
في أحد الحوارات الإعلامية انتقد جوانفكرـ وهو الشخصية المثيرة للجدل في السياسة الإيرانية ـ بجرأة الرئيسة البرازيلية دلما روزيف، متهما إياها بـ«القضاء على سنوات طويلة من العلاقات الطيبة، وتدمير كل شيء حققه الرئيس البرازيلي السابق لولا». وأخذا في الاعتبار الرابطة الخاصة بين أحمدي نجاد وجوانفكر، فإن تعليقاته تم النظر إليها باعتبارها الرؤية الرسمية لمكتب الرئيس، إن لم يكن النظام برمته. إذ لا يبدو شن مثل ذلك الهجوم على الزعيمة البرازيلية في تلك المرحلة دبلوماسيا على الإطلاق.
بذور الأزمة
كان أحمدي نجاد حريصا على التقاط صورة مع نظيرته البرازيلية خلال جولته بأميركا اللاتينية، ولكن البرازيل (بخلاف الحال في عام 2009) رفضت ببساطة استضافته. ولا حاجة للقول، بأن ذلك أثار غضب الدوائر المحيطة بالرئيس، على الأقل، لأن الوقوف إلى جانب الزعيمة البرازيلية، كان يمكن أن يعزز موقف الرئيس على المستويين المحلي والدولي.
وقد بدأت الأزمة البرازيلية ـ الإيرانية في 2003، عندما حصلت شركة «بتروبراس» على حقوق استكشاف البترول واستخراجه في بحر قزوين في اتفاقية بلغت قيمتها نحو 34 مليون دولار، بعدما كانت العلاقات السياسية الوثيقة قد جذبت أنظار العالم في بداية عام 2009.
وقد سعى الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا، في إطار أجندته للسياسة الخارجية التي تتجه نحو الخارج والتي ضمنت بالفعل مكانا للبرازيل في أفريقيا، بالإضافة إلى مقاربة الجنوب ـ التي تعتمدها السياسة الخارجية للبرازيل، لتعزيز الحضور والنفوذ البرازيلي في الشرق الأوسط، في ظل الأداء القوي للبرازيل خلال الأزمة المالية العالمية 2008، والثقة في صعود البرازيل كقوة عالمية، وازدياد شعبيته في الداخل وحريته النسبية من القيود السياسية المحلية، نظرا لأنه كان في دورته الانتخابية الأخيرة.
مما لا شك فيه أن استراتيجية البرازيل الإقليمية الجديدة لم تكن تقتصر على إيران. فقد كان ذلك جليا في اتفاقية «ميركوسور» مع إسرائيل التي كانت تحت رعاية البرازيل، عرض اتفاقية التجارة الحرة مع الأردن، بالإضافة إلى قرار الاعتراف بدولة فلسطين داخل حدود 1967. ومع ذلك، كانت إيران في الصدارة لأسباب عدة.
سوق مربحة
ونظرا لأنها مصنفة باعتبارها سابع أكبر احتياطي لليورانيوم في العالم والتي حصلت على تكنولوجيا التخصيب قبل انضمامها لاتفاقية الحد من الانتشار عام 1997، تحاول البرازيل أن تصبح موردا عالميا للوقود النووي. وقد رأى سيلفا في الصناعة النووية الإيرانية سوقا مربحة. والأهم من ذلك، ونظرا لتجربتها في الستينات، عندما حاولت الولايات المتحدة عرقلة تنمية برنامجها للطاقة النووية المدنية فاضطرت البرازيل إلى إنشاء برنامج سري للطاقة النووية في السبعينيات. كانت البرازيل وما زالت تشكك في العقوبات الغربية، وترى أنها نذر حرب وأنها سوف تعمل كدافع بالنسبة لطهران للحصول على الرادع النووي. وأخيرا، وربما الأكثر أهمية، أن البرازيل رأت فرصة نادرة في موقف إيران من الغرب لكي تطرح حجة أقوى بشأن نظام الحد من الانتشار والذي وفقا للمسؤولين البرازيليين، أصبح أداة سياسية في يد الولايات المتحدة لكي تفرض بانتقائية القانون على الدول الأضعف.
من جانبه، كان النظام الإيراني يشعر بالإثارة تجاه ذلك القدر من الانتباه الإيجابي الذي أولته له البرازيل. وقد كانت طهران تقليديا تستخدم سياستها التجارية كوسيلة لإحباط عزم بعض الدول من التعاون مع العقوبات أو الانحياز بشكل واضح للمعسكر المناهض لإيران. ومن ثم، لم تضيع إيران وقتا في فتح أسواقها أمام المشروعات البرازيلية وكان حجم التجارة بين الدولتين يتزايد حتى وصل إلى ما يقدر بنحو 2.1 مليار دولار عام 2010.
وفي أعقاب إعلان البرازيل في بداية عام 2009 أنها بدأت تخصيب اليورانيوم على المستوى الصناعي، كانت طهران تأمل في توسيع التعاون النووي مع البرازيل. كما كانت إيران حريصة على تعزيز الصلات بين البنوك البرازيلية والإيرانية، لكي تحصل على صلة غير مباشرة مع النظام المالي الأميركي.
وفي ذلك الإطار من العلاقات الحميمية، تبادل الرؤساء الإيراني والبرازيلي الزيارات الرسمية في عام 2009 كما تم توقيع إعلان طهران. وكان لذلك النشاط الجديد هدفان واسعان: تقديم البرازيل كوسيط وكطرف قادر على تبرير مطالبه بالحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتنويع العلاقات التجارية البرازيلية والسعي وراء الحصول على شركاء جدد في الاقتصاد البرازيلي.
[caption id="attachment_55234883" align="alignleft" width="255" caption="الرئيسة البرازيلية دلما روزيف"]

تراجع العلاقات
ولكن منذ انتخاب الرئيسة الجديدة، اتخذت العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين إيران والبرازيل منحى متراجعا. وعلى نحو ما، يجب ألا يكون ذلك مفاجئا. فباعتبارها شخصيا قد تعرضت من قبل للتعذيب، أعلنت الرئيسة روسيف بوضوح أنها سوف «تنأى بنفسها عن مبادرات السياسة الخارجية الغريبة، التي كان يقوم بها لولا»، وهو ما «يؤثر على الشراكة الدبلوماسية بين البرازيل وإيران».
وهناك عاملان آخران لهما أهمية: قرار البرازيل بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية والاتجاه العام للسياسة الخارجية للبرازيل. ففي 16 يوليو (تموز) 2011، أعيد طرح خطط إنشاء الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية التي كانت قد تم تأجيلها منذ السبعينيات في مناسبة عامة حضرتها الرئيسة البرازيلية ووزير الدفاع. كما يمكن أن ينبع فقدان البرازيل الاهتمام بإيران وبرنامجها النووي من رغبتها إبعاد الأنظار ـ والشكوك ـ حول برنامجها، حيث إن هدفها النهائي هو بناء غواصات نووية.
من جهة أخرى، يبدو أن ردود الأفعال السلبية تجاه مغامرات البرازيل الصغيرة في الشرق الأوسط، قد أقنعت البرازيل بتقليص دورها في المنطقة وتركيز كافة طاقتها على الخارج القريب وأفريقيا، خاصة أن البرازيل لديها اكتفاء ذاتي من البترول.
إن العلاقات الطيبة بين البرازيل وإيران، وموقف البرازيل من إعلان طهران، بالإضافة إلى موقفها المؤيد للقضية الفلسطينية، أغضب كلا من واشنطن وإسرائيل. وكلما ذهب سيلفا في مبادرته الإيرانية ـ الشرق أوسطية، خلق مشكلات للتجارة البرازيلية التي تتكامل بقوة مع الغرب. فلم يقتصر الأمر على سخط واشنطن بشأن الصفقة النووية مع إيران، بل إنها هددت بالحد من قدرة البرازيل على الوصول للقطاعات المالية والتكنولوجية الأميركية، في الوقت الذي كانت فيه البرازيل في حاجة للشركات الأميركية التي لديها تكنولوجيا راقية بعد اكتشافها مخزونات جديدة من البترول والغاز تحت المياه.
شراكة برازيلية تركية
وبعد مراقبة التقارب الهندي ـ الأميركي مؤخرا، ربما يكون المسؤولون البرازيليون قد قرروا أنه بقدر ما تسمح مصالحهم الوطنية، فإن التعاون مع الولايات المتحدة ربما يخدم طموحاتهم بالحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن أكثر من التدخل في قضايا لها أهمية استراتيجية أكبر بالنسبة للحكومة الأميركية. ومما لا شك فيه، أن الحكومة البرازيلية الداعمة للاستثمارات تستطيع مساعدة واشنطن في أميركا اللاتينية وأفريقيا في مقابل دعم الولايات المتحدة في مساعيها للحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن.
وخلال السنوات الأخيرة للسيد سيلفا، أخذت البرازيل درسا قويا في المنطقة حينما أدركت أنه ليس لديها البنية الإدارية أو الدبلوماسيون المحنكون والمدربون لمعالجة التعقيدات الدينية والسياسية والآيديولوجية المهيمنة في الشرق الأوسط. ومن ثم، سلطت الإدارة الجديدة أنظارها على أفريقيا خاصة في الدول الناطقة بالبرتغالية وقصرت أجندتها الشرق أوسطية على التجارة فقط. وتأمل البرازيل أن تقدم تجربتها في الوقود الحيوي والأمن الغذائي حلولا بديلة للدول الشرق أوسطية فيما تستمر في بيع القهوة والسكر واللحم، وجميعها مطلوب بقوة في المنطقة. ومع ذلك، تستطيع البرازيل، على المدى المتوسط، أن تعود إلى المنطقة عبر شراكة مع تركيا. فقد كانت أنقرة تسعى لتعزيز حضورها في أفريقيا منذ عام 2005. وباعتبارها مستجدة على نحو ما، من المرجح أن تعتمد تركيا على القوة الناعمة للبرازيل لكي تحقق أهدافها في مناطق محددة من القارة. وفي المقابل، فإن التعاون في أفريقيا ربما يمهد الطريق لبزوغ شراكة تركية برازيلية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.