كيف ينجح حمدوك فيما فشل فيه البشير؟

المحاوِر... والوفاق... وفخ الإقصاء

كيف ينجح حمدوك فيما فشل فيه البشير؟

* في التسعينات، حكم السودان إسلاميون شباب قدِموا للحكم من اتحادات الطلاب، ومن منابر المشاكسة السياسية والتنظيرات الحالمة
* ساقت الحماسة التسعينية، الشباب الإسلاموي إلى حماقات كبرى؛ خلّدت تصورات غير حقيقية عن الشخصية السودانية
* إلى الآن لم تعلن الحكومة مشروعها الجديد لمكافحة الإرهاب، ولا تزال التهديدات الإرهابية المحتمَلة متجاهَلة
* السياسات الحكومية الراهنة، تبدو وكأنها تريد تغيير طبقة رجال الأعمال
* هناك حزم أخرى تحتاج القوات النظامية أن تنتبه لها في إطار الحرص على تجريم تجنيد الأطفال، ودفع هذه التهم؛ لا بمجرد نفيها، بل بتأكيد الالتزام بالقوانين الدولية لحماية حقوق الطفل
* كان الأمل ولا يزال، هو: طرح المشروعات الاقتصادية للتداول العام، والساحة الوطنية، لتعوّض حالة النقاش المشروعية الناقصة للحكومة
* تفشل الحكومة الانتقالية التي لا تدرك أنها حكومة انتقالية في تحقيق أهدافها الانتقالية، وتتورط في مهام متشعّبة؛ فالانتقال نفسه يحتاج إلى من يعرفه!
* فجرت أخطاء حكومة البشير، تراكمات صنعت من دارفور أزمة إنسانية يندى لها الجبين... وبدلاً من أن تحقق السلام للجنوب فصلته
* الحكومة الانتقالية تحتاج أن ترتبط بمهام الانتقال، وتتحدث عن الانتخابات إذا أرادت الحديث عن الديمقراطية
* وقف التدهور لا يكون إلا بالاعتراف بمسبباته العميقة، التي لا دولة لها ولا قرار

أبوظبي: ما حدث في السودان، لا يشبه ما يحدث في كل العالم، والسبب في ذلك ليس حميدًا على الإطلاق، فربما لأننا لا ننظر إلى تجارب السودان نفسه، الذي يعيد كل رئيس جديد فيه اختراع العجلة على طريقته الخاصة، والنظر بسخرية لمن يقول له لا تعد اختراع العجلة سيدي الرئيس. فبلادنا لا تحتاج سوى قليل من التواضع من قادتها ليتعظوا بسيرة بعضهم بعضًا. لذا؛ هذه مدارسة قد لا يحتاج الدكتور عبد الله حمدوك قراءتها لمعرفته لها، ولكن كثيرًا من محبيه، يحتاجون إدراكها، قبل أولئك الذين لم يعجبهم السودان الجديد، واختاروا مبكرًا قيادة المعارضة، في مرحلة هشة لا يحتمل فيها الوطن أي نزيف جديد!
من شعار أميركا روسيا قد دنا عذابها إلى نظرية الحياد بين المحاور!
أعلنت وزيرة الخارجية السودانية الجديدة السيدة أسماء محمد، بوضوح وهدوء كبيرين أنّ السودان لن يقبل الاشتراطات المسبقة في علاقاته الخارجية، وأكدت بصورة مكررة أن حكومتها لن تنضم لمحورٍ على حساب محور آخر، وهي تقصد أن تكون وسطًا بين محور الاستقرار العربي الذي تقوده السعودية والإمارات؛ ومحور التثوير الذي يتهم بالفوضى وتقوده قطر وتركيا وإيران. لاقى التصريح هوى كثيرين في مثاليته وبراءته التي تشبه حيرة حكومة البشير الأخيرة، وهي تحاول أن تحب الرياض والدوحة معًا. قرار الوزيرة هذا، مبني على نظرة خادعة؛ يظن صاحبها أنه خرج من الجزئيات إلى الكليات ليحقق نقطة اتفاق، بينما يبدو للآخرين عكس ذلك تمامًا. فالوزيرة لا تدرك أنّ الآخرين يرون أن هذا التصريح؛ هو اصطفاف في محور بذاته. ولا يستطيع أحد أن يلومهم.


 
لماذا؟
هناك درس خلّفه نظام البشير، يمكن لمعالي الوزيرة أن تستعيد تذكره، يتعلق بالموقف السوداني من العلاقات الدولية، وادعاء الحكومة السودانية أنها لم تنحَز لجهة في حرب «تحرير الكويت» في بداية التسعينات؛ وهو ادعاء ظلّ يُكرر إلى قبيل سقوط نظام البشير بأشهر، رغم أنّ البث المشترك بين قناتي «السودان» و«العراق» أيام الحرب، والزيارات الشهيرة، والهتافات الشعبية والمسيرات التي سيرها النظام، وكانت تصُم الآذان؛ مؤيّدة لصدّام البعثي ضد السعودية والخليج. يومها كان السودان الرسمي يدرك أنه يقف في المكان الخطأ، ولكن رجال النظام الجدد؛ ظنوا أن ادعاء «الوساطة» والتوسط والوسطية سيكون جيدًا. ولهذا الظن صلة بوهم آخر، تمكَّن من الشبان الحاكمين آنذاك، وهْم أننا أذكى من كل العالم!
التواضع وحده هو ما يعالج هذا الوهم، ذلك السلوك الشفيف الذي يجعلنا نصنع بلادنا سباحة مع بحر الممكن، لا غرقًا في وحل المثال. والتواضع حقيق بأن يعاد رسمه، حتى تستقيم التصورات.
ففي التسعينات، حكم السودان، إسلاميون؛ شباب قدِموا للحكم من اتحادات الطلاب، ومن منابر المشاكسة السياسية والتنظيرات الحالمة، بعضهم جاء من منظمات إقليمية ودولية، آخرون، قدموا وهم يحملون أرقى الشهادات العالمية، ويضعون الخطط الاستراتيجية لبناء «دولة المثال» ومشروعها الحضاري، الذي يعيد أمجاد التاريخ. حينها كان التاريخ الإسلامي بأسمائه، يبرق في عيون هؤلاء الشباب قريبًا من التاريخ النوبي والكوشي والماقبل سناري الذي يبرق في عيون الشباب الجدد، بيد أن اتجاه الحماسة مختلف.
ساقت الحماسة التسعينية، الشباب الإسلاموي إلى حماقات كبرى؛ خلّدت تصورات غير حقيقية عن الشخصية السودانية، إلا أنها تصورات تستحق التأمل - عسى نستطيع علاجها، وبين الأضابير عبارة واحدة كاشفة بوسعها تلخيص كل العبارات التي نود أن نحذر منها، عبارة مخجلة، ولكنها كالدواء المر لا بد من المرور عليها، جاءت بِخطّ الآلة الكاتبة العتيقة، في مذكّرة باهتة الألوان، في النقطة 42 من وثيقة أممية دفعت بها إثيوبيا لشكوى السودان؛ تصف الشخصية الإسلاموية السودانية الممتلئة بالآيديولوجيا والسعي إلى الاعتبار الكوني، فتقول عن محاولة الإفلات من عقبات محاولة اغتيال حسني مبارك:
«لم يكن ذلك مثار دهشة لنا على الإطلاق؛ لأننا اعتدنا على الغرور الذي لا يمكن تصوره، وغير المعقول، من قبل البعض داخل القيادة السودانية الذين لا يزالون يعتقدون بجدية أن السودان هو مركز العالم».
هذه الجملة المؤلمة، شوهّت شخصية السوداني المتواضع، واللين، الذي يدرك أن مملكته الحقيقية هي في صدره، وأخلاقه.
يمكن لنا أن ننظر ونقترح ونقول بحماسة: إننا اليوم، ربما نحتاج إلى أن نكون أكثر صدقًا وصراحة، وأن نسهم من داخل المحاور الرئيسية؛ في صناعة بصمَتنا، وأن نقول مواقفنا بحسم. ولكن صوتنا لن يكون بليغًا بقدر سقوط البشير الذي تردّد كثيرًا ففشل، وأغلب المطّلعين على الأحداث اليوم، يدركون أن الموقف البيْن-بيْن، قد أسقط البشير، ولم يمد من أجله، وهو موقف لا يعكس أي جديّة في معالجة القضايا الرئيسية التي أرهقنا بها النظام السابق، أما شعار: مصالح السودان أولاً وأولاً وأولاً؛ فهو شعار يمكن تنفيذه في كل الاتجاهات.


 
الرسائل المستعجلة للمجتمع الدولي: لا يسمعها أحد!
شرع الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء الانتقالي، منذ تسلمه السلطة الانتقالية، في التأكيد على نجاح المباحثات مع الإدارة الأميركية؛ وبشّر السودانيين بسرعة تجاوب أميركا مع طلب رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب الوشيك، واعتبر أنّ هذا الأمر جوهري في كل خططه الرامية إلى وقف التدهور في الاقتصاد السوداني. وهو أمر يحتاج إلى نظر، وتذكر لتصريحات كثيرة.
قد يبدو العمل الآن على ملف الإرهاب اسميًا. فإن كان هَمّ الحكومة هو «مجرد» رفع اسم السودان من قائمة أميركية للإرهاب، دون تقصٍ للمسببات وللدوافع، ودون انتهاز الفرصة لإجراء مراجعات حقيقية، فهو أمر ربما سيقلق المجتمع الدولي. فإلى الآن لم تعلن الحكومة مشروعها الجديد لمكافحة الإرهاب، ولا تزال التهديدات الإرهابية المحتمَلة متجاهَلة، وهي في عمقها تهديدات ظنِّيّة، يمكن احتواؤها الآن؛ فدارسو الإرهاب يدركون أن خطوات أدلجة مجموعة إرهابية جديدة لا يحتاج أكثر من (مظلومية قابلة للتسويق، أسباب سياسية تظن أنها قادرة على ضبط نشاط إرهابي جزئي، قاعدة آيديولوجية، وقادة عسكريين). 
أما الجهة التي ستشعر بالاستضعاف والإقصاء؛ فإن أهمية المظلومية هي خلق حالة من الانفتاح المعرفي الذي سيتقبّل الخطاب الإرهابي العنيف ويتبناه أو يبرر له، وتكون له مقوّمات سياسية، وأبرز أهدافه المرحليّة هو جلب الانتباه وإعادة الاعتبار، وردع الآخر، واستعادة دور في العملية السياسية. هذه الاستجابة كانت تحدث في السودان بشكل تمرّد سياسي لكنها لا تتحول لمحض عمل إرهابي، لا يمكن إيقافه. ولكن في حالة نشوء تمرُّد يعتمد على آيديولوجيا الإسلام السياسي، والمهمّشين الجدد، فإن الدائرة قد تُفتَح لتأكل الأخضر واليابس، وحينها تتفوّق المبادئ الآيديولوجية الباهتة على الأهداف السياسية، ثم ترثهما القوة العسكرية التي تأكل السياسي والآيديولوجي معًا، فالمعروف أنها ترى أن المشروعية حينها، مشروعية الميدان، والقوة للنتائج على الأرض لا للمبادئ الموجّهة، وهو صراع يعجز أبرز الخبراء عن حل اشتباكه.
لذلك يُنظر إلى خطوة حل هيئة العمليات في جهاز الأمن والمخابرات الوطني، على أنها خطوة لها أبعاد خطيرة؛ فتسريح 13 ألف جندي مؤهّل قتاليًا ومؤدلج، يترافق مع إزاحة كوادر الحركة الإسلاموية السودانية، لا عن سُدّة الحكم فحسب، بل حتى عن سُدّة «حزب المؤتمر الوطني»، والذي اختار غندور؛ الأقرب للتيارات الإصلاحية «تنظيميًا». ومعروف أن تلك التيارات سرعان ما تفقد قدرتها على تقديم إجابات عن «المأزق الفكري»، فتنجرف حينها للعنف، أو تجرفها القواعد الوثّابة بعيدًا عن الساحة.
أمر آخر يضيف إلى مخاطر الإرهاب المحتملة بُعدًا جديدًا، وهو أنّ السياسات الحكومية الراهنة، تبدو وكأنها تريد تغيير طبقة رجال الأعمال؛ فالأحكام القضائية التي استهدفت أصحاب التوكيلات؛ وصُنّاع المنتجات المحلية والمستوردين، بدت لهم لا على أنها أحكام لقيام إصلاح اقتصادي جديد، ولكن مجرد رؤية لتغيير أسماء التجّار واتّجاهاتهم الفكرية. الطريف في السودان أن التجار يحترمون مصالحهم التجارية أكثر من أي اعتبار آخر، ولو عجزت الحكومة الانتقالية عن إدراك ذلك؛ فإنها ستدخل في مواجهة معهم، لن تنتج محاولات انقلابية فاشلة فحسب، بل ربما تترك المساحة مفتوحة لتهديدات يتحول فيها الحنق والشعور بالمظلومية إلى «قابلية» للتجنيد الإرهابي المشار إليه أعلاه، كل هذا إذا لم تحسن الدولة إدارة التمرّد المحتمل، بتعزيز فكرة «الانتقال الممكن».
بالعودة إلى رفع الاسم؛ فهناك حزم أخرى تحتاج القوات النظامية أن تنتبه لها في إطار الحرص على تجريم تجنيد الأطفال، ودفع هذه التهم؛ لا بمجرد نفيها، بل بتأكيد الالتزام بالقوانين الدولية لحماية حقوق الطفل، ومعالجة الأخطاء بضمِّهم إلى هياكل مدرسية، يتخرّجون فيها بتخصصات تؤهّلهم لخدمة القوات النظامية بشكل قانوني، وفي الوقت نفسه، يجب احترام المطالبات العاجلة بتأهيل القوات النظامية، خاصة الشرطية منها، وذلك بإدراجهم في دورات لحقوق الإنسان والتعامل الأخلاقي مع المحكومين، وتعزيز سيادة القانون، وفقًا لقواعد جديدة. وهذا يحتاج لجهد يتجاوز مجرد التصريحات حول الرغبة في حدوثه، بل يعتمد على تطبيق وإعلان الاتجاه في هذا المسار بشكلٍ علني؛ ليعكس رغبة الدولة في الاستفادة من الأخطاء المتراكمة في السنوات السابقة، وهي أخطاء وقعت فيها أكثر من حكومة. ويمكن الإشارة هنا لصدمة الشارع من مواجهة الشرطة لمظاهرة طالبت باستقلال القضاء، والصدمة تشير إلى أن الناس تخيلوا أن مجرد تعيين رئيس الوزراء الانتقالي سيحوّل سلوك الشرطة، والقوانين التي بنيت عليها.
ربما يحتاج الأمر أن تُفتح سلسلة مراجعة لكل خروقات السودان لقوانين الإرهاب؛ وبعضها مالية تتعلق بتهم غسل الأموال، والتهريب، ودعم «حزب الله» وحماس، وتضاف إليها مراجعات ضخمة، واجتماعات بالمسؤولين الأمنيين السابقين الذين يملكون المعلومات والتحليل؛ للخروج بخلاصة جديدة شاملة، لمراجعة هذه القوانين، يُشاع في المجتمع النقاش حولها، ولربما يُنشأ داخل جهاز المخابرات الوطني وحدة لمكافحة الإرهاب، تتخصص في تقديم المشورة وتفكيك الأفكار والتعامل مع ملفها المُعقّد، والذي لن تحلّه التصريحات العابرة، ولا الأماني الثورية، بل المعالجات الدقيقة، والتي يقع أغلبها داخل جهاز الأمن والمخابرات ورئيسه السابق، والبقية لدى أصحاب المبادرة السابقة، وبعض العواصم العربية. من الأماني الطيبة والواقعية أن نظن أن حمدوك يدرك كل هذا.
في الباب نفسه، أطل على العالم وزير الأوقاف والشؤون الدينية السوداني على شاشة قناة عربية، داعيًا اليهود السودانيين إلى العودة لبلادهم، وذلك بعد ساعات من تعيينه. وفي أثناء حديثه عنهم وصفهم «بالطائفة» عوضًا عن وصفهم كديانة أو شعب، وبعد يومين أكد لشابة سودانية تسأله في لقاءٍ متلفز أن المجتمع السوداني كان يعاني من تطرّف ديني وتعصّب، ولتبرير ذلك تحدّث عن أمورٍ سياسية مستعجلة قد لا تبدو ذات صلة. 
وقد اعتبر كثيرون أن هذه الدعوات قد تكون طيبة النوايا، ولكنها جاءت مستعجلة، وتبدو موجَّهة؛ وتُخضِع تاريخ مُطلِقِها لتدقيقٍ مُركّز.
كانت أكبر خطايا النظام السابق، أنه صمم الدعوات الطيبة لتكون لافتات يجذب بها فئات محددة، فكان يطلق الدعوة إلى «وحدة الأديان الإبراهيمية» أحيانًا، ويقدّم استعداداتٍ فجائية للعب دور ليّن وطيّع في سلام الشرق الأوسط، بل حتى تحولاته السياسية من محور إيران وقطر الفوضوي إلى محور الاستقرار العربي؛ كلها فشلت لأسباب كثيرة، ولكن أبرزها كانت أن التصريحات والتحرّكات قُيِّمت على أنها تصريحات غير جدّية، ولم تكن مبنيّة على جهد حقيقي على أرض الواقع، وأدنى أسباب رفضها أنها لم تخرج من حاضنة اجتماعية ولم تسعَ لتشكيلها. هذه الدعوات تتكسّر قبل أن تصل إلى صُنّاع القرار في المجتمع الدولي، فهي كلها افترضت سذاجة المجتمع الدولي الذي ينخدع بمجرد رفع بعض الوزيرات إلى سُدّة قيادة الحكومة، في حين أن إحدى حكومات البشير بلغ عدد الوزيرات فيها ضعف عدد وزيرات الحكومة الراهنة، ولكن السياسات التمييزية الحقيقية، لم يمسها أحد؛ بل إن حكومة الإسلاميين استحدثت «كتائب «جهادية» نسائية في قلب الجيش، وقدّمت وزيرات وسفيرات، بل إنّ عرابها أطلق بعض الفتاوى في شؤون المرأة تخلب ألباب الذين يتحرّجون من الفقه التقليدي، ولكن كل ذلك لم يجدِ في تغيير الحقيقة الواقعية؛ لأن السياسات لم تتحرك نحو تفكيك بنية اضطهاد المرأة، رأيًا، وسلوكًا، ولم تُخَض معركة إلزامية تعليم المرأة بالشكل الوافي، ولأسباب أخر.
علينا أن نملأ يدنا مما نقوله، وأن نقول الأمور بعد دراسة متأنية، مبنية على معطيات حكومية واقعية، لا مجرد آراء، فثمة فرق كبير بين حديث تقوله الدولة، وآخر يطلقه الفرد الحر في قول ما لا يفيد. لا نريد أن يأتي علينا حمدوك، كما جاء البشير قائلاً: «غشونا الأفندية»!



 
وقف البرنامج السرّي للحكومات
أعلن الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء الانتقالي، أن مشروعًا ستنفّذه الحكومة، ولكنّه لم يشر إلى هذا المشروع أو يعرضه على الرأي العام، بعد. كان غالب الظن أنه يترصّد تشكيل المجلس التشريعي ليطرح برنامج الحكومة عليه، ولكنّ تأخُّر تشكيل هذا المجلس إلى أجلٍ غير مسمى؛ جعل الظنّ أنه سيعرضه على المجلس السيادي. ولكنّ هذا ليس أحسن ما يفعله. حتى لو فعل.
لماذا؟
داخل الحكومات السودانية السابقة، تنَقّل البشير بين عدد من البرامج المفاجئة، التي كان يعلن عنها بين ليلة وضحاها؛ فمن خطاب الوثبة الذي حمل مشروعًا جديرًا بالعناية، إلى «روشتة» الحوار الوطني، إلى برنامج إصلاح الدولة، إلى خطابه في فبراير (شباط)  2019 الرامي لعسكرة الانتقال، ووضع الدولة تحت يد الجيش إلى حين نهاية الفترة الانتقالية. كل هذه المشاريع، لم تحظ بحظّها المستحَق من النقاش والنقد، وهو الحظ الذي يكسبها القوة، أو المشروعية، على مستوى المجتمع والإعلام.
كان الأمل ولا يزال، هو: طرح المشروعات الاقتصادية للتداول العام، والساحة الوطنية، لتعوّض حالة النقاش المشروعية الناقصة للحكومة.
حتى لا يتحول مشروع الحكومة إلى شيء مثل مشروعات حكومات البشير؛ قد يكون جميلاً في سبكه، ولكن لا أحد يعرف أين بدأ ولا أين انتهى، وينكره الجميع، ويصبح يتيمًا حين الفشل.
 
الحكومة الانتقالية... لا يستقيم الظل والعود أعوج!
تفشل الحكومة الانتقالية التي لا تدرك أنها حكومة انتقالية في تحقيق أهدافها الانتقالية، وتتورط في مهام متشعّبة؛ فالانتقال نفسه يحتاج إلى من يعرفه!
من القصص المحيرة؛ أن كثيرًا من الزعماء جاءوا لفترات انتقالية؛ تحوّلت إلى أطول سنوات الحكم، سواء في مصر أو سوريا أو اليمن أو غيرها. في السودان كان الترابي أثناء نقاشات المفاصلة (الخلاف بين الإسلاميين)، يتحدث أنّ المؤتمر الوطني صُنِع لينظّر لمرحلة انتقالية، وأن «الإنقاذ» نفسها مُفردة انتقالية، والطريف هنا أن نقاشًا دار بعد اعتقال الترابي، بينه وبين غازي صلاح الدين العتباني، وتمّت بينهما مكاتبات غير مشهورة اليوم؛ ولكنها كانت حديث المجتمع السوداني لشهور آنذاك، تمت بعد اعتقال الترابي، والذي كان حزبه وقّع لتوّه مذكرة للتفاهم مع جون قرنق في جنيف.
دافِع المكاتبات بين الترابي وغازي، أن الأخير استشعر، إخفاق الحركة والدولة معًا، ولاحت له إشارات مبكّرة لإدبار الناس والرأي العام منهما، إدبارًا بيّنًا، وكان يدرك أن إيمان الموجودين داخل الحركة والدولة، لا يعصمه سوى وهْم رقيق تعلّق به بعضهم، تحت ستار أن ما يجري هو محض «تمثيلية» عبقرية يقودها الترابي وتلاميذه. كان غازي في لا وعيه يريد أن يقول لشيخه فلنغتنم هذه الفرصة وننتهزها ونتوحّد، فنصبح وكأنما لم يكن لمفاصلتنا وجود، ولو تم ذلك فإنه يأمل أن لا تُذكَر في التاريخ، إلا وكأنها «اذهب إلى القصر وسأذهب إلى السجن»، أو هكذا بدا للمتابعين غازي؛ المفكر الذي كان شابًا، ولم يكن أحد يدرك أنه في بداية طريق شحوبه الطويل.
على أي حال، قام غازي صلاح الدين العتباني بمحاولة جادّة في مكاتباته؛ من أجل إعادة التوازن للفكرة الإسلاموية، التي نخرت ذاتها وأكلت شيخها، منذ سنة وبضعة أشهر آنذاك. وفي مكاتباتهما، جاء في الحوار حديث عن واحدة من المخارج التي يسوّى بها الخلاف، أو حسبما أود فهمها. 
أحد المخارج التي تنتهي بها حركته من ورطة حكومة الانقلاب. فالترابي أدرك أن ورطة الانقلاب المشؤوم في 1989 ستأكل كل رصيده السياسي وجُلّ مستقبل حزبه وفكرته، فقال مُنظِّرًا لكيفية عودة الحياة إلى حركته: 
«تُقام حكومة انتقالية قوميّة تسترضي لها كل القوى السياسية بنسبة سويّة وشركة عادلة في الوزن والعدد لمقاعد السلطة التنفيذية العليا بالبلاد، ويحيط بها مجلس شورى صغير بذات النسب يتولى التشريع اللازم انتقالاً. ويذهب المجلس الوطني (البرلمان) وسائر المجالس، ولا توكل مسيرة البلاد طويلاً لزمرة من قيادات غير منتخبة ومتحكِّمة دون كيان واسع يقوم بالشورى والديمقراطية. يُمثِّل الشعب نيابة تتولى التشريع والمراقبة والتصريف للقيادة التنفيذية مستقبلاً، بل تدير الحكومة الانتقالية شؤون الحكم الجارية هكذا بضعة أشهر تمهيدًا وتحضيرًا للانتخابات العامة العادلة الحرة بعد مطلع العام المقبل. ويُستبقى الدستور القائم، ويُسترضى الآخرون بأنّه مُعرّض للتعديل أو التغيير بالمجلس النيابي المقبل، وبأنه يمكن مؤقتًا التعطيل والتجاوز في أحكامه لما يعني همّهم من حيث المساواة والحرية في المقاعد والنظم والفرص الانتخابية. ويُتفق على إنفاذ إجراءات تُضفي القومية أو الاستقلالية على كل المحافظات وقيادات الخدمة والمؤسسات العامة. وتُجرى الانتخابات المباشرة لكل ولايات السلطة في السودان، في المركز أو الولايات. ويُجتهد لأن يندرج الجنوب بكل قواه في أنظمة الحكم الانتقالي ومسرى الانتخاب العام، وتُحفظ حقوقه التالية. والقوى السياسية الأخرى ستكسب أنصبة تُرضيها في الغنائم الانتخابية السلطانية هنا أو هناك. والرجاء الغالب بعد العودة لوحدة الحركة وجمهورها أن تحصل هي على كسب كبير يؤمِّن مصائر المشروع ويتنامى به». 
وفي رده على تعليقات الدكتور الترابي على مذكرته الأولى، قال العتباني: «وهذا باب للجدل كبير، فلن نعدم من يزعم أنه لو لم يعوجّ العود لما اعوجّ الظل، وما الدولة إلا ظل الحركة. ليس بالضرورة أن نُحمِّل مسؤولية ذلك لفرد أو جماعة، إنما هو تشخيص لعِلّة دون تعيين لأسبابها أو مسببيها». 
ثم أضاف: «الحكومة القومية الانتقالية هي حقًا ذات مشروعية مجزوءة لأنها ولاية بغير تفويض من الشعب مصدر السلطة الأرضية بحكم الشرع دينًا والعرف دنيا، ولذلك ينبغي أن لا تقوم تلك الحكومة إلا لضرورة الانتقال موقوتة (بأعجل ما تيسر) عبارة صدقٍ لا شعار».
المشكلة أنّ النقاش حول «مَن العود ومن الظل»، انتقل من مثاليته ورمزيته بين غازي وشيخه، إلى أن صار واقعًا؛ فصار الحوار يدور حول تساؤل: هل الدولة دولة الحركة، أم الحركة حركة الدولة، وتحجّر في هذا المربع إسلاميون من داخل الدولة، بل وخارجها؛ وحجّ إلى الخرطوم القرضاوي والزنداني وكل رموز الإخوان المسلمين، غرضهم إقناع الترابي أن يتخلّى عن عناده ويمنع «فصل الحركة عن الدولة»!
اليوم، وفي حكومة «ق.ح.ت» والمجلس العسكري، هذه المسألة مطروحة، تمامًا. تسرّبت بوعي أو من دونه من يد دعاة التغيير إلى يد المتّجرين به. والداعي للحزن أن كثيرًا من الناس لا يعلمون أن البلاد لا تحتمل ترَف التجربة من جديد، وأن واقعها السياسي الراهن إذا تعقّد، فسيفتح الباب نحو حركاتٍ انفصالية من طبقات لم يَحسب أحد أن تنفصل بالسودان عن السودان!
دار نقاش قبل تشكيل الحكومة الانتقالية، السؤال فيه: لماذا دخل القيادي في المجتمع المدني: الأستاذ مدني عباس مدني- معالي وزير التجارة والصناعة السوداني حاليًا- إلى قائمة الترشيحات، وهو عضو في وفد التفاوض بين قوى الحرية والتغيير وبين المجلس العسكري الانتقالي، وقال آخرون إنه ليس كفؤًا ولا يحقّق تعهد رئيس الوزراء الذي وعد الشعب بأن تكون حكومته للكفاءات فقط، وأضاف غيرهم اتهامات يحق لنا التعفف عنها. ولما احتدم النقاش، استلّ أحد شباب (قحت)، لسانه وكتب ما معناه أن «هذه الحكومة؛ حكومة (قحت)، وسيقوم مدني عباس مدني بضمان سيرها وفقًا للبرنامج الذي يُحرّر الدولة من قبضة فلول النظام السابق». 
ثم تواتر الإحساس بين قادة أحزاب صغيرة، بأنّ هذه الحكومة يجب أن تكون حكومة (قحت)، وأن مفاصل الدولة أيضًا يجب ملؤها بقادة قحت وكوادرها. أو كما عبّر القائد منّي أركو مناوي الذي كان غاضبًا من المحاصصة؛ وقال إن آلاف الوظائف الآن يعاد توزيعها على قوائم تصنعها قوى الحرية والتغيير. أما الإمام الصادق المهدي، عرّاب (قحت) ذاتها، قال إنّه حاول وقف المحاصصة ولكنه فشل.
 



الوثيقة الدستورية... متى ستقيد رئيس الوزراء؟!
رغم كل هذه الإشارات، إلى الكفاءة المطلقة، إلا أن الحقيقة تقول إن الاتفاقية السياسية، التي سميت وثيقة دستورية، فيها فقرة تمنح «قحت» حق اختيار وزيرين سياسيين. صحيح أنها منحت ذلك لرئيس الوزراء، ولكنها قيّدَت فخامته بالتزام القوائم المرفوعة إليه، ورغم أنّ الأخبار حملت إشارات إلى أن رئيس الوزراء الصارم رفض بعضها؛ إلا أنّ الأسماء المعلنة، لم تخرج عن التسريبات كثيرًا، أو قليلاً. وحتى لو كانت لديه ملاحظات جوهرية، فالوثيقة لم تكن لتمنحه حق الاعتراض؛ إلا أن يكون لجأ لمجلس السيادة مستنجدًا به.
يتعذّر كثيرون بأنّ الوثيقة الدستورية مليئة بالثقوب، ومشبعة بها. وهذا يتم تداوله على مستوى واسع، ولا يمكن القدح في صدقه، فالوثيقة عُدلت مرة واحدة على الأقل، حسب ما قاله الأستاذ محمد الفكي، أحد أبرز أعضاء المجلس السيادي الشباب، وكان ذلك بغرض حل إشكالية رئيس القضاء الذي سيؤدي الوزراء وأعضاء مجلس السيادة القسم أمامه، وقد تم «فتحها وتعديلها ثم غلقها» كما عبّر عضو المجلس السيادي. 
بعد أسابيع عادت الأستاذة رجاء نيكولا عبد المسيح، للقول، فيما نسب لها، بأن الوثيقة سيتم تعديلها بغرض تعيين رئيس القضاء. أيًا كان الصحيح فيما قاله عضوا مجلس السيادة، فإن الأخبار التي جاءت من جوبا تشير إلى أنّ ممثل حكومة السودان الفريق أول «محمد حمدان دقلو حميدتي» وقع اتفاقًا فيه وعد بالنظر في تعديل نص المادة (70) من الوثيقة الدستورية، والمشاركة في كل مستويات السلطة الانتقالية، وهو يعني أن الاتفاقية أو الوثيقة الدستورية، ستُعدّل لإضافة أعضاء في مجلس السيادة، حتى إنّ أحد الساخرين قال: «ليتهم يقومون بتصحيحها لغويًا وإملائيًا أثناء تعديلاتهم المقبلة».
قديمًا، كان للبشير حكاية يمكن لحمدوك الاستفادة منها، فالبشير؛ داخل كابينة اختيار وزراء المؤتمر الوطني، قيدته اللوائح أحيانًا، وتفسح له بعض المسار للاختيار من بين المرشحين، فكان مساعده ونائبه فيصل محمد صالح مثلاً، يقترح عليه السفير سابقًا والوزير حاليًا عمر بشير مانيس، أو حتى الدكتور عبد الله حمدوك، من خارج اقتراحات الحزب، وللرئيس أن يوافق عليها أو يرفضها. وكانت الولايات تعرض عليه مرشحين ثلاثة، يختار من بينها. ولكن هناك لحظة كان البشير يعيّن فيها من يشاء، وينقل من يشاء من ولاية لأخرى، وفقده فجأة؛ ربما لأن الحوار الوطني قيّده، بإجراءات جعلته يعيّن رئيسًا للوزراء، فقام المؤتمر الوطني بالمطالبة بتعيينه وحكومته. 
خاض البشير معركة لاستعادة صلاحيات رئيس الجمهورية، التي فقدها لصالح رئيس الوزراء، يطول المقام بها هنا، ولكن حمدوك الذي تلا قرار مجلس السيادة بتعيين الوزراء، قادر على إدراك الأمر. وفي ظل التعديلات الكثيرة المقبلة؛ ربما عليه أن لا يضطر نفسه لخوض معركة، لكسب صلاحياته التي «كانت بين يديه»!

 
الإقصاء: الصانع والمستفيد والصفقة الناقصة
في نهاية التسعينات بدأت الحكومة في محاولة كسر وحدة التجمّع الوطني الديمقراطي، وفي الوقت الذي قام السيد الصادق المهدي ومعه ابن عمه السيد مبارك الفاضل، بالتوقيع على مذكرة جيبوتي، في العام 1999 مع النظام، ذهب المحبوب عبد السلام والدكتور عمر الترابي لتوقيع اتفاقية تفاهم مشتركة تهدف لإسقاط البشير، حسب باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية آنذاك (2001)، وذكر أموم حينها أن طلبًا قدمه حزب الترابي للانضمام للتجمع الوطني الديمقراطي. وهو الطلب الذي رفضه قياديون في حزب رئيس التجمع (السيد الميرغني)، معتبرين أنّ التجمّع تأسس لمقاومة انقلاب الجبهة الإسلامية.
على أي حال، قام المؤتمر الشعبي بشق طريقه للمعارضة، ووضع نفسه في وسطها، وهكذا فعلت التشظّيات المقابلة لهم، كانت المعارضة ترفض أن ينضم لها الترابي، الذي أسّس النظام، ولكن سرعان ما جذب الترابي معارضة أخرى بعيدًا عن التجمع!
نجح اتفاق جيبوتي في إعادة الإمام الصادق المهدي، والزعيم مبارك الفاضل إلى السودان، ودخل الزعيم إلى القصر، واختلف مع إمامه، أيضًا، خلافًا من أجل الإصلاح والتجديد، وهو الخلاف الذي يشبه فيما يشبه، خلاف «العتباني» مع شيخه سالف الذكر. وكان لهما أن يكونا الخليفة الموضوعي للترابي، وللإمام الصادق بعد عمر طويل!
أثار كثيرون قبل نجاح اتفاق جيبوتي (1999)، أن الإمام الصادق المهدي، وهو رئيس الوزراء المنتخب، لن يرضى بأن يعمل تحت قيادة محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع الوطني الديمقراطي طويلاً، ولكن العقبة التي منعت المهدي من تولي رئاسة التجمع الوطني الديمقراطي (أكبر حزب في تاريخ السودان)، لم تكن الميرغني، بل إن الراحل الدكتور جون قرنق رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان ومعه الحزب الشيوعي- صاحب الثارات الكبيرة مع المهدي- لن يرضى واحدهما بأن يعمل تحت زعامة الإمام الصادق!
يمثّل الإمام الصادق المهدي، في تصوّر بعض المثقفين، مناطق عريضة من غرب السودان في دارفور وكردفان الكبرى، وله وجود متوزّع في مناطق أخرى من السودان. وظنّ كثيرون أن ثقله الجماهيري انحسر بسبب حروب دارفور المأساوية، التي شكّلت صيرورتها جبهات ثورية تمثّلها، واشتراطات أخرى سوّق الإسلاميون أنهم ورثوها عنه، خاصة أن خطابه الفكري «الخاص به»، مبني على نظرية «الصحوة الإسلامية»، وهو لا يختلف عن المرجعية الإسلاموية لـ«الإخوان»؛ ويتضح ذلك في مبادراته الوسطية رفقة أعضاء منتديات الوسطية التي يشار إليها، حسب عضويتها وفكرها، أحيانًا بأنها إخوانية. ولكن هذا شأن صغير، لا يؤثر على شعبية السيد الصادق، فهو لم يردعه عن التقدم مجددًا لقيادة تجمع (قحت)، شيء، بل مضى إليها بصورة سهلة؛ بوصفه صاحب الوزن الأقوى بين قوى الحرية والتغيير، بلا منازع، وطبعًا لاسمه ولسنّه ولخبرته العريضة دور كبير. بالإضافة إلى التحالفات الذكية، السرية والمعلنة التي عقدها.
أصرّت السيدة مريم الصادق المهدي في بداية الاجتماعات التي كانت في أبريل (نيسان)  2019. على استبعاد كل الأحزاب التي شاركت النظام، وأضافت: «حتى آخر لحظة»، وكان البعض يقولون إن المقصود هي أحزاب الأمة التي انفصلت عن الإمام الصادق المهدي وشاركت البشير، بل إن البعض قال إن المقصود هو السيد مبارك الفاضل، سواء أصدق التفسير القائل بأنّ الصادق لا يريده لأنه لا يلتزم بالقرارات الجماعية، أو التفسير الذي يشاع همسًا، بأنّ وجود السيد مبارك المهدي هو التهديد الوحيد لمستقبل السيدة مريم الصادق المهدي. ولكنّ البعض قلّل من هذا الاحتمال، فمبارك لم يكن موجودًا لآخر لحظة، وما زال مقصيًا. أعاد آخرون التفسير إلى المخزون التاريخي للتجربة السياسية السودانية، التي يعود فيها الصراع التقليدي، لتنافسٍ ظلّ يُعرف بأنه بين أنصار «المهدي» مع ختمية وصوفية الميرغني، بيد أنّ هذا التسطيح للتنافس غير صحيح، وأحد جنايات أدوات التحليل العابرة لفهم السياسة السودانية. فهو كما يوصَف؛ تنافس حيوي في التاريخ والمصالح والرؤى والأفكار والمُثل ونمط المعاش، يبقى حميدًا ما دام بعيدًا عن السلاح والتهميش.
قام أحدهم بوضع خريطة سودانية، وطرح السؤال: ما هي المناطق التي ستصبح بلا تمثيل، لو حذفنا مناطق وجود الإسلاميين (الوطنيين، الشعبيين، الإصلاحيين)، وحذفنا مناطق تمثيل الاتحاديين الأصل، والختمية «أتباع الميرغني». فكان الجواب صادمًا؛ ثمة قرى كاملة تم إقصاؤها، يمكنك وصلها بقلم ورسم خريطة تهميش جديدة ومفزعة، ولها جذر تاريخي!
والتعليق؛ إما أن ثمة مهندسًا لهذا الإقصاء، وإما أنه اختبار تاريخي، جديد، سيعيد رسم الخريطة السياسية في السودان، بصورة لم تكن محسوبة لأحد!
تتجلى بعض ملامح هذه الخريطة الجديدة، في موقف الفريق أول صلاح عبد الله قوش، الذي ظلّ رجل التغيير الأوحد، ثم انزوى سريعًا، وتحلّى بصمت لا يشبه سوى صمت الجنرال المصري عمر سليمان. ولما اشتعل شرق السودان الذي يعرفه صلاح قوش، ويضمنه الميرغني بدأ كلاهما بالتململ، وساد بينهما شعور بأن الصمت ليس حلاً، وأن انتظار فترة انتقالية، قد لا تنتقل، ليس أمرا حكيمًا!
سرت شائعات عن لقاء قوش بالميرغني، والمعروف أن قوش يلتقي الميرغني منذ العام 2009. بصفته مريدًا له ومحبًا، كما يزعم، ولكنّ اللقاءات الأخيرة التي قيل إنها جرت في مصر، حملت بُعدًا سياسيا، فهي لو صحّت تعني أنّ الميرغني يحاول وقف تأثير الإقصاء، بتوسيع رئة حزبه، وتحقيق تماسك جماعته.
رغم أنّ أحدًا لا يستطيع أن يتخلّى عن السؤال: لو كان قوش محبًا للميرغني فعلاً، لماذا لم يُخطِره قبل الانقلاب ليتدبّر الأمر، والميرغني معروف بالتكتّم والكتمان. ولا يوجد جواب واضح، إلا أنّ التقارب ممكن. فنائب رئيس الحزب الاتحادي الأصل، ذهب في مايو (أيار)  في زيارة خاصة إلى مناطق نفوذ في الولاية الشمالية، تحكي الأنباء أنه عقد اجتماعات خاصة مع كثيرين، لمس مرافقوه منها أنهم يشتكون التهميش. آخرون في قلب الجزيرة بدأ حديثهم يعلوا بأنهم تم تهميشهم، وآخرون في الشرق. فالحكومة الجديدة إلى الآن، لم تحترم في بنيتها اتفاقيات القاهرة والشرق، وغيرها من اتفاقيات أمضاها البشير مع قادة المعارضة الشرقية والشمالية، هذه كلها تمّ تجاهلها بشكلٍ ما، بينما تم الحفاظ على اتفاقيات الغرب المكلوم. خطورة هذا الهاجس أنه يعيد ولادة سودان «المهدية» وما بعد المهدية باختلافات عليلة، ويعيد نقاشا يجب أن لا يعاد.
الإمام الصادق المهدي، بحصافته ظلّ يقول إن لصلاح قوش، دورًا كبيرًا في التغيير، ولكنه لم يدعه للانضمام لحزب الأمة، بل قدّم الدعوة لحميدتي علنًا ثم للبرهان خجلاً. قد يقول أحدهم، ذلك لأن الأخيرين ظهرا بلا انتماء حزبي واضح، وهو يريد ضمان مستقبلهما السياسي بعد انتهاء فترة حكم المجلس السيادي، ولكن هذا ينطبق أيضًا على قوش الذي قال إنه تخلّى عن الحركة الإسلامية قديمًا، فلماذا تأخرت بطاقة دعوته؟
للإقصاء علاقة بدول هناك نفس عدائي تجاهها، والذي يتفشّى بين الشباب اليوم، يصوِّر إثيوبيا على أنها المخرج والمنجى. بل إن أغلب حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لوزراء الحكومة قبل شهر من تعيينهم كانت تفيض بمهاجمة غير موضوعية لمحور الاستقرار العربي! بينما تَحْمِل حسابات المجموعة التي وقع عليها الإقصاء اتجاهًا أفريقيًا مع رغبة في علاقات عربية متميزة، وانحيازًا واضحًا لمحور الاستقرار العربي!
يحتاج حمدوك أن ينظر بعين واعية لخياراته في التحرك في مربعات الإقصاء هذه، وللبشير دروس كثيرة في هذا المجال، الحري بحمدوك أن يراجعها هو، لا أن يتركها للسادة في المجلس السيادي، فهو وحكومته من يحتاج الدعم في حال انقلبت بعض مكونات التغيير عليه، لا العكس!
 
خاتمة
فجرت أخطاء حكومة البشير، تراكمات صنعت من دارفور أزمة إنسانية يندى لها الجبين. وبدلاً من أن تحقق السلام للجنوب فصلته. وارتكبت في معالجاتها عشرات الأخطاء التي تمثل كنزًا كبيرًا يجب على السودانيين دراسته بتواضع كامل، ورغبة حقيقة في تفادي الأخطاء. 
الحكومة الانتقالية تحتاج أن ترتبط بمهام الانتقال، وتتحدث عن الانتخابات إذا أرادت الحديث عن الديمقراطية. وإن لم تستطع أن تجلب السلام العادل لمناطق النزاع، عليها أن لا تخلق مناطق أخرى للنزاع. وإن لم تستطع أن ترفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، عليها أن لا تسمح بدخول تيارات إرهابية جديدة. وإن لم تستطع أن تحسّن من حقوق الإنسان وبيئتها، عليها أن لا تجعلها أسوأ. ووقف التدهور هذا، لا يكون إلا بالاعتراف بمسبباته العميقة، التي لا دولة لها ولا قرار.

font change