كيف واجه الإعلاميون الرصاص الطائش وضغوط التمويل والانتماء السياسي؟

كيف واجه الإعلاميون الرصاص الطائش وضغوط التمويل والانتماء السياسي؟

[escenic_image id="5544153"]

بالطبع، يجب أن تكون هناك مقاييس واحدة ومعايير ثابتة للإعلام، ولكن ليس أن تطبق على كل الدول باختلاف نشأتها وتطورها وأنماطها الثقافية والاجتماعية السائدة، لهذا نقول إن هناك إجحافًا بحق الإعلام العربي، ليس من قبل صانعيه، وإنما من قبل الناظرين إليه.. يجب أن ننظر إلى هذا الإعلام من منظور الواقع الذي نعيش فيه والمشهد السياسي والاجتماعي الذي يحتضنه، وليس من حيث مطابقته  للمثل العليا التي تدرسها جامعات ومعاهد الإعلام والصحافة في العالم، وبالمناسبة، هذه النظريات لا يرقى إلى ملاءمتها أحد في العالم، إعلاميًا كان أم وسيلة إعلامية، وهذا ما قد نعزوه للكثير من الضغوط والتحديات التي تفرض على الجميع القبول بالحد الأدنى من هذه المثل العليا أو الحد الأوسط كأقصى تقدير.

 قد تكون أبرز الضغوط التي تواجه الإعلامين العربي والأجنبي، ولو مع الكثير من الفوارق، شروط التمويل والإعلانات والانتماءات السياسية لهذه الوسيلة الإعلامية أو تلك.. ولكن هذه الضغوط بعناوينها المتشابهة تختلف كثيرًا بتفاصيلها. وكم هي مؤذية ومكلفة هذه التفاصيل، في الغرب، عندما ينقسم الإعلام، غالبًا ما يكون الخلاف على قرار أو نظام صحي أو سياسة محافظة ينتقدها الديمقراطيون أو الأحزاب الأخرى المناوئة بحسب البلد، أو العكس، ويقول الكل رأيه بشكل صريح وواضح ويبقى الحكم للمشاهد أو القارئ أو المستمع، أما في الدول العربية، عندما ينقسم الإعلام، فغالبًا ما يكون الخلاف على وطن كأقل تقدير.

 ولنعطي الواقع حجمه الطبيعي الحالي، الخلاف غالبًا  يكون على مشروعين إقليميين أو ثلاثة تقسم هذه الدول وتفتك بها الخلافات والأزمات والحروب والمعارك، هنا ينقسم الإعلام أيما انقسام. أكثر ما يضحكني أحيانًا أنه عندما يريد بعض السياسيين أن يتهرب من سؤال يحرجه على الهواء من خلال برامجنا التليفزيونية الإخبارية والحوارية، يلجأ إلى اتهام الإعلام بصب الزيت على النار في هذه المسألة أو تلك ويحاول الإيحاء بأن" الدنيا ربيع والجو بديع" كما تقول الأغنية المصرية الشعبية، فنعود إلى بعض التصريحات والمقالات والعناوين، التي نكون قد دوناها تحضيرًا للمقابلة لنقنع أنفسنا من جديد بأن ما طرحناه في أسئلتنا مثار ومقلق وتتناوله الأفواه والأقلام من كبارات رجال السياسة إلى الشباب الجالسين في المقهى يتحدثون في السياسة، وبالعودة إلى الضغوط، فإن ما نتيجته قول صريح وحر ومحمي في الغرب، نتيجته في بعض الدول العربية قتل غامض، وحر ومحمي أيضًا! وفي أحسن الظروف اعتقال!

ومن تلك التحديات أيضًا، الأحكام المسبقة المبنية على أساس الفرز العرقي والطائفي والمذهبي المقيت،  وهذا ما يتقنه كثيرون إتقانًا شديدًا. عندما تنشب حرب أو تجرى انتخابات أو يحصل أي حدث، تحسب كل محطة أو صحيفة أو إذاعة على جهة معينة، بعضها للأمانة هو الذي يصنف نفسه، ولكن في بعض الأحيان الأخرى تضيع جهود كثيرين بسبب حكم جائر على هذه الوسيلة الإعلامية، ينتقد المشاهد العربي إعلاميًا ما على سؤال لأنه يعتقد أن مذهبه أو طائفته أو جنسيته قد فرضته عليه. وينزعج القارئ من مقال أو تغطية لصحيفة ما، لأنه يعتقد أن من يحركها أو يمولها يفرض عليها ذلك، مع أن ذلك في كثير من الأحيان يكون من ضرورات العمل الصحفي والإعلامي، ويحرم الصحفي من أداء واجبه، بل حقه المهني بسبب دينه أو طائفته، لأن تغطيته لقصة ما في بلد ما قد يكون ثمنها الموت، والأمثلة كثيرة في عالمنا ومخيفة أيضًا، ولن نكون أمهر من بعض المنظمات العالمية التي تنشر قوائم سنوية بأسماء الزملاء الصحفيين القتلى، الذين يجب أن نرفع القبعة احترامًا لوفائهم لمهنتهم وتضحياتهم الجسيمة.. ولكن المزعج في الأمر استغلال هذه المنظمات لبعض الحوادث الفردية كقتل واعتقال وملاحقات قضائية في تسجيل دول بحالها على لائحة سوداء تحت عناوين التخوف على حرية التعبير والنشر ومراعاة الإعلام في هذه الدولة أو تلك لشروطها اللامحدودة.

كثيرًا ما تساءلنا، ألا تلحظ هذه المؤسسات التطور الحاصل؟ ألا تذكر بعض وسائل الإعلام بالاسم تقديرًا لما تقدمه في خدمة مجتمعاتها؟ ألا تكرم أحدًا، ألا تؤشر إلى حجم التقدم الذي حققته الفضائيات العربية، إلى مدى التغيير الذي خلقته في مجتمعاتها؟ ألم يتغير المشهد بعد ظهور قنوات إخبارية متخصصة كالجزيرة والعربية وغيرهما. ألم يتبدل المشهد بعد هذا الحجم الهائل من المعلومات الذي تقدمه الصحافة المسموعة والمقروءة والمرئية يوميًا عبر آلاف الإذاعات والتليفزيونيات والصحف والمواقع الإلكترونية، بطبيعة الحال، لا نسأل هذه الأسئلة لنسمع الإجابة بل لنسلط الضوء على القضية أكثر، فهذه الأسئلة تسمى بلغة الشعر الإنجليزي والأمريكي خصوصًا (ريتوريكال) أي أنها بغير حاجة إلى إجابة. بصراحة، لم يتغير المشهد فحسب، بل إن ثورة إعلامية شهدها العالم العربي في السنوات الأخيرة أدت إلى ما نحن عليه اليوم، ثورة تستحق الثناء والوقوف عندها مطولًا لمعرفة حجم تأثير وفاعلية هذا الإعلام في شعوب المنطقة، وكذلك في صناعة سياساتها من حيث لا ندري.

 وهذا قدر الإعلام في العالم على أي حال، أي أن يكون سلطة رابعة حقيقية، ولو أننا لم نصل بعد إلى النسبة المطلوبة، ولكننا لن نستطيع تحقيق تلك النسبة إلا عندما نثمن هذا الإنجاز، مما لا شك فيه، أن عامل الحريات الإعلامية المحدودة، الممنوعة في بعض الدول العربية، المقبولة في دول أخرى، والجيدة في أقلها، ليست العائق الوحيد أمامنا.

 فهناك أيضًا عامل معوق ومهم جدًا، ألا وهو النمط الاجتماعي والثقافي السائد في العالم العربي، كثيرًا ما نحسد الفضائيات الأجنبية على برامجها الساخنة، والتي تطرح بسلاسة وبساطة وحرية وصراحة، كأن يناقش مذيع مع عائلة أمريكية مشاكلها الخاصة جدًا، والتي تعتبر من التابوهات أو المحرمات في عالمنا، أو أن يتحدث بعضهم عن مشاكله النفسية والجنسية وأمراضه بدون تغطية وجهه وتغيير صوته، مع موجة أنفلونزا الخنازير، التي اجتاحت العالم أخيرًا، تحدثنا إلى أكثر من مريض ليشرح تجربته للناس ورفض الفكرة.

 إنه الخوف من المجتمع، لن يتحرر الإعلام ما دام المجتمع لم يتحرر، فلا يزال هناك الكثير من المحاذير الاجتماعية، المبنية على عادات وتقاليد شعوب هذه المنطقة، ما يكفي ليحرمنا متعة الكثير من القصص الإنسانية والاجتماعية والثقافية المطلوبة، في ظل هذه الظروف نعمل، ورغم كل ذلك، نسعى إلى التغيير، ويجب أن يعترف لنا الجميع بأننا نجحنا وأننا سائرون على الطريق الصحيح.

 وبهذا يجب أن تتعاون الطبقة السياسية مع الإعلام وصانعيه والعاملين في قطاعه، وقد يبدو ذلك غريبًا للبعض لأن السلطتين عادة ما كانتا على طرفي نقيض، ولكن لا بأس أن يتم إرساء الأسس والمبادئ في مرحلة النمو والتطور، لكي يشعر رجل السياسة بأهمية هذا الإعلام فعلًا ولكي تعمق روابط الثقة ويؤمن المسئولون بدور هذه الوسائل ليس من منطلق التحكم وإنما من منطلق التدخل لتصحيح الخطأ وفك القيد من قبل من أحكمه في كثير من الحالات، لقد كان العالم بأسره يتباهى بالرأسمالية والحرية الاقتصادية، ولكن عندما انهار الاقتصاد، تدخلت الدول بشراسة وفرضت القوانين واستحوذت على شركات، فلماذا إذن لا تتدخل هذه الدول لدعم تطور وضمان عمل واستمرارية هذا القطاع المرآة لشعوبه؟ من نافل القول، إن الإعلام بدأ يقوم بدوره الاجتماعي، بغض النظر عن ضرورات محو الأمية ونشر التعليم والتثقيف وسن القوانين وإصدار الفتاوى التي تراعي ضرورات العصر، ونضرب هنا قناة العربية مثلًا عن التغيير الذي بدأت تحدثه، إن من يشاهد هذه المحطة الآن، يعرف أن كثيرًا مما تقدمه قد لا تجده في أي قناة عربية أخرى، لا بالمضمون ولا بالشكل اللذين اجتذبا في سنوات قصيرة جدًا شرائح عربية واسعة جدًا.

 ليست فقط السياسة واستقبالات الملوك والبحث في العلاقات الثنائية بين رئيسين وتحليلات بعض أحداث اليوم هي ما يهمها، بل كل ما اتفق مع كلمة خبر ومعلومة أكانت سياسية أو أمنية أو عسكرية أو اقتصادية أو رياضية أو فنية أو إنسانية أو صحية أو تكنولوجية أو دينية أو حتى طريفة، كل ذلك بطريقة إخبارية رصينة وقريبة من الناس في الوقت عينه. لو تخيلنا المشهد قبل ذلك، قد نصاب بالذهول، إما أخبار قاسية جافة فقط وإما استقبالات السياسيين على موسيقى كلاسيكية، لا للتعميم ولكن نعم للتذكير بالإجحاف الذي كان حاصلًا بحق الإعلام والمجتمع وإعطاء الفرصة لهذين ليتطورا.

 لأن ما هو حاصل اليوم ينمي الإنسان، يثقفه، يعلمه ويبعده عن الجهل والتطرف، وتركيزنا هنا على التليفزيون لأنه الأقرب إلى الناس، والذي يغزو كل يوم ملايين العرب ليشكل آراءهم وقناعاتهم عبر القضايا التي يطرحها، ولأن المواطن العربي للأسف لا يقرأ كما يجب، قلة قليلة تفعل ذلك، حتى قيل فينا: أمة اقرأ لا تقرأ، وفي هذا حديث آخر، أضعف الإيمان أن المحطات الرائدة في عالمنا حتى ولو كانت لها توجهات معينة، غير أنها لا تفرض بالمعنى الحرفي للكلمة هذه التوجهات على مذيعيها ومراسليها، نعم، إن هناك خطوطًا حمراء لا تزال موجودة، لكن يمكن للعامل الصحفي أن يلتف عليها ليقدم ما يفرضه عليه دوره فقط ويمضي.

كثيرًا ما يسألوننا عن توجهات محطة نعمل فيها وعن مدى إيماننا بها أو مدى التزامنا بها..لا نريد.. الحيادية والموضوعية في العالم العربي ممكنتان ولو على صعيد الفرد وليس المجموعة حتى الآن، ولدينا حاليًا عدد ملحوظ يفعل ذلك. وللأسف فإن هناك من لم يفهم اللعبة حتى الآن، ويعتقد أن الميكروفون الذي يذيع من خلاله هو منبر حزبي انتخابي أو أن قلمه الصحفي يجب أن يكون مسخرًا لخدمة قضية يؤمن بها. إذن، إعلاميون وصحفيون محايدون في وسيلة إعلامية لها توجهات معينة تفرضها عليها انتماءاتها وتمويلها، طرفان في معادلة مؤقتة ناجحة، نتيجتها تساوي كسب المشاهد، هنا يكمن الغرض، نعم لابد للآخر أن ينتقد، خصوصًا إذا كان قد سبقنا بمراحل، ولكن على الآخر أن ينظر إلى المشهد ككل وأن يكيل بمكيال عادل يناسب طبيعة الإعلام الذي يعاينه، لا أن يخصص حادثة واحدة بعينها أو حدثًا واحدًا ليبني عليه أحكامه وخلاصة ذلك أن التعميم المطلق المستند إلى الخاص والضيق أي الانطلاق من الخاص إلى العام في الأحكام على الإعلام، ليس إلا ظلمًا لجهود خارقة ومخلصة يبذلها بصدق من يؤسس هذه الوسائل الإعلامية والصحفية ومن يديرها ويعمل فيها في ظل هذه الظروف الصعبة والانتقالية التي نعيشها على واقع الرمال المتحركة ووقع الرصاص الطائش، قلنا في البداية بصراحة: شكرًا للإعلام العربي ويجب أن نقولها في النهاية أيضًا: ومعها يجب أن نتذكر، لمَّا نصل بعد إلى ما نصبو إليه، وإلى ما نحن قادرون على أن  نكونه، وها نحن نحاول.

font change