
والمراقب للوضع في العراق يمكن أن يجد بعض العناصر الديمقراطية المهمة، مثل دستور أقره الشعب في استفتاء شعبي، ومجلس تشريعي منتخب، ومجتمع مدني ناشئ مستعد لتنظيم مظاهرات شعبية للمطالبة بالحقوق السياسية، ولكن على الرغم من أن ديمقراطية العراق ما زالت منقوصة، وتقوض باستمرار آمال وتطلعات شعبها، فإنها ديمقراطية لها أهمية بالغة مقارنة بالوضع في سوريا أو ليبيا، فالعراقيون يناضلون لبناء دولة وهو ما يترك إمكانية للعمل من داخل النظام لإجراء الإصلاحات السلمية، وتعزيز الديمقراطية ونمو الفرص الاقتصادية.
مخاوف وإحباطات
ومع ذلك، ليس من الحكمة أن نفرط في التفاؤل، فحتى الآن، ما زال العراق دولة خطرة وغير مستقرة، وتعاني من عقبات السياسات الأميركية الفاشلة، وتدخلات الدول المجاورة والإدارة العامة غير الفعالة، وبعد «الانهيار» وهو الوصف الذي ما زال العديدون يستخدمونه لوصف سقوط نظام صدام حسين، حمل أفراد الشعب العراقي السلاح وتحصنوا في أحيائهم ومجتمعاتهم، وشن بعضهم حربا على الولايات المتحدة، فيما حارب الآخرون بعضهم بعضا لتصفية نزاعات سابقة أو للحصول على المال والسلطة في النظام السياسي الجديد.
وقد قفزت القوى الإقليمية أيضا إلى المعترك، لتأييد الفصائل المفضلة لديها، أو لمناهضة السياسة الأميركية، فقد استغلت إيران على نحو خاص الفرصة لكي تلقن الولايات المتحدة درسا، وتجبرها على إعادة النظر في مخططاتها الجديدة بالنسبة للمنطقة، وعاد المنفيون العراقيون الموسرون، إلى البلاد لكي يترشحوا للرئاسة فيما أعادت الميليشيات الطائفية الدموية تشكيل ديموغرافية مقاطعاتها بالسلاح والقنابل والصواريخ، وأصبح جليا للجميع حجم الصدع الهائل في السياسات العراقية، فقد كان هناك شيعة عرب، وسنة عرب، وأكراد، وقد أثبت ذوو الطموحات السياسية أنهم مستعدون لأن يذهبوا لأي مدى كي يعالجوا مخاوف وإحباطات قواعدهم الجماهيرية.
واليوم تحيا المنطقة الكردية المستقلة المسالمة والثرية، إلى جانب المقاطعات ذات الأغلبية العربية التي تسودها الفوضى، والتي لا يمكن التنبؤ بما ينجم عنها، فقد سمح المستوى الأمني العالي في أربيل وغيرها من المدن الكردية للعديد من المشروعات الخاصة بالازدهار، كما يتنامى اقتصاد المنطقة بسرعة، معززا بالاستثمارات التركية وازدهار قطاع العقارات، ومن جهة أخرى، وفي الأجزاء العربية المجاورة، ما زالت الميليشيات والجماعات المتمردة والعصابات الإجرامية نشطة، وما زال العديد من سكان المناطق الحضرية يشعرون بأنهم يعيشون في منطقة حرب.
وعلى الرغم من أن الوضع الأمني قد تحسن على نحو كبير خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فإن ذلك التحسن يعد تحسنا طفيفا مقارنة بما أسفرت عنه الحرب الأهلية التي استهلكت قوى البلاد في عامي 2006 و2007. ففي تلك السنوات، كان العنف السياسي يسفر عما يقدر بـ35 ألف قتيل سنويا. وهو الرقم الذي انخفض إلى 3500 قتيل سنويا، وهو أقل بكل تأكيد، ولكنه ما زال مرتفعا بالمعايير العامة
والأهم من ذلك، أن عمليات القتل والتطهير العرقي التي وقعت في جميع أنحاء العراق قد تركت البلاد في حالة من التمزق والصدمة، حيث تفصل الهوية (العرقية – الطائفية) بين السنة والشيعة والأكراد - في واحدة من أكثر مظاهر الديمقراطية مأساوية، كما عملت الأحزاب السياسية المتعددة لتمثل تلك الانقسامات وتستغلها للحصول على دعم مجتمعاتها فيما يلقون باللوم على الولايات المتحدة في العنف الذي أسهموا في إثارته.
[caption id="attachment_55227797" align="alignleft" width="300" caption="مسعود بارزاني"]

تمرد قاتل
ومن جهة أخرى، ما زالت العلاقة بين حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي والحكومة الإقليمية في كردستان التي يترأسها مسعود بارزاني محملة بالنزاعات الدفينة حول التفاوض على عقود البترول والغاز بالإضافة إلى الهيمنة على المناطق المتنازع عليها والتي أهمها كركوك. وقد حذر برزاني مؤخرا من أنه عندما تغادر القوات الأميركية سوف تندلع على الفور حرب أهلية بين العرب والأكراد.
وفي الوقت نفسه، في الأجزاء السنية من البلاد، هناك تمرد ينشب ببطء ولكنه تمرد قاتل، حيث تهاجم الجماعات المسلحة باستمرار محلات المجوهرات وغيرها من المشروعات لتمويل أنشطتها، إلى جانب الهجوم على المدنيين الشيعة، بالإضافة إلى نصب كمائن ضد شخصيات الحكومية وشيوخ القبائل المرتبطين بحركة الصحوة (تحالف سني).
وفي المناطق الشيعية، انضمت فلول جيش المهدي إلى العصابات الإجرامية التي تهاجم السكان المدنيين. وما زال مقتدى الصدر يجاهد لكبح جماح أعضاء تنظيمه، ولكي يحافظ على تأثيره، فقد عاد للتهديد باستئناف الهجمات على القوات الأميركية إذا ما أخفقت في أن تغادر البلاد في الموعد المحدد في 31 ديسمبر (كانون الأول).
إن من أكبر المشكلات التي تواجه العراق الآن ربما تكون عدم فعالية الحكومة المركزية، فعلى الرغم من عائدات البترول المرتفعة، ما زالت إدارة المالكي غير قادرة على أن توفر الخدمات الأكثر أهمية بالنسبة للشعب. كما أن الفساد مستشر وواضح للعيان.
وفي الوقت الذي يجب فيه على معظم العراقيين أن يتكيفوا مع النقص الحاد في الكهرباء، الذي لا يزيد عن ساعتين فقط في اليوم، يعيش المسؤولون الحكوميون في رغد من العيش، في منازل محاطة بالحدائق وحمامات السباحة، كما يتقاضون أجورا كبيرة ويهيمنون على مؤسسات الدولة الضخمة ويحابون أقاربهم. والأسوأ، أنهم أكثر اهتماما بالاستحواذ على السلطة من معالجة المشكلات التي تعد جوهر النزاع المدني في العراق، والذي يمكن تحديده بسوء استخدام الإسلام لتحقيق مصالح سياسية، والنفوذ المضر لإيران.
وعلى الرغم من أن المالكي يلقي دائما باللوم على الجماعات المتطرفة في عرقلة السياسة العامة ويعزو إليها بطء إيقاع الإصلاح، فإنه في الحقيقة، أظهر ميلا لاستغلال موجات العنف للهيمنة على المجتمع، والحد من الحقوق والحريات التي أقرها الدستور، ففي الانتخابات البرلمانية 2010 تدخل المالكي شخصيا لاستبعاد مئات من السنة من الترشح من منطلق أنهم ذوو صلات سابقة بحزب البعث.
ومع ذلك، في معظم الحالات، أثرت عمليات التطهير تلك على الأفراد الذين لم يكن لهم نفوذ قوي في حزب البعث أو الذين كانت تحوم شكوك حول وجود صلات غير رسمية بينهم وبين مسؤولين في حزب البعث، وقد بدت تلك التهم، سياسية بشكل أساسي وتستهدف إبقاء خصوم المالكي في موقف الضعف، واكتساب تأييد جماهيره الطائفيين، كما اتضح أيضا أن المالكي رافض لأي نوع من الاحتجاجات الشعبية التي توجه انتقادات لحكومته.
[caption id="attachment_55227798" align="alignleft" width="300" caption="نوري المالكي"]

الربيع العربي
ويتعرض دائما المتظاهرون السلميون - في بغداد وغيرها من المدن مثل الرمادي، والفلوجة، والبصرة - للاعتداءات من قوات الأمن وفي بعض الأحيان يتم اعتقالهم وتعذيبهم. كما تلقي عملية الاغتيال الأخيرة للصحافي والناشط الديمقراطي، هادي المهدي، بظلال أخرى داكنة على الحكومة ما يجعل الحق في حرية التعبير يبدو محدودا وغامضا.
ومع ذلك، ساهم قتل المهدي في إثارة حماس المتظاهرين ورفع سقف مطالب النشطاء المدافعين عن الديمقراطية، حيث تدعو حاليا الحركات الشعبية التي ظهرت في فبراير (شباط)، في أعقاب الربيع العربي، إلى المزيد من المظاهرات مستخدمة الشبكات الاجتماعية مثل «فيس بوك» و«تويتر» بالإضافة إلى المدونات مثل مدونة «الشارع العربي من أجل التغيير» وغيرها من المواقع الإلكترونية مثل موقع (altahreernews.com).
وفي المدن ذات الأغلبية السنية مثل الرمادي والفلوجة، يطالب الناس حاليا بوضع نهاية للتمييز الحكومي، فعلى الرغم من أنه في عهد صدام حسين، كان كافة المسؤولين الحكوميين الكبار وقيادات الجيش من السنة، وعلى الرغم من أنه من العدل ومن الضروري استبعاد الأفراد الذين كانت لهم صلات بصدام حسين من المناصب الحكومية، فإنه من الخطأ أن نعاقب المجتمع السني بأكمله، حيث إن مثل تلك السياسات تغذي الانقسامات الطائفية وتحفز التمرد.
وفي النهاية، فإن معظم المتمردين، من الطبقات الفقيرة، وتتراوح أعمارهم بين أواخر مرحلة المراهقة أو أوائل العشرينيات، وهم في الغالب يعانون من البطالة ويكرهون الحكومة، لأنهم يعتقدون أنها لا تمثلهم، والسبيل الوحيدة للحد من المظالم التي تعاني منها الأقلية السنية هي التفرقة بين مؤيدي صدام حسين والسكان السنة بشكل عام، وذلك تحديدا هو ما تحاول العديد من حركات المجتمع المدني تحقيقه.
ففي الميناء الجنوبي للبصرة، رفعت الجماهير التي خرجت للشوارع احتجاجا على فساد الحكومة وعدم فعاليتها، مطلبا آخر، فقد أرادوا أن يروا عائدات البترول التي تأتي من مقاطعتهم، وهي تمول مشروعات التنمية المحلية خاصة في المجتمعات التي تعاني من التلوث الناجم عن استخراج البترول.
وحتى في المنطقة الكردية، خرج الناس إلى الشوارع بمطالب شرعية، حيث يدرك الأكراد أن الحزبين الإقليميين الرئيسيين، «الاتحاد الوطني الكردستاني»، و«الحزب الديمقراطي الكردستاني» قد احتكرا السلطة وأنهما لا يتسامحان مع أي من معارضيهما، كما يهيمن هذان الحزبان على البشمرجة (القوات الكردية المسلحة) وهما مستعدان لاستخدامها ضد أي فرد أو منظمة تهدد نفوذهما. كما تعرضت الأحزاب الكردية الصغيرة، مثل غوران، لهجمات متكررة. وفتح المسلحون النيران على المتظاهرين في أكثر من مناسبة، كما يطالب النشطاء الأكراد الحكومة بالشفافية والمساءلة وأن تقطع الأحزاب السياسية صلاتها بالبشمرجة.
[caption id="attachment_55227799" align="alignright" width="300" caption="مقتدى الصدر"]

الإصلاح الديمقراطي
وفي جامعة بغداد ينمو تمرد ديمقراطي ناشئ. حيث يبتكر الطلاب والأكاديميون استراتيجيات جديدة للضغط على حكومتهم مستخدمين الشبكات الاجتماعية لنشر رسائل مفتوحة للمالكي، وغيره من أعضاء مجلس النواب. وخلال الأشهر القليلة الماضية، استجابت الحكومة لبعض مطالب الشعب العراقي حيث قامت بتحسين إمدادات الكهرباء وإقصاء بعض كبار المسؤولين الفاسدين من مناصبهم.
إن وجود إطار للديمقراطية في العراق، حقيقة يمكن الإفادة منها، بمعنى أن بإمكان شعبه استخدام السبل الديمقراطية لدفع الحكومة للإصلاح. وعلى الرغم من أنها سوف تكون عمليه صعبة معرضة للنكسات، وعرضة لقمع الآلة الأمنية للدولة، فإن الإصلاح الديمقراطي السلمي أمر ممكن تحقيقه في العراق.
في الوقت الراهن، ان من يلجؤون للعنف لمحاربة الحكومة، هم هؤلاء الذين يسعون للإفادة من نشوب حرب أهلية، فهم راديكاليون يسعون لتطبيق أجندات طائفية ويتمنون تأسيس دولة غير متسامحة وعدوانية، ومع ذلك فهناك ملايين من العراقيين المعتدلين الذين يحاولون بناء دولة قوية عبر السبل السلمية والديمقراطية، وهم يمثلون الأمل في المصالحة الوطنية وتحقيق الديمقراطية والنمو الاقتصادي.
فدريكو مانفريدي