داود عبد السيد صاحب "الكيت كات" الذي قدم بعض أجمل روائع السينما العربية

اعتزاله الإخراج جاء تعبيرا بليغا عن تردي الواقع السينمائي

AFP
AFP
المخرج المصري داود عبد السيد يحمل جائزتي تنويه خاص عن فيلميه "مواطن ومخبر وحرامي" و"أرض الخوف" خلال حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية لدول حوض البحر المتوسط في مدينة الإسكندرية، 14 سبتمبر 2010

داود عبد السيد صاحب "الكيت كات" الذي قدم بعض أجمل روائع السينما العربية

قبل نحو أربع سنوات، أثار إعلان المخرج السينمائي المصري داود عبد السيد اعتزاله العمل الفني، جدلا واسعا في أوساط السينما المصرية والعربية. فعلى الرغم من أن رصيده الفني لم يكن متناسبا مع نحو نصف قرن أمضاها في صناعة الأفلام، فقد نجح داود عبد السيد في حفر اسمه بصفته واحدا من أهم مخرجي السينما العربية. قدم عبد السيد آخر أفلامه، "قدرات غير عادية"، قبل أكثر من عشر سنوات، الأمر الذي يبدو أنه لم يكن مجرد تمهيد لعزوفه عن السينما، أو عزوفها عنه، بقدر ما بدا استشعارا مبكرا بالاكتفاء أو بالصعوبة في التواصل لاحقا مع المعطيات المستجدة على الصناعة. وقبل أن يكمل عامه الثمانين (ولد في 1946)، رحل عن عالمنا بعد فترة من المعاناة مع المرض.

سينما الرحلة الوجودية

مثل معظم مجايليه من صناع السينما المصريين، تأثر داود عبد السيد بالموجة الفرنسية الجديدة، محتفيا بسينما المخرج المؤلف، وما توفره من رؤية شاملة كثيرا ما يسعى إليها المخرجون. وفي أحد الحوارات معه، يشير عبد السيد إلى أن كتابة السيناريو تمثل "لحظة حسم مبكر للخيارات الفنية"، ثم تأتي عملية الإخراج لاحقا لترجمة ما تشكل ذهنيا على الشاشة، المعادلة التي التزمها في معظم أفلامه، سواء كان ذلك من طريق التأليف المباشر للسينما، أو من خلال الاشتغال على نص أدبي بمشاركة مؤلفه، كما في فيلم "الكيت كات" المأخوذ عن رواية "مالك الحزين" للكاتب الراحل إبراهيم أصلان.

باستثناء هذا، يظل "أرض الأحلام" هو الفيلم الوحيد الذي أخرجه عبد السيد عن سيناريو لم يكتبه، فهو من تأليف هاني فوزي، ومن هنا لم يكن مستغربا، تكرار عدد من الثيمات والموتيفات في أفلامه، تتقدمها دراما الرحلة المصيرية التي يخرج منها الأبطال وقد تحولوا كليا، ومن ثم تتماس الأحداث بنسب متفاوتة مع التحولات المجتمعية والسياسية في مصر، على مدار نصف القرن الماضي تقريبا، فلم يبتعد داود عبد السيد في أفلامه كثيرا عن هذه الفترة، مكتفيا بتجربته الذاتية في صورة شهادة مغايرة عما سبقها، وتمثل شهادة على رحلة وجود وتحول سينمائية وفكرية لصاحبها، وهو تحول انطلق من توجه يساري دمج السياسة بالمجتمع في "الصعاليك" (1985)، قبل أن يرسو لاحقا في مساحة ربما كانت أكثر صفاء، أو تحررا من الثقل الوجودي في "قدرات غير عادية".

يتكرر في أفلامه عدد من الثيمات، تتقدمها دراما الرحلة المصيرية التي يخرج منها الأبطال وقد تحولوا كليا، ومن ثم تتماس الأحداث بنسب متفاوتة مع التحولات المجتمعية والسياسية 

خلال الرحلة، يضع عبد السيد شخصيات أفلامه في مواجهة مباشرة مع التجربة الوجودية، تتصاعد وتيرتها حين يمنحهم إمكان تحقيق أمنياتهم، لكل بطل من أبطاله أمنية أو حلم يريد تحقيقه، وبذلك يعطيهم شرارة الانطلاق سعيا وراء هدف، الذي يتحول بدوره لاحقا إلى اختبار للذات وللعالم على حد سواء. ولا يشترط أن تكون هذه الأهداف كبيرة أو استثنائية، تكفي رغبة قديمة ومؤجلة مثلا لنرجس علي ريحان في فيلم "أرض الأحلام" (1993)، بأن تسهر حتى الصباح ولو لليلة واحدة، أو أمنية يوسف بطل "رسائل البحر" (2010) في أن يصبح أقوى، أو حتى سعي بطلي "الصعاليك" للتحرر من وضعهما الهامشي، انطلاقا من الجملة التي بدت كأنها قرار من العقل المدبر، يؤدي دوره نور الشريف، "نفسنا منبقوش صعاليك".

ملصق فيلم "رسائل البحر" (2010)

مع تباين الأمنيات، سواء في الحدة أو الوضوح، فإنها تؤدي الوظيفة نفسها، دفع الشخصية إلى غمار التجربة، وكشف المسافة بين ما يرغب فيه وما يتيحه الواقع، بداية من فيلم "البحث عن سيد مرزوق" (1990) مرورا بالأفلام اللاحقة، بما فيها "أرض الخوف" (2000)، و"سارق الفرح" (1994) وحتى "مواطن ومخبر وحرامي" (2001)، حيث تخضع جميع الشخصيات لقوانين الرحلة، التي قد لا تفضي في كثير من الأحيان إلى بر أمان أو تقدم وعدا بالخلاص.

في "أرض الخوف" يذهب داود عبد السيد في فكرة الرحلة إلى الحد الأقصى، حيث يكون على بطل فيلمه (ضابط الشرطة) التخلي عن ماضيه، وعن مبادئه كشرطي، وتقمص شخصية أخرى (تاجر مخدرات)، سرعان ما تصبح شخصيته الوحيدة. هنا نختبر فكرة ضياع الهوية أو استبدالها بهوية أخرى مناقضة، مما أتاح لعبد السيد حيزا واسعا لاختبار أفكاره الفلسفية حول معنى الخير والشر، والحب والكراهية، والحياة والموت، وفي خضم ذلك كله معنى المصير بالنسبة إلى شخص يعيش حتى النهاية حياة شخص آخر.

مثال "الكيت كات"

لعل أشهر أفلام داود عبد السيد، من الناحية الجماهيرية، أو الفيلم الأكثر إجماعا حوله نقديا، هو "الكيت كات" (1991) الذي أدى فيه الراحل محمود عبد العزيز دور الشيخ حسني الضرير الذي يرفض الاعتراف بواقع أنه ضرير، وهو الدور الذي يعتبره كثر أفضل أدواره.

في "أرض الخوف" نختبر فكرة ضياع الهوية أو استبدالها بهوية أخرى مناقضة، مما أتاح لعبد السيد حيزا واسعا لاختبار أفكاره الفلسفية حول معنى الخير والشر، والحب والكراهية، والحياة والموت

 ولعل المكانة الخاصة التي يحتلها "الكيت كات" في وجدان محبي السينما في العالم العربي، تنبع من تكامل جميع عناصره على نحو يندر وجودها في فيلم واحد، من إخراج وتمثيل وديكورات (أنسي أبو سيف) وموسيقى تصويرية (راجح داود)، كان كل واحد منها بطلا بمعنى من المعاني، وتحول مدرسة قائمة في مجاله، هذا فضلا عن قدرة الفيلم على الجمع بين الدراما والكوميديا، ضمن معادلة خاصة تعلي دوما اللمسة الإنسانية، وتجعل من كل مشهد في الفيلم تقريبا وليمة سينمائية قائمة بذاتها. تضمن الفيلم ثلاث أغنيات شهيرة ضمت كبار الشعر والتلحين في ذلك الوقت، "ورق الفل" (من التراث الشعبي) لسيد مكاوي، و"الصهبجية" من شعر صلاح جاهين وتلحين سيد مكاوي، و"يلا بينا" من شعر سيد حجاب وتلحين إبراهيم رجب.

الفيلم تضمن بعض أكثر المشاهد أيقونية في السينما العربية، ومنها مشهد الشيخ حسني وهو يجر جثمان العم مجاهد بعربة "كارو"، ومشهد قيادته الدراجة النارية "الفيسبا" في الحي الشعبي، ومشهد الضرير الذي يقود ضريرا، ومشهد العزاء الذي يفضح فيه الشيخ حسني أسرار الحي، وغيرها الكثير من المشاهد. معادلة سحرية نادرة جعلت "الكيت كات" يزداد حضورا وقيمة بمرور الزمن، ولعل أهميته الكبرى تنبع من كونه كان مثالا على سينما عربية قادرة على الجمع بامتياز بين الشروط الفنية العالية ومتعة الفرجة السينمائية، وهو ما تفشل مشاريع فنية كثيرة في الوصول إليه.

السينما كتحقيق بصري

للمفارقة، لم تكن السينما هي الهدف الأول لداود عبد السيد، الذي رغب في امتهان الصحافة قبل أن توجهه المصادفة نحو الفن السابع. ربما لذلك، تسللت روح التحقيق الصحافي إلى أفلامه بعد تشكيله نفسيا وإنسانيا في قالب بصري، يوازن بين فلسفة الصورة والقيمة الجمالية في تكوين اللقطات، مؤكدا في أكثر من مناسبة، إيمانه بالسينما التي تجمع بين التسلية والإمتاع الفني، وهو المبرر الذي جعله يميل إلى الكيف لا إلى الكم، حتى أنه لم ينجز خلال مسيرته الفنية سوى تسعة أفلام، اختيرت ثلاثة منها ضمن أهم مئة فيلم عربي هي "الكيت كات" و"أرض الخوف" و"رسائل البحر"، علما أن "الكيت كات" يظهر دائما في مراتب مختلفة ضمن جميع قوائم أفضل الأفلام المصرية والعربية خلال القرن الماضي.

لعل المكانة الخاصة التي يحتلها "الكيت كات" في وجدان محبي السينما في العالم العربي، تنبع من تكامل جميع عناصره على نحو يندر وجودها في فيلم واحد

 في مقتبل العمر، عمل داود عبد السيد مساعد مخرج مع عدد من صناع السينما، من بينهم يوسف شاهين في فيلم "الأرض" (1969)، وسرعان ما انتقل إلى السينما التسجيلية حيث قدم عددا من الأفلام الوثائقية أشهرها "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" (1976)، الفيلم الذي قام مهرجان الإسماعيلية التسجيلي بترميمه منذ عامين، ليفتتح دورته الرابعة والعشرين.

AFP
المخرج المصري داود عبد السيد يحمل جائزته خلال الدورة الـ30 من مهرجان الإسكندرية السينمائي في مدينة الإسكندرية الساحلية شمال مصر، 10 سبتمبر 2014

تخرج داود من معهد السينما في عام النكسة 1967، ذلك التاريخ الذي صبغ مصائر شخصيات أفلامه لاحقا، إذ انعكس مفهوم الهزيمة في صورة سلسلة من الانكسارات المادية والمعنوية، انتقلت من فيلم إلى آخر، مع اختلاف السياقات والظروف، لا بوصفها تكرارا، بل تجليات مختلفة لشعور جمعي بالخيبة المؤجلة داخل واقع مرتبك، وهو نفسه ما شكل الفلسفة العامة لتيار "الواقعية الجديدة" في السينما المصرية خلال الثمانينات، حين ظهر خمسة مخرجيين شباب أعادوا تفكيك العلاقة بين السينما والواقع، وهم بترتيب العروض الأولى لأفلامهم: محمد خان، ورأفت الميهي، وخيري بشارة، وعاطف الطيب، وداود عبد السيد.

ترك هذا التحول الجذري الذي شهدته مصر في السبعينات، أثره العميق في نفوس المثقفين والفنانين، حيث انحرفت الهوية المصرية عن مسارها التاريخي، مفسحة المجال لانتقال عشوائي أخذ في اللهاث وراء أحلام "الانفتاح" والجنة الموعودة. في هذا السياق، أولى داود عبد السيد في أفلامه اهتماما خاصا بأحلام البسطاء والمهمشين، سواء من خلال أعمال ركزت عليهم مباشرة مثل "سارق الفرح"، أو حتى عبر اختياره للفنان أحمد كمال، الذي يلازمه في معظم أعماله كتميمة حظ، كما صرح هو نفسه، منتصرا إلى شكل من البطولة المختلفة، لا تخضع لأضواء النجومية التقليدية.

ملصق فيلم "أرض الخوف"(1999)

في كتابه "كيف تكسر الإيهام في الأفلام" يؤكد الدكتور مدكور ثابت "استحالة أن يكون العمل الفني واقعيا أو معاشا، إلا في حدود كونه -صورة مفترضة- للواقع المادي المعاش".

بالمثل، نجد أن سينما داود عبد السيد تراوحت بين الحقيقي والخيالي، فعدها البعض سينما واقعية، فيما استقبلها فريق آخر كأحد تمثلات الواقعية السحرية. كذلك وصفت سينماه بالفلسفية خصوصا في أفلام مثل "البحث عن سيد مرزوق" أو "أرض الخوف" و"قدرات غير عادية"

لم يصنع أفلاما تروى فحسب، بل كان ينسج بتساؤلاته حول الإنسان والمفاهيم المختلفة للقوى المتحكمة أو السلطة، مقاربات سينمائية جمعت كل ما سبق

 على أن داود عبد السيد لم يصنع أفلاما تروى فحسب، بل كان ينسج بتساؤلاته حول الإنسان والمفاهيم المختلفة للقوى المتحكمة أو السلطة، مقاربات سينمائية جمعت كل ما سبق، بحكيها عن أناس قد نعرفهم عن كثب، إلا أن وقائع حيواتهم تحوي من الغرائبية ما قد يفوق الخيال.

font change