مع عبدالعزيز التويجري

مع عبدالعزيز التويجري

[caption id="attachment_55226386" align="aligncenter" width="600" caption="الشيخ عبدالعزيز التويجري"]الشيخ عبدالعزيز التويجري[/caption]
يقول في نفسه: ها هي حقيقة الحياة! وحقيقة الإنسان. هي تزاوج الإنسان والتاريخ. تلاحم مع ما يبقى ولا يفقد برفقه مع مرور الزمان ولا يتصدء. قران قال عنه أحمد بهاء الدين في مقدمة كتابه "أيام لها تاريخ":
الانسان حيوان ذو تاريخ!
معظم الأوقات التي نحياها لا تمت إلى الحياة بصلة. نحياها من دون أن نعيشها. نحياها كالشعاب المرجانية؛ ملتصقين بصخرة الحياة وننسى أنفسنا أو بالأحرى نتلهّى. التاريخانية هي التي تضيف المعنى الى الحياة. هي الخروج من قفص الروتين اليومي، أو ربما كسره والتحليق..
سمع هذه المقولة كثيراً: هذا شخص عالم. طالما كنت أبحث عن هذا العلم! يوماً ما قال لي فنان شبه مجنون: العلم هو ما يبقى بعدما تقرأ كل شيء ثم تنساه! سمعت ما في معناه من العاهل المغربي. كنا في اجلاس وزراء اعلام الدول الإسلامية في الرباط، وذهبنا بعدها الى المغرب لنلتقي بالحسن الثاني.
كنت منتشياً من جدران حدائق المدينة. جدران نحاسية اللون مكللة بورود الجهنميّة. كنا واقفين حول طاولة كبيرة. تكلم الملك الحسن بإيجاز:
ذهب شاب الى أبي نؤاس وقال أريد أن أصبح شاعراً.. شاعراً فحلاً مثلك! أجابه أبونؤاس: احفظ كل دواوين العرب عن ظهر قلب.. ذهب الشاب وأتى بعد سنين قائلا لأبي نواس: حفظت كل الدواوين. فاختبره أبونؤاس وعلم أنَّ الشاب قد بذل جهداً كبيراً وأرهق نفسه وحفظ دواوين العرب. نظر الى الشاب وقال هل تريد حقاً أن تصبح شاعراً؟
ـ نعم.
ـ الآن عليك أن تنسى كل ما حفظت!
على ما أظن ان الحياة هي كتجربة ذلك الشاب. نعيش عمراً، وننسى كل الأيام والليالي. لكن طعم الحياة مكنون في ما تبقى كحصاة مصقولة في قاع النهر.
التويجري أيضاً يرى الحياة على هذا المنوال:
"متى فقد الإنسان أجمل ما في ذكرياته ماذا بقي معه؟ لا شيء غير الجفاف الذي لم يبق لديه ورقة واحدة خضراء، وما لم أستطع أن أقرأه على هذه الأوراق اقروه في أوراقي داخل نفسي، وما هذه الا صدىً لتلك، فلو اجتثت كل شجرة من تربتي الخاصّة وزرعتها هنا أتراها ستظل مورقة؟ لا أتصور ذلك، لأنّ أشجار النفس لا يغني عليها حمام الدوح الا حين تظلل فروعها المورقة".
في عالم ذهني، تغرد طيور الذكريات..

[caption id="attachment_55226383" align="alignleft" width="280" caption="التويجري.. ابن المجمعة"]التويجري.. ابن المجمعة[/caption]

أحداث وأشخاص


في تاريخ حياتنا، يمكن أن نميز مقولتين: الأحداث والأشخاص!
على سبيل المثال رأينا انهيار النظام السوفييتي. شاهدنا سقوط جدار برلين. انهارت أبراج التجارة العالمية في الحادي عشر من أيلول. قتل بن لادن. الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا حرك الشعوب واتحفها الانفتاح. كما الزهور عندما تتفتح وتتألق أوراقها وتعبق بشذاها. الأمل يملأ القلوب والعقول تنفتح والأيدي تتحرك مثل الأمواج وتتحدّ وتصبح: ميدان التحرير.. هذه أحداث تاريخية نعيشها.
وللحياة وجه آخر. أجلس مع صديق أو أصدقاء في زاوية ونتحدث عن الحياة. أصدقاء تكاد لا تفارقني صورهم وموسيقى كلامهم وألق عيونهم. الموسيقى المنبعثة من صوت الطيب صالح الهادر، صوت بقوة صوت بافاروتي! وصوت عبدالعزيز التويجري المخملي. كموسيقى حبات المطر الربيعي في وهاد أخضر.. كان ينبعث من نظرة الطيب صالح بريق بألق الماس. الماس الأسود. كالذي نقرأ عنه في سفر نشيد الأناشيد:
أنا سوداء لكني جميلة يا بنات اورشليم.
كانت للتويجري عينان هادئتان. مثل الصحراء.. وكأن هنالك صلة بين بريق عيني الرجلين وموسيقى صوتهما. كنا نلتقي في لندن وفي الرياض، وفي الجنادرية أيام المهرجان. لم تكن لقاءاتنا مطولة. لكن كنت أجد في كل لقاء حكمة، لافكر فيها ساعات وأرى الحياة من وجهة نظر التويجري والطيب صالح. عندما كنا نشرع في الكلام ويجري الحديث، كانت تصبح الأجواء مؤاتية وبشكل غريب لحضور المتنبي والمعري حيث يعبق المكان بأنفاسهما.
كافكا كان يقول لصديقة المراهق غوستاف يانوش الذي كتب فيما بعد أفضل وأهم سيرة لكافكا: لو عشنا ساعة واحدة فقط، يمكن أن نتكلم عنها مئة سنة!
الساعات والدقائق واللحظات التي كنت التقي بهما ونتكلم وحتى عندما كنت أسكت وانظر في عين التويجري أو الطيب صالح، كانت لوحات خالدة من صلب وحقيقة الحياة. الحياة الجميلة....

غرفة زجاجية


كانت السماء تمطر بغزارة طوال الليل. أيقظني هطول المطر. مطر كالشلال! لم يحن وقت الفجر بعد. دخلت في الغرفة الزجاجية! تلك التي يسمونها بالانجليزية: كنسرفاتوري. ايقاع المطر على السقف الزجاجي. سماء منخفضة رمادية اللون. فتحت النافذة. اقتحم الهواء البارد جوّ الغرفة. أغلقتها بسرعة وقلت في نفسي: هذا هو المكان الذي كتب عنه الطيب صالح: تموت من البرد حيتانها.
استولت على مخيلتي هذه الجملة التي فيها شيء من موسيقى الآيات القرآنية وأخذت أشعر بالبرد وأنا بحاجة ماسة الى دفء حضور الطيب صالح وجذوة مفرداته. قلت لنفسي: سوف أخابر الطيب صالح وقت الظهر. زالت الشمس وحان وقت الظهيرة وأنا مازلت أردد هذا الشطر: تموت من البرد حيتانها.. موسيقى هذا الشطر كانت تطابق الموسيقى التي اختارها فردوسي كحجر أساس لمنظومته شاهنامه: فعولن فعولن فعولن فعول.. الايقاع كسلسلة من الأمواج يصطاد الحيتان والأسماك. ذات يوم رأيت سمكة صغيرة حمراء في نبع في قرية مهاجران. كانت قد تجمدت في قطعة من الجليد. على ما يبدو لم تستطع العودة الى تيار النبع. لقد تجمدت .. يرنّ هاتف الطيب صالح لكنه لا يجيب.. سألت بعض الأصدقاء عنه: ما هي أخبار الطيب صالح؟ سمعت الخبر ورددت هامساً:
لكل شيء اذا ما تمَّ نقصانُ
لقد بلغت صداقتنا ليلة التمام. وتذكرت ما كتبه عبدالعزيز التويجري لعبدالمحسن:
"وغداً أو بعد غد تجد يدك فارغة مني، تجدني مع الأموات وأنت مع الناس والناس طوفان لا يصارع أمواجه الا سباح ماهر.."
الآن بقيت أنا والذكريات.. الايماءات، السكوت، الابتسامة والكلام... الكلمة! وطوفان الحياة والأمواج العالية والسماء الرمادية.. لا متاع لي غير الكلمة. الكلمة اكسير قام بها الوجود. في البداية كانت الكلمة وفي النهاية لا يبقى سوى الكلمة.. يسرح بي الخيال بعيداً. اثبت نظري في عيني التويجري والطيب صالح:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام (ابو تمام)
font change