الاتفاق السياسي في السودان... خطوات للأمام وأخرى للوراء

شراكة هشة... لكنها مهمة

الاتفاق السياسي في السودان... خطوات للأمام وأخرى للوراء

* صيغة الاتفاق الحالي، هي تلخيص لحالة المفاوضات، أكثر من كونها اتفاقاً سياسياً، أو قانوينًا معتبرًا يمكن العودة إليه بوصفه مرجعية حاكمة
* لم تحدد الوثيقة وظائف وصلاحيات؛ لا المجلس السيادي، ولا مجلس الوزراء، ولم تحسم بوضوح سلطة التشريع التي يفترض أن تكون للمجلس التشريعي
* لرئيس الوزراء: «المقيّد في اختيار وزراء حكومته»، أن يختار شخصيتين حزبيتين، من خارج القائمة، بينما يختار المجلس العسكري وزيري الداخلية والدفاع، معًا... المفارقة هنا أنّ حكومة البشير، كان وزير داخليتها مدنيًا
* يقف الأمن الوطني السوداني في مرحلة صعبة، في ظل تدخّلات أجنبية لا حد لها أو سقف، ومفاوضات حول تفاصيل عسكرية؛ لا تجري فقط في دولٍ أخرى، ولكن عبر وساطات عابرة للأوطان
* الحد الأدنى من الأمل أن يتجاوز السودانيون الحرب الأهلية، والحق المشروع منه أن ينفتحوا لبناء وطنٍ يسع الجميع

أبوظبي: «الاتفاقات التي لا ترضي أحدًا، هي اتفاقات ناجحة». 
«غضب الجميع يعني أنهم قدموا تنازلات، وهذا ما صنع أرضية الاتفاقيات». 
«صلح الحديبية كان يبدو مجحفًا لكنّ عبقريته ظهرت يوم فتح مكة».
«فلان تجرّع السم لينتصر». 
هذه عبارات ذهبية، انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، وكأنها تحمل المواطنين السودانيين على الفرح بالاتفاق السياسي الذي تمّ التوقيع عليه بالأحرف الأولى؛ من قبل الأستاذ أحمد ربيع عن قوى إعلان الحرية والتغيير، والفريق أول محمد حمدان دقلو عن المجلس العسكري الانتقالي في السودان، في يوم 17 يوليو (تموز) 2019، وظل الشّعب في انتظار المرسوم، الذي وعدت به الوثيقة، ولكنه تأخر، حتى بعد انتهاء مفاوضات السّلام التي اختتمت في أديس أبابا، بإعلان عام، أعاد الجبهة الثورية وحلفاءها إلى قطار الحرية والتغيير، ولم يضف جديدًا سوى الأمل.



 
علانية الاتفاق على نيّة الاتفاق: تمدين العسكري
المناخ المشحون الذي جاءت فيه وثيقة الاتفاق السياسي السوداني، يجعلها مهمة لفكرتها ولاسمها، لا لذاتها ونصها ورسمها. فالناس يخشون على البلاد من موجة الفوضى، ويتخوفون من انهيار الدولة أكثر من أي شيء آخر. ولكنّ هذا الشعور الطيب، لا يمنع أن نلقي نظرة على الاتفاق، لنفحص ما وصلت إليه الأطراف السياسية. ثم أعادت الحديث عن مضامينه في إطار نقاشها للوثيقة الدستورية.
قبل الدخول إلى النص، علينا أن نتذكر أن الفريق أول محمد حمدان دقلو، قال إن هذا الاتفاق السياسي، هو اتفاق بالأحرف الأولى، وهي عبارة، لم يتوقع المراقبون سماعها لوصف اتفاقٍ داخلي، سواء بين فريقين سياسيين، أو بين حكومة ومعارضتها، أو بين حركة سياسية وجناحها العسكري. ولكن لا مشاحة في الاصطلاح، ما دام المقصود هو تقديم «ملخص» أو «محضر» للمفاوضات المشتركة، بين قوى الحرية والتغيير، والمجلس العسكري، والتي امتدت لوقتٍ طويل، وكان لا بد لها من ملخص.
نعم ملخص، فصيغة الاتفاق الحالي، هي تلخيص لحالة المفاوضات، أكثر من كونها اتفاقاً سياسياً، أو قانوينًا معتبرًا يمكن العودة إليه بوصفه مرجعية حاكمة لخلافٍ ما. ولربما اعتذر المتفائلون لهما (العسكري، والحرية والتغيير)، بأن الطرفين، أرادا: توثيق الحد الأدنى من الاتفاق، وبناء الثقة، ومنح الشعب أملاً بأنّ ثمة حلا في الشراكة لا التصعيد. ولكن ما يقوله المتشائمون أنّ الطرفين وثّقا الاختلاف، فحسب!
مجلس السيادة بأحد عشر عضوًا، والعضو الأخير منه مدني، ولكن النص لم يشر إلى آلية اختياره، ومعاييرها التي يتحدث العسكريون عن خلفية، هذا المدني، العسكرية. ولا يغيب على ملاحظة الحصيف، أنّ هذا العضو تحديدًا، سيكون في غالب الأمر، هو رئيس الفترة الثانية من عمر الانتقال، تلك التي جاء النص بأن من سيرأسها هو المدني، الذي سيتسلم من البرهان مسؤولية رئاسة المجلس السيادي. يعلق أحد الساخرين: «إن تعريف المدنية، في المجلس السيادي: هي أن يترأسه عسكري في الخدمة لمدة 21 شهرًا، ثم يترأسه عسكري سابق لمدة 18 شهر»!
رئيس الانتقالي العسكري البرهان في حديثه لضياء الدين بلال (إعلامي وصحافي سوداني)، تحدّث عن دور صلاح قوش في التغيير، وكذلك ظلّ الصادق المهدي يفعل، لذلك اعتبر البعض أنّ قوش ربما يكون هو المدني المقصود، ولكنّ البرهان تحدث أيضًا عن الفريق الدابي، صديق البشير، ومبعوثه الأمين، وسفيره في اليمن، وربما يكون هو المرشح الأوفر حظًا.
صحيح أن حظوظ قوش تضاءلت بعد محاولة الانقلاب المثيرة للجدل المنسوبة لهاشم عبد المطلب، وبعد أن تزايدت شكوك المدنيين الذين يريدون تبرئة ساحة المجلس العسكري، أن يكون لقوش يد في تحريك الشارع في مظاهرات العدالة، أو مظاهرات الأبيض التي راح ضحيتها جمع من الطلاب.
تصب مثل هذه الترشيحات، لقوش والدابي، النار على المتظاهرين الثائرين، الذين يخشون سرقة ثمرة جهودهم. ولكنها تبقى تحليلات مشروعة، في ظل الوثيقة المليئة بالثقوب، والإعلان الدستوري المتأخر.
الوثيقة أجّلت كل ما تستطيع تأجيله، سواء ليوم توقيع المرسوم الدستوري المنتظر، أو إلى ثلاثة أشهر، كما في حالة المجلس التشريعي. ولم تحدد الوثيقة وظائف وصلاحيات؛ لا المجلس السيادي، ولا مجلس الوزراء، ولم تحسم بوضوح سلطة التشريع التي يفترض أن تكون للمجلس التشريعي.
تزداد الحيرة، حينما نتذكر أن السودان، بخبرته القانونية الطويلة، تنقل بين النظام الرئاسي والبرلماني، وجرّب النظام المركزي، واللامركزي. والوثيقة لم تحسم أمرها، فإن قلنا هو نظام برلماني، فأين البرلمان. وإن قلنا هو رئاسي، فما هو المجلس السيادي. الغريب أن هذا التاريخ التشريعي السوداني، تمّ تجاوزه بجرّة قلم، ولم تتم إعادة وضعه على طاولة التفاوض، ليس ذلك فحسب، بل تراد إعادة صياغته!
وعلى ذكر الصياغة، فقد كان أكثر الناس تفاؤلاً، بلغة تجمع المهنيين الفصيحة والبراقة والبليغة، كانوا أكثر الناس إحباطًا من الأخطاء الطباعية والتعبيرات المبهمة في وثيقة الاتفاق السياسي، التي لا تليق لا بقانونيي السودان، ولا كتّاب بيانات تجمع المهنيين البليغيين، في نسختها العربية على الأقل.
ينفتح النص، عند ذكره المجلس التشريعي، على خيارات منها؛ أن يكون المجلس رقابيًا فقط كما قال رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح البرهان لضياء الدين بلال في برنامجٍ تلفزيوني على الاتفاق، أو أن يكون تشريعيًا كما يتمسّك منسوبو قوى الحرية والتغيير. أو أن يقوم المجلس المختلط (السيادي والوزراء) بسن التشريعات اللازمة، قبل أن يتم تشكيل المجلس التشريعي، في حال تمّ تشكيله أصلاً.
أصرت الوثيقة أن تذكر أن قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري مختلفان حول النسب التي (ستعيّن) في المجلس التشريعي.
وفي الوثيقة، تم ذكر أن هناك شروطًا خاصة لاختيار الوزراء، لكن لم تحدد أو توضح بعد، ربما يحسمها المرسوم الدستوري الذي يناقش على نطاقٍ واسع. ذُكِر عن الوزراء أنهم سيكونون مستقلين، ويختارهم السيد رئيس الوزراء، من قائمة «معدة سلفًا من قبل قوى الحرية والتغيير»، وسيقوم المجلس السيادي باعتمادهم.
ولرئيس الوزراء: «المقيّد في اختيار وزراء حكومته»، أن يختار شخصيتين حزبيتين، من خارج القائمة، بينما يختار المجلس العسكري وزيري الداخلية والدفاع، معًا. المفارقة هنا أنّ حكومة البشير، كان وزير داخليتها مدنيًا!
عكست الوثيقة أيضًا الخلاف في اختيار تقسيم السودان بين (الأقاليم) أو (الولايات)، وعلى حد العبارة «حسبما يكون الحال»، وهي عبارة توحي أنّه ربما يتم الدمج بينهما. وقد يتم ذلك إذا ارتضى الحاكمون الجدد منهج إرضاء حمَلة السلاح، فيكون لمناطقهم أقاليم يضم الواحد منها، ولايات عدة.
ذكرت الوثيقة مهام ثقيلة على معدة الفترة الانتقالية، أي فترة انتقالية، وهي تليق ببرنامج انتخابي، ولكنها لم تفصّل، ولم يشر إلى منطلقها الفكري، أو مشروعيتها، أو آلية اعتمادها. وحتمًا سيكون فيها من الخلافات المؤجلة ما فيها.
فتحت الوثيقة الباب مشرعًا، لخروج المؤسسات العسكرية من الدولة. وحتى في إطار إعادة هيكلتها، ستصبح مسؤولية ذلك عسكرية محضة، كما يُنتظر أن يُحمى ذلك بسند دستوري، يمنع المدنيين من الطعن في هيكليتها، وفي الاتفاقات الخارجية لها. وهذا يطرح سؤالاً: هل سيخرج الجيش من إطار الدولة المدنية، إلى الأبد، ويكون هذا هو ثمن المدنية؟
يمكن رصف عدد كبير من الملاحظات، ولكن غاية الوثيقة لم تكن هذه الثقوب، إنما كانت وضع أرضية مشتركة، يرفعها الطرفان، ليقولا للعالم: نحن شركاء الثورة، ونستحق وراثة الشرعية الانتقالية معًا.
ولكن ارتدادات هذه الوثيقة كانت كبيرة، على الداخل السوداني.


 
هل ثمة انقسام: أم إنه لم تكن هناك وحدة أصلاً
ظل السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء الأسبق، والقيادي الثاني أو الأول في قوى الحرية والتغيير، يشير إلى أهمية هيكلة قوى الحرية والتغيير، لضبط ممثليها، وتصريحاتها، وتعيين رئاستها. تجلى ذلك الآن في فوضى التعبير عن رفض الاتفاق السياسي، وهي فوضى قد تجعل المجلس العسكري، يبدو محقًا فيما يخص الانتقادات المتكررة حول تبديل المندوبين وغيرها من نقاط، كان بوسع الحرية والتغيير تجاوزها، بقليل من ضبط الهيكل التنظيمي لها. ولكن تحميلها المسألة تجاوزٌ لمشكلة أصيلة في العقل السياسي السوداني، وهي تحول التحالفات السياسية إلى العشوائية. وأفضى إعلان أديس أبابا؛ إلى ضرورة هيكلة قوى الحرية والتغيير، وأن تمضي طوال الفترة الانتقالية بجسم موحد. ولكنه على عادة الاتفاقات الأخيرة في السودان: لم يقل كيف.
ذاكرة التحالفات السودانية ضد النميري؛ بذراعيها المسلح والسلمي، في وعاء الجبهة الوطنية في السبعينات، ثم ضد البشير في وعاء التجمع الوطني الديمقراطي من التسعينات إلى ما قبل اتفاقية السلام الشامل الموقعة في نيفاشا 2005، ثم تبعثرت التحالفات بعد ذلك في نداءات متقسمة وإجماعات متباينة، كلها تشير إلى أنّ الأحزاب السودانية تؤمن بأن السيد الصادق المهدي هو زعيم أكبر حزب، ولكنها تفعل كل ما تستطيع فعله لمنعه من تزعّمها، في متلازمة غريبة، كاد نداء السودان أن يثبت فشلها، لولا تقسيمه لنداء السودان بالداخل، ونداء السودان بالخارج!
الحقيقة الثابتة، في مسار تحالف الحرية والتغيير، أن تجمع المهنيين نجح في حشد الجماهير وتجييشها، طوال فترة الاحتجاجات ضد البشير، وكان رفض البشير، يمنح تحالف الحرية والتغيير اليافع تماسكه، ولكن بعد سقوط البشير، وانتهاء لافتة «تسقط بس»، تراجع دور تجمع المهنيين التقني، وقامت الأحزاب السياسية بتجاوز إعلان الحرية والتغيير في بعض مواده، ثم جاء الاتفاق البديل له ليضع بداية جديدة، ربما تتجاوزه، كنص، وتبقي عليه كأشواق واسم ورصيد.
وفي المجمل، كان ارتداد الاتفاق على تحالف قوى الحرية والتغيير، كبيرًا؛ سواء بمخالفة بنوده، حول مدة الفترة الانتقالية، أو المدنية والانتقال، أو بحمولته النفسية على المثاليين من الشباب، ومن السياسيين الجدد، الذين انضموا للمشهد السياسي السوداني، بكثير من الآمال والأشواق، وقليل من التجربة والواقعية.
يعاني قادة الحرية والتغيير اليوم، من صدق المثاليين، ودهشتهم من الحيل السياسية «الضرورية»، وقد بدأ بعض قادة الحرية والتغيير بالفعل، في نصح الشباب بترك الرومانسية السياسية، والاتجاه إلى الواقعية، ومضت بعض القيادات الشجاعة منهم، في الحديث بإيجابية مستعجلة عن قادة المجلس العسكري! بالطبع لا يمكن الإشارة إلى أن ذلك الحديث عن دموع العسكريين ووطنيتهم وإخلاصهم، هو انقلاب على الرؤية المدنية، بقدر ما يمكن النظر إليه على أنه رغبة في الاعتراف بالواقع.
بمجرد إعلان التوقيع مع أجنحة الفجر، سرعان ما قام الحزب الشيوعي السوداني برفض الاتفاق، وحوّلت الجبهة الثورية رفضها المطلق، إلى مفاوضات، توسّعت، كما مر، في أديس أبابا لحل مسألة السلام، وانضمّ لها مالك عقار ونائبه في الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال)، ياسر عرمان، ومن الغرب كان مني أركو مناوي، قائد الجبهة الثورية، والإسلامي جبريل إبراهيم عن حركة العدل والمساواة.
تعرّض جبريل إبراهيم، شقيق الإسلامي الراحل الدكتور خليل إبراهيم، لموقف محرج، حينما قام الأمن الإثيوبي، ببدء ترحيله عنوة، لولا تدخل الاتحاد الأفريقي، وأثناء الفترة بين قرار الترحيل والإلغاء، انطلق البعض يبرر إقصاء جبريل إبراهيم، لأسباب تتعلق بموقفه المؤيد لانقلاب 1989. وهو حديث يراد به استعادة القول بأن حركة العدل والمساواة هي الجناح العسكري للمؤتمر الشعبي.
علّق الفريق أول محمد حمدان دقلو؛ أثناء المفاوضات في إثيوبيا، أنّ ما يجري في أديس أبابا هو نقاش داخلي في الحرية والتغيير، بينها وبين الجبهة الثورية. وأن الحصة التي ستنالها الجبهة، يجب أن تكون من نصيب الحرية والتغيير. قال هذا في حشد، يخص السلم المجتمعي، وأشار إلى أنه يفاوض الحركات المسلحة الأخرى، بقيادة عبد العزيز الحلو، وعبد الواحد، وأضاف لها حركة أخرى يقودها الطاهر حجر. وبالفعل قاد طائرته إلى جوبا للقاء عقار ووفد عن عبد العزيز الحلو، وكان في رفقة دقلو، قادة من قوى الحرية والتغيير.
الجدير بالذكر، إنه وفي بداية كل مرحلة في تاريخ السودان، ثمة محاولة تبدو جادة لحسم التمرد، بالحرب أو السلام. ولكنها سرعان ما تفشل، بسبب عدم الالتزام بالاتفاقيات.



موجة من الغضب، تملكت الثائرين؛ حينما دار الحديث عن مناصب في أديس أبابا، لخّصتها مجموعة أسئلة رومانسية باسم من يتفاوضون، وما هو مصير الاتفاق بينهم، وهل يصح تبنّي المحاصصة؟ وهل ستضيف هذه المفاوضات لوثيقة العسكري وقوى الحرية والتغيير، أم أنها ستخصم منه؟ وهذا كله مفهوم، ولكنّ السؤال الأهم هل يوافق المجلس العسكري على البند الأول من مهام الحكومة الانتقالية الواردة في إعلان الحرية والتغيير، والذي ينص على: «وقف الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها بما في ذلك إعادة النازحين واللاجئين طوعًا إلى مواطنهم الأصلية، وتعويض المتضررين تعويضًا عادلاً وناجزًا، ومعالجة مشكلة الأراضي مع المحافظة على الحواكير التاريخية».
إذا مضت الأمور في هذا الإطار الإيجابي، فيبدو أن دارفور وكردفان، سيكون لهما أغلب نصيب التمثيل في المجالس السيادية، ومجالس الوزراء. وهو أمر جيد من جهة، ولكن هل سيفتح بابًا آخر للتمردات، أم أنّ الوعي السياسي لدى البقية سيجعلهم يعتبرون ذلك ضمن ضريبة الانتقال؟ هذا سؤال لا جواب له.
ربما علينا هنا أن نتذكر، أنّ قادة الحركات المسلحة، خبراء في التفاوض من الطراز الرفيع، فهم يفاوضون نظام البشير، لسنوات طوال، ولديهم خبرة في كل أنواع المفاوضات والضغوطات ويستطيعون تحقيق كل أهدافهم، دون خسارة الأرض التي ينطلقون منها. بينما لا يمكن وصف قادة الحرية والتغيير التي لم تمتهن المفاوضات بذلك. وربما يجوز استثناء حزب الأمة، صاحب الذاكرة التاريخية الأكبر، والمبادرات التفاوضية الكثيرة. هذه الملاحظة لا تشير إلى أنّ الاتفاق صعب جدًا، ولكنها تقول إنّ نتيجته ربما لا تعجب المؤيدين المخلصين للحرية والتغيير.
كان الزعيم إسماعيل الأزهري، أول رئيس للسودان، وزعيم الاتحاديين، يكرر في الاجتماعات الطويلة، أثناء احتدام الخلاف: «ما اختلفنا»، ويطوي الاجتماع باختلافاته، ويبدأ الذي يليه بكلمة نحن متفقون. وكان الناس يتأدبون معه في تجاوز ذلك. ولكن سودان اليوم، لا يوجد فيه أزهري، ولا يوجد من يداري عورة اختلاف ساسته.
نحتاج اليوم إلى الذكاء الاجتماعي للأزهري، والحكمة السياسية لجيله، والثقة في العملية السياسية!
 
أزمة رصيد الثقة السياسي
يراهن السياسيون على المد الثوري ليحمي المفاوضات، ويقيمون جمعًا بأسماء براقة، كالعدالة وغيرها، ولكنهم لا ينتبهون إلى أنّ أمد الرصيد السياسي الشعبي الذي يدعمهم، هو رصيد قصير المدى، وخطورته أنّه طارئ على السياسة، وليس مبنيًا على الولاء التقليدي الطويل؛ ذاك الذي يتحمل الهزّات العنيفة، كالذي يملكه المهدي من أتباعه، والميرغني من حزبه. لذا فإن المماطلة التي يُجرون بها الاتفاقيات، قد ترتد على قوى الحرية والتغيير بشكلٍ لا يتوقعونه.
كما أنّ المعسكر الآخر، الذي يحكم السودان الآن، وُضع أمام تجربة صعبة، ورأى بعينه صعوبة الميدان السياسي وما يجلبه من صداع، وقد تورّط في أغلب ما تورّط فيه البشير، ولم يبق أمامه سوى الإدانة الدولية. وفي هذا إشكال كبير.
فالبشير، تحوّل إلى مشكلة يوم صار مدانًا دوليًا، حياته خارج الحكم تعني أنه سيسلّم إلى الجنائية الدولية ليحاكم لسنوات قبل أن تثبت إدانته، أو يموت في لاهاي البعيدة. كان مجرد هذا التفكير يجعله يتشبث بالسلطة.
أمر آخر، يَنظر إليه من يتابعون المشهد ببرود؛ وهو أنّ سلسلة التحالفات صارت مفتوحة، وأنّ أقوى رجال المشهد اليوم، محمد حمدان دقلو، يشعر بالغدر والمرارة، وأنّه تورّط؛ فقد صرّح بأنه كان يفضّل أن يكون خارج المجلس الانتقالي، وأن يكون وسيطًا، على أن يكون أحد أطراف المشهد، كان هذا بعد أن تسببت فيديوهات فض الاعتصام، في النيل من سمعته التي انتشرت، حيث رُسم عنه أنه «رجل بادية بسيط لكنه طيب».


 
درس التسعينات: ليس كل ما تراه حقيقيًا
انتشرت النميمة السياسية المتفائلة في نهاية التسعينات في السودان؛ تحمل أخبار انقسام الإسلاميين، وتنتشي بانفصال مشروعهم الحضاري عن عرّابه الذكي، وتُنظِّر لتآكل ثورتهم المزعومة، وتشير لانهيار أسطورة التنظيم الإسلاموي الذي كان له في كل بيتٍ أكثر من عين.
يومها كانت المعسكرات الإخوانية محصورة بين المنشية التي يسكنها زعيم الإسلاميين ونواة مؤتمره الشعبي، وبين القصر الذي يحكمه رئيس الحكومة وقائد الجيش ورئيس المؤتمر الوطني، وبينهما يتراكض أسراب الإسلاميين؛ الذين سيؤسسون لاحقًا، أحزاب الوسط، وحركة الإصلاح، وغيرهما.
انقسمت المعارضة، يومها، في تقييم الانشقاق؛ القسم الأوّل رأى أن هذه فرصة لإضعاف النظام، وأنّ على القوى المعارضة الذهاب مباشرة لمحاورة حاكم القصر «البشير»، وكان ثمة رأي آخر؛ رأى أنها فرصة لإضعاف حاكم القصر العسكري «البشير»، ومدّ التحالف مع الإسلاميين المدنيين لإسقاط النظام.
بينما احتفظ واحد من حكماء المعارضة برأيه للخاصة، فقال: «إن المفاصلة ليست مسرحية أخرى، ولكنها ستضر مستقبل تسوية المسألة السودانية»، وقد صدق للآخرين عمق رأيه، حين تجلّت مأساوية المشهد السوداني، بعد 30 عامًا من سقوط البشير، لتجعل المفاوضين على سقوطه هم من أتوا به!
في آخر التسعينات؛ كان البشير يراهن على كراهية الزعماء السياسيين لخصمه الإسلامي، وكان خصمه الإسلامي، يراهن على كراهية السياسيين للقمع والحكم العسكري. وانطلاقًا من الفرضيتين، تناسلت شبكة من المعطيات الجديدة، التي غيّرت الحسابات البسيطة التي وحّدت المعارضة السودانية قبل مفاصلة الإسلاميين: التي كانت تعتمد على جملة بسيطة وواضحة وجميلة: نحن ضد انقلاب البشير- الترابي. وهذا الانقلاب لا بديل له، إلا الاستسلام.
وسواء كانت مسرحية، أم تكتيكًا، أم تفاعلاً داخليًا، فقد انتهى الإسلاميون من أمل الإقصاء، يوم شكّلوا معارضة للبشير؛ معارضة مسلحة وسياسية داخل نظامه، وساهموا في تحويله إلى زعيمٍ مكروه، يستحق أن تُعلّق على رقبته كل قبائح حكم نظامه.
واحد من حكماء المعارضة، قال لبعض من نصحه بالتحالف مع البشير بصدق كامل: نحن مع الصدق، ولكننا نعرف أن الذي يغدر بشيخه ويسجنه، لن يتورّع عن التضحية بنا!
الغريب أنّ البشير، عاد بعد سنوات طويلة، والتقى بالترابي مرة أخرى، قبيل وفاة الأخير. صحيح أنّه لم يعد تلميذه ومريده المطيع هذه المرة، ولكن ابتسامة ما لمعت بين الرجلين.
يشبّه البعض، ما يجري بين الفريق أول محمد حمدان، وبين البشير الآن، كذلك الذي جرى بين الترابي والبشير. فالعسكري السوداني، ذكي وشجاع أمام كل شيء، إلا هوسه بالأمانة والخيانة!


 
الخلاصة: ما يهربون منه أمامهم
في السودان، تتجاور المشكلة والحل في خلطة واحدة، يتداخل الاندفاع السياسي والحماسة الوطنية في نفس التصرفات. ومن الترف المتعالي محاولة تصنيف الجماعات على أنها يسارية ويمينية، فهي في الحقيقة نسخة لشخصية واحدة، وطريقة تفكير تتافس في تطرفها وهواجها وعاطفيتها ورغبتها في أن تكون هي الصواب المطلق. لذلك تتكرر أخطاء النظام السابق واستفزازاته؛ بنفس الأسلوب، ولكن يرتكبها الآن قادة التغيير المدنيون، قبل العسكريين!
بين هذا وتلك، يقف الأمن الوطني السوداني في مرحلة صعبة، في ظل تدخّلات أجنبية لا حد لها أو سقف، ومفاوضات حول تفاصيل عسكرية؛ لا تجري فقط في دولٍ أخرى، ولكن عبر وساطات عابرة للأوطان.
لو كان السودان دولة نشأت قبل سنوات، لكان مقبولاً أن يتم التنظير له بأفكار جديدة ليتم تجربتها، ولكن كيف بدولة نجحت في التأسيس لثورات سلمية، وانتقالات سلسة، كتبت الدساتير المؤقتة الكثيرة؛ تلك المفروضة جبرًا، أو تلك المقروءة على برلمانٍ منتخب في زمن الأزهري، ولم تُجز بسبب الانقلابات العسكرية.
الحد الأدنى من الأمل أن يتجاوز السودانيون الحرب الأهلية، والحق المشروع منه أن ينفتحوا لبناء وطنٍ يسع الجميع، يُشجّع التنوّع، ويفخر بالحرية، ويرفض التجارة بالدين أو الآيديولوجيا، ويتّجه لديمقراطية بابها الوحيد هو الانتخابات، التي تمثل الشعب، كل الشعب بلا إقصاء!
 

font change