قبل نحو أربع سنوات، أثار إعلان المخرج السينمائي المصري داود عبد السيد اعتزاله العمل الفني، جدلا واسعا في أوساط السينما المصرية والعربية. فعلى الرغم من أن رصيده الفني لم يكن متناسبا مع نحو نصف قرن أمضاها في صناعة الأفلام، فقد نجح داود عبد السيد في حفر اسمه بصفته واحدا من أهم مخرجي السينما العربية. قدم عبد السيد آخر أفلامه، "قدرات غير عادية"، قبل أكثر من عشر سنوات، الأمر الذي يبدو أنه لم يكن مجرد تمهيد لعزوفه عن السينما، أو عزوفها عنه، بقدر ما بدا استشعارا مبكرا بالاكتفاء أو بالصعوبة في التواصل لاحقا مع المعطيات المستجدة على الصناعة. وقبل أن يكمل عامه الثمانين (ولد في 1946)، رحل عن عالمنا بعد فترة من المعاناة مع المرض.
سينما الرحلة الوجودية
مثل معظم مجايليه من صناع السينما المصريين، تأثر داود عبد السيد بالموجة الفرنسية الجديدة، محتفيا بسينما المخرج المؤلف، وما توفره من رؤية شاملة كثيرا ما يسعى إليها المخرجون. وفي أحد الحوارات معه، يشير عبد السيد إلى أن كتابة السيناريو تمثل "لحظة حسم مبكر للخيارات الفنية"، ثم تأتي عملية الإخراج لاحقا لترجمة ما تشكل ذهنيا على الشاشة، المعادلة التي التزمها في معظم أفلامه، سواء كان ذلك من طريق التأليف المباشر للسينما، أو من خلال الاشتغال على نص أدبي بمشاركة مؤلفه، كما في فيلم "الكيت كات" المأخوذ عن رواية "مالك الحزين" للكاتب الراحل إبراهيم أصلان.
باستثناء هذا، يظل "أرض الأحلام" هو الفيلم الوحيد الذي أخرجه عبد السيد عن سيناريو لم يكتبه، فهو من تأليف هاني فوزي، ومن هنا لم يكن مستغربا، تكرار عدد من الثيمات والموتيفات في أفلامه، تتقدمها دراما الرحلة المصيرية التي يخرج منها الأبطال وقد تحولوا كليا، ومن ثم تتماس الأحداث بنسب متفاوتة مع التحولات المجتمعية والسياسية في مصر، على مدار نصف القرن الماضي تقريبا، فلم يبتعد داود عبد السيد في أفلامه كثيرا عن هذه الفترة، مكتفيا بتجربته الذاتية في صورة شهادة مغايرة عما سبقها، وتمثل شهادة على رحلة وجود وتحول سينمائية وفكرية لصاحبها، وهو تحول انطلق من توجه يساري دمج السياسة بالمجتمع في "الصعاليك" (1985)، قبل أن يرسو لاحقا في مساحة ربما كانت أكثر صفاء، أو تحررا من الثقل الوجودي في "قدرات غير عادية".


