتها على دول المنطقة تحت عنوان "تصدير الثورة"، ووجدت "أداتها" الأنسب لتحقيق مشروعها التوسعي في القضية الفلسطينية، فتحولت القضية إلى سلعة للمتاجرة ومبررا للتدخل الإيراني في عدد من الدول، ودافعا للتحريض على دول أخرى دون أن يعود الأمر بأي فائدة تُذكر على فلسطين والفلسطينيين.

وبعد أكثر من أربعة عقود على حكم الولي الفقيه، بدأ عصر الأفول الإيراني في المنطقة، هُزمت إيران في سوريا، الحلقة الأهم في مشروعها التوسعي والشريك الأساسي في زمن الأسدين بنشر فوضى السلاح والميليشيات في الدول العربية.

ساهمت عملية "طوفان الأقصى" وتبعاتها في إطلاق معركة حقيقية ضد إيران وأذرعها، ولكن هذه الحرب لا يبدو أنها انتهت بعدُ، رغم النتائج الكبيرة التي تحققت. طهران لا زالت تحاول أن تلقط أنفاسها وتعيد إحياء من لا فائدة من إحيائه، "حزب الله" اللبناني.

خسر "الحزب" الحرب مع إسرائيل، توهم أن دخوله في "حرب الإسناد" سيقوي من موقف "حماس" في غزة ويعزز مكاسبه في لبنان، ولكنه كان منهكا بعد سنوات من دخوله الحرب مع بشار الأسد ضد السوريين في سوريا، وكان متخما بالعنجهية فلم يتنبه إلى حجم الاختراق الإسرائيلي لصفوفه وقياداته. ورغم كل ما لحق به وبالمحور من خسائر يُصر "حزب الله" على الإنكار، مرة يتشدق بالانتصارات التي حققها ومرات يجاهر بأنه اليوم أقوى من أي وقت مضى بعدما استطاع، حسب زعمه، إعادة تسليح نفسه ولملمة صفوفه. يعلم "حزب الله" وأمينه العام أن هذا غير صحيح، ويعلم أن أحدا لا يصدق قوله وتشدقه، ورغم ذلك يصر عليه، فهل يعلم أن هذا الادعاء لن يأتي إلا بمزيد من الويلات على لبنان؟

يأتي الموقف من طهران على لسان ممثل "حزب اللّه" في إيران بعد اجتماعه مع مستشار المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي، بأن التخلّي عن السلاح غير مطروح تحت أي ظرف.

تُدرك طهران أنها خسرت قوة الردع المتمثلة بأذرعها في المنطقة، ولكن على ما يبدو أنها لا تزال تصر على استعمال لبنان على سبيل المثال لا الحصر ككيس رمل في حربها مع إسرائيل والولايات المتحدة، حرب النفوذ لا حرب تحرير فلسطين بطبيعة الحال.

انتهى ما كان يُعرف بـ"محور الممانعة"، وحده لبنان عالق في المنتصف ينتظر لينفض عن كاهله ما تبقى من هذا المحور، لكن ممانعة "الحزب" الاعتراف بهزيمته لن تغير من وقع الهزيمة

ينسف "حزب الله" ومن خلفه إيران كل محاولات الحكومة اللبنانية لتجنيب لبنان حربا جديدة، حتى بات اللبنانيون ينتظرون حربا جديدة، بعد نهاية عطلة الأعياد، وكأن الحرب لا مفر منها، وكأن لبنان لا قرار له بالحرب على أرضه سوى محاولات التخفيف من آثارها أو تأجيل مفاعيلها.

تحررت سوريا من السيطرة الإيرانية بعد سقوط نظام الأسدين، وها هي تحاول النهوض مجددا بعد رفع العقوبات عنها، وهو ما سيأخذ سنوات، فحجم الدمار الذي تخلفه إيران يفوق الدمار الذي تخلفه الحروب العسكرية. يحاول العراق جاهدا التخلص من هيمنة الميليشيات الإيرانية واستعادة الحد الأدنى من سيادته في ظل الواقع الجغرافي والسياسي الحالي، اليمن ممزق بفعل ميليشيا الحوثي الموالية لطهران، وغزة ما زالت تدفع ثمن مغامرة "حماس" وإجرام نتنياهو، ولبنان بين شد وجذب لا يبدو أنه سيستطيع بقدراته الذاتية وحدها التخلص من إرث الهيمنة الإيرانية.

انتهى ما كان يُعرف بـ"محور الممانعة"، وحده لبنان عالق في المنتصف ينتظر لينفض عن كاهله ما تبقى من هذا المحور، لكن ممانعة "الحزب" الاعتراف بهزيمته لن تغير من وقع الهزيمة. لا سوريا ستكون ممرا للسلاح، ولا المجتمع العربي والدولي سيتساهل مع محاولات إيران بالعودة إلى المتوسط من بوابة بيروت، كل ما في الأمر  هو كيف سيتحقق ذلك، بمزيد من المعارك والدمار أم بالواقعية والاعتراف بما تسبب به "حزب الله" وإيران من خسائر على بنية الدولة اللبنانية الهشة أساسا بسبب تركيبتها.

ستمتنع طهران عن الاعتراف بهزائمها والعودة إلى داخل حدودها، هي تدرك أن ذلك سيترتب عليه الكثير داخليا مع الواقع المزري معيشيا واجتماعيا واقتصاديا في الداخل الإيراني، خسرت مشروعا عملت عليه لعقود ولم يعد طموحها النووي كما كان قبل سنوات رغم كل المكابرات، بقي أن يخرج لبنان بأقل الأضرار الممكنة رغم صعوبة قبول "حزب الله" بأن يضع مصلحة لبنان قبل مصلحة إيران.

font change