كورونا ينهش السوريين في صمت

نظام صحي متهالك وحكومة غير مبالية

رفضت دمشق طويلاً الاعتراف بوجود إصابات بالفيروس على أراضيها، فقد اعتادت على التكتم على أعداد الموتى في المعارك، ناهيك عن المصابين بالفيروس (غيتي)

كورونا ينهش السوريين في صمت

لندن: عشرون عامًا من الحكم، عشرة منها في حرب سياسية وعسكرية وصحية، أتخمها بتصريحات مفصولة عن واقع شعبه. عشرون عامًا، رسّخ خلالها انفصاله التام عن واقع شعب منهَك، وزادته سنوات الحرب إنهاكًا.
الرئيس السوري بشار الأسد، رئيس المصادفة، والتعديل الدستوري، لا ينفكّ يذكّر شعوب العالم عامة والشعب السوري خاصة، أنّه بعيد كلّ البعد عن واقع الشعب الموزّع بين لاجئ ونازح وقابع تحت خط الفقر. بين تصريحاتٍ غير واقعية ورفضٍ للاعتراف بواقع الشعب المتعب، إلى نمط حياة مرفّهةٍ وسيارات فارهة وتبضّع بمبالغ ضخمة، يبدو المشهد السوري المتناقض واضحًا.
 
نخبُ دماء السوريين على طاولة الأسد
مع بدء سقوط قتلى وجرحى في الاحتجاجات السورية ضده عام 2011. خرج الرئيس الأسد إلى الناس في أول مقابلة تلفزيونية أكد فيها أنه «غير مسؤول» عن قتل المئات من السوريين، وقال: إنه لم يصدر أوامر باستخدام العنف الدموي ضد المتظاهرين، كما أنه «لا يشعر بالذنب لما يحصل». موقف وصفته أميركا وقتها بأنه «يفتقر إلى المصداقية» وقالت على لسان الناطق باسم خارجيتها مارك تونر إن الرئيس السوري فقد شرعيته.
واليوم، بعد ما يقارب العقد على اندلاع الاحتجاجات، يتعرض الرئيس الأسد لانتقادات مماثلة من الجانب الروسي الداعم الأكبر له. الصحافي المقرّب من وزارة الخارجية الروسية رامي الشاعر أكد أن رأس النظام السوري يعيش حالة من «الانفصال عن الواقع»، وقال: «يرى الأسد كل سوريا بصورة الوضع الذي يحيطه في طريقه من البيت إلى القصر الجمهوري ذهابًا وإيابا خلف الدائرة التي لا يزيد قطرها على كيلومتر واحد من مركز سكنه وعمله وسط دمشق، دون أي علم له بعدم ارتياح المجتمع السوري بأغلبيته».
كيف لا، وقد تجاوز اليوم عدد القتلى نصف مليون سوريّ، بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتجاوزت أعداد النازحين 6 ملايين ومثلهم لاجئون؟ كيف لا والأسد وفريقه يعيشون حياة فارهة خارج وداخل سوريا؟

 وزير الصحة السوري: «لا يوجد كورونا في سوريا، فالجيش العربي السوري طهر سوريا من الجراثيم» في إشارة إلى المعارضين
 


فبينما تدمر آلة الحرب أسقف المنازل فوق رؤوس المدنيين، يعيش الأسد وبعض أفراد أسرته واقعًا مغايرًا، إذ ينامون بأمان في منازلهم، ويركبون سياراتهم الفارهة، ويستمتعون بالحياة التي يشق على كثير من السوريين الاستمتاع بأبسط مقوماتها.
عام 2013 نشرت صحيفة بريطانية رسائل إلكترونية مسربة بين أسماء الأسد وزوجها وصفتها بـ«الصادمة»، حيث أوضحت أن الزوجين كانا يتبادلان الأغاني والمقاطع الترفيهية بينما يواصل جيش حكومتهما قصف الأبرياء العزّل في حمص. 
وبحسب الصحيفة، فإن الرسائل تشير إلى التفاف حول العقوبات الأميركية لتنفيذ عمليات شراء عبر الإنترنت لأثاث وشمعدانات وأحذية فاخرة بأسعار فلكيّة.
وليس ببعيد عنهما، يعيش أقاربهما حياة مرفّهة يشاركون تفاصيلها علنًا على مواقع التواصل الاجتماعي، من صور سيارات باهظة الثمن ومنتجعات فاخرة، فضلاً عن الاحتفالات الفخمة في المدن الأوروبية، ويقدم أبناء أخته أنيسة الأسد صورة عن الثراء الفاحش للأسد وحاشيته في سوريا، والتي تعيش على حساب الشعب المُعدم في حين يواجه معظم السكان في سوريا صعوبة في تأمين أبسط متطلبات معيشتهم.

 

يأتي هذا في ظل أزمة اقتصادية خانقة يعاني منها السوريون مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانقطاع مستمرّ في الكهرباء مع حظر تجول جزئي بسبب جائحة كورونا (غيتي)


 
كورونا أم ذات الرئة؟ تعددت الأسباب والموت واحد
اليوم، مع انتشار جائحة كورونا، وغياب الرئيس عن الشاشات والمنصات للحديث إلى شعبه، كيف يبدو الوضع في الداخل السوري؟
في ظل هدوء غير مستقر على الأرض، وبقايا حرب هدمت أنظمة الرعاية الصحية وأجبرت ما يصل إلى 70 في المائة من الطواقم الطبية على مغادرة البلاد تاركة وراءها مؤسسات طبية منهكة، يقف ملايين السوريين العزل، بانتظار تهديد مدمر جديد، فيروس كورونا المستجد.

* يرى الأسد كل سوريا فيما يحيط به في طريقه من البيت إلى القصر الجمهوري ذهابًا وإياباً خلف الدائرة التي لا يزيد قطرها على كيلومتر واحد من مركز سكنه

 

رفضت دمشق طويلاً الاعتراف بوجود إصابات بالفيروس على أراضيها، فقد اعتادت على التكتم على أعداد الموتى في المعارك، ناهيك عن المصابين بالفيروس، حتى إن وزير الصحة السوري نزار يازجي كان له تصريح غريب في مقابلة تلفزيونية: «لا يوجد كورونا في سوريا، فالجيش العربي السوري طهر سوريا من الجراثيم» في إشارة إلى المعارضين.
ولكن من غير المعقول أن لا تتأثر البلاد فعلاً، نظرًا للعلاقات الوثيقة مع إيران، المتأثر الأكبر بجائحة كوفيد-19 في الشرق الأوسط، فبالإضافة إلى الآلاف من رجال الميليشيات، الذين تم حشدهم إلى جانب القوات الحكومية السورية، ترسل طهران إلى سوريا مجموعات ضخمة من «الحجاج» إلى المزار الشيعي للسيدة زينب جنوبي دمشق، ما يجعل إنكار وجود إصابات على الأراضي السورية مستبعدا.
ومع استمرار إنكار الحكومة السورية لوجود إصابات لمدة تزيد على الشهرين منذ إعلانها جائحة، اعتمد النظام على دعايته المعتادة بأن البلاد «بخير» في ظل زعامة الأسد. ومع ذلك، تغيّر فحوى الرسائل في منتصف مارس (آذار)، وحاليًا، يسعى النظام إلى الاستفادة مما يجري للدعوة إلى رفع العقوبات الاقتصادية، على الرغم من أن أيًا منها لا تستهدف القطاع الطبي.
في هذه الأثناء، وبالتزامن مع إنكار تفشي الفيروس، انتشرت شائعات في الداخل السوري تفيد بانتشار مرض ذات الرئة. يقول المواطن السوري أسامة لـ«المجلة»: «عانى أخي من ارتفاع في درجة الحرارة وسعال جاف، ولدى استشارته الطبيب أبلغه أنه يعاني من ذات الرئة، وعليه أن يعزل نفسَه وزوجته بعيدًا عن باقي الأسرة لمدة 14 يومًا، وعندما أبدى استغرابه لأن ذات الرئة غير معدٍ، أكّد له الطبيب أن عليه فعل ذلك تحسبًا».
وتشرح المواطنة السورية ريم لـ«المجلة»: «أصيبت والدتي بأعراض أثارت رعبنا، فهي تشبه ما يحكي الإعلام عنه حول أعراض الإصابة بفيروس كورونا، وبينما أكّد لنا الأطباء أنها ذات الرئة، منعونا من زيارتها».
في هذا الوقت المشحون بالقلق والترقب، يلجأ السوريون إلى مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات غير الرسمية، والجهات غير المعروفة، والشائعات المُتناقلة، والوصفات الشعبية، خوفًا وعجزًا واتّكالاً، كما اعتادوا لسنوات.
ورغم أن رؤساء العالم تحدّثوا إلى شعوبهم في هذه الأزمة، ومعظمهم سمّوا متحدثين رسميين باسم خلية أزمة كوفيد-19. ووصل الأمر حدّ تنظيم مؤتمرات صحافية يومية لتحديث الأخبار، لما لذلك من أثر إيجابي في نشر الإحساس بالأمان لدى الشعوب وفي إثبات الجهود التي تبذلها الحكومات في سبيل حمايتهم، استمرّ الرئيس السوري بالتزام الصمت، كما حكومته، كما أطباؤه.

* بالتزامن مع إنكار تفشي الفيروس، انتشرت شائعات في الداخل السوري تفيد بانتشار مرض ذات الرئة


ثم أخيرًا، بعبثية المجبور، أعلنت دمشق متأخرة عن أول إصابة بالفيروس في 22 مارس، ووصفت الأمم المتحدة هذا الإعلان بأنه قمة جبل الجليد، في إشارة إلى أن العدد الحقيقي للإصابات أكبر من المُعلن.
تقول الأمم المتحدة إن البلاد معرضة لخطر تفشي المرض بشكل مرعب، بسبب النظام الصحي الهش والحالة السيئة للبنى التحتية، والاقتصاد المنهار، إلى جانب نقص المعدات الكافية للكشف عن الفيروس والحماية منه. كما حذرت منظمة الصحة العالمية مؤخرًا من تدهور الوضع الصحي في سوريا، في حال انتشار فيروس كورونا.
وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارك لوكوك تحدث في مجلس الأمن الدولي قائلاً: «جميع الجهود الرامية إلى الكشف عن الحالات المصابة بمرض كوفيد-19 والتصدي له ستتعرقل بسبب النظام الصحي الهش في سوريا»، مشيرًا إلى أن نحو نصف مستشفيات الدولة ومرافق الرعاية الصحية كانت تعمل بكامل طاقتها في نهاية عام 2019.
وأضاف أن الجهود المبذولة للوقاية من الفيروس ومكافحته تعوقها أيضًا المستويات الكبيرة من حركة السكان، والتحديات التي تواجه الحصول على الإمدادات الحيوية بما في ذلك المعدات الواقية وأجهزة التنفس الصناعي، وصعوبات العزل في مخيمات النازحين المكتظة مع «المستويات المنخفضة هناك من خدمات الصرف الصحي».

 

الرئيس الأسد مرتديًا كمامة في لقاء مع وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف (رويترز)


 
كمامة الرئيس براتب موظف
في ظل هذه الأزمة الواقعة على أكتاف نظام صحي هش، كيف تصرف نظام الأسد؟
قبل أيام ظهر الرئيس الأسد مرتديًا كمامة في لقاء مع وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف في دمشق. هذه الكمامة من نوع M3 Auraيتجاوز سعرها 30 دولارًا، أي ما يعادل راتب شهر لموظف في الحكومة السورية!
يأتي هذا في ظل أزمة اقتصادية خانقة يعاني منها الشعب السوري بدأت آثارها تظهر جلية على القدرة الشرائية للمواطنين مع ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية، وانقطاع مستمرّ في الكهرباء في ظل حظر تجول جزئي بسبب جائحة كورونا، ما يعني توقف أعمال الكثيرين من صغار الكسَبة.

* جميع الجهود الرامية إلى الكشف عن الحالات المصابة بمرض كوفيد-19 والتصدي له ستتعرقل بسبب النظام الصحي الهش في سوريا


تقول السورية نور: «الكيلو الواحد من لحم الخروف يكلّف اليوم 15 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل تقريبًا نصف راتب شهر لموظف حكومي من الدرجة الثانية، حتى إن صحن السلطة قد تصل كلفته إلى 3000 ليرة سورية»، وعن الانقطاع اليومي للتيار الكهربائي تقول نور القاطنة في أحد أحياء دمشق الراقية: «في أحسن الأحوال يتم قطعه 3 ساعات كل 3 ساعات! أي إننا نتمتع بالكهرباء يوميًا لمدة 12 ساعة غير متواصلة، وهو حال أفضل بكثير عما كان عليه قبل عامٍ مثلاً، حين كان الانقطاع يستمر لأكثر من 5 ساعات متواصلة، ما يجعل مهمة تدفئة المنزل شبه مستحيلة، هذا في حال توفّرت وسيلة التدفئة أصلاً».
وبدل تقديم المساعدات المادية لمحدودي الدخل والمتضرّرين، يبدو أن لدى الرئيس السوري رفاهية تتيح له ارتداء كمّامة لبضع ساعات بسعرٍ خصصته حكومته لقضاء احتياجات أسرة موظف لديها.

 
حربٌ بالية، وحكومة لا مبالية
من بلد تم تصنيفه عام 2010 بين الدول المحققة لأهداف الألفية للأمم المتحدة في مجال «القضاء على الفقر»، تظهر البيانات الرسمية اليوم تبدلات عميقة في مستويات الفقر، وانتشاره الجغرافي أيضًا.
فمنذ انطلاق الاحتجاجات ضد الحكومة عام 2011 وما رافقها من تشديد للعقوبات الأوروبية والأميركية، انطلقت معدلات الفقر المدقع في منحى تصاعدي بصورة غير مسبوقة لتبلغ نحو 7 في المائة، كما ارتفعت نسبة الفقراء فقرًا شديدًا لتصل إلى 43 في المائة، وانعدم الأمن الغذائي بصورة لم يسبق لها مثيل ليشمل 33 في المائة من الأسر السورية والنسبة الغالبة منهم في منطقة ضعف الأمن الغذائي.
ومع ذلك، فقد امتنع النظام المعوق اقتصاديا عن تقديم الدعم المالي اللازم للفقراء في الداخل السوري.
ووفقًا لتقرير للأمم المتحدة عام 2019. كان 83 في المائة من السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والمعارضة على حد سواء يعيشون بالفعل في فقر، مع وجود ما لا يقل عن 11 مليون شخص في حاجة إلى مساعدة إنسانية، ونحو ثمانية ملايين لا يستطيعون الوصول إلى الغذاء. حيث يجب على السوريين بالفعل الوقوف في طوابير طويلة لشراء الخبز والضروريات اليومية الأخرى، حتى إن الخبز المدعوم غير متوفر في كثير الأحيان، إذ تنفد دمشق من الدقيق والقمح، وتعتمد على حلفائها الروس في شحنات الطوارئ.

font change