المعرض «المتفجّر» لساي جوو تشانغ.. عندما يلتقي الشّرق بالشّرق

المعرض «المتفجّر» لساي جوو تشانغ.. عندما يلتقي الشّرق بالشّرق

[caption id="attachment_55235489" align="aligncenter" width="620" caption="المعرض «المتفجّر» لساي جوو تشانغ"]المعرض «المتفجّر» لساي جوو تشانغ[/caption]

تم افتتاح المعرض «المتفجر» على مساحة ممتدة من الأراضي الفسيحة بقطر، حيث بدأت فعاليات المعرض باحتفالية حملت عنوان «الاحتفالية السوداء»، عبر عشرة مشاهد متتالية تستخدم ما يزيد على 8300 قذيفة دخان أسود مزودة برقائق كمبيوتر دقيقة. بدت الأولى كقطرات من الحبر المتناثر على السماء، تنبثق منه زهور سوداء تعقبها زمزمة رعدية. ثم أطلقت المزيد من قذائف الدخان لكي تشكل هرما أسود ينتصب على الأرض يعمه السكون، في عرض استثنائي خلاب.

وقام شاهد عيان بوصف تلك الأجواء الدرامية قائلا: «تطور الفعاليات أمام أنظار الجماهير، والأصوات والروائح، ومشهد (كرة اللهب) ـ الحرارة، ثم الانقشاع التدريجي للدخان عقب كل انفجار - لقد كانت تجربة حسية كاملة، ولم يكن من السهل التقاط الصور لها». لقد كان ذلك المشهد المبهر، هو فعالية افتتاح هذا المعرض المذهل.

في القاعة العلوية بالمتحف، كانت هناك مقاطع فيديو وعروض «باور بوينت» تقدم نماذج من الأعمال السابقة للفنان ساي جوو تشانغ، وتستعرض تجربته الإبداعية، بما في ذلك تجاربه الخاصة بمسحوق البارود، والألعاب النارية، و«الأداء» الجماهيري للفعاليات المتفجرة. ومن بين تلك الأعمال كانت سلسلة «الألعاب النارية السوداء» التي جاءت كرد فعل على هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). ومن الواضح أن ساي جوو تشانغ تأثر كثيرا بمسحوق البارود، فعن ذلك يقول: «تثير عفوية مسحوق البارود، وعدم القدرة على التنبؤ بسلوكه، الحماس والتوقعات في نفسي. أرى أن تلك الخاصية تحمل الغواية، فلا يمكن استبدال تحول الطاقة والجمال والتأثير الذي يخلفه عبر أي من المواد الأخرى». بالطبع، كان مسحوق البارود اختراعا صينيا.

طريق الحرير


[caption id="attachment_55235490" align="alignleft" width="143" caption="ساي جوو تشانغ"]ساي جوو تشانغ[/caption]

ولكن ماذا يعني كل ذلك في الوقت الذي تعج فيه الساحة العالمية بالتوترات، وفي ظل توجه الأنظار صوب الربيع العربي، بكافة الاحتمالات المحمل بها؟ تستكشف ثنائية «العودة للوطن» و«الاحتفالية السوداء» العلاقة العميقة التي لم تسلط عليها الأضواء بين العالم العربي والصين والتي تعود إلى خطوط الملاحة القديمة المعروفة باسم «طريق الحرير». وهي تمزج بين الطبقات المتعددة لتاريخ مسقط رأس ساي جوو تشانغ في مدينة تشوان جو، والثقافة البحرية لمنطقة الخليج العربي. وكان تشانغ منذ شبابه مهتما باقتفاء أثر الآثار الإسلامية في بلدته، بما في ذلك مسجد الصحابة الضخم والقبور التي تتضمن العديد من الشواهد المكتوب عليها باللغة العربية. يذكر أن بعض الدعاة الأوائل للإسلام مدفونون في «الضريح المقدس» بالمدينة. كما كانت مدينة تشوان جو مركزا بحريا مهما على طريق الحرير ولم تكن تصدر فقط الحرير، ولكنها كانت تصدر أيضا التوابل والشاي والخزف الصيني ومسحوق البارود إلى الخليج العربي. وفي المقابل، كانت السفن العربية تحمل البضائع الفاخرة والبخور إلى الشرق.

في جميع أنحاء المتحف، توزع أكثر من خمسين عملا فنيا، من بينها 17 عملا جديدا يستكشف الرمزية التاريخية والمعاصرة للخليج، بالإضافة إلى التراث الإسلامي لمدينة تشوان جو. فيما تعد الأعمال الأخرى جزءا من الأعمال الارتجاعية التي تم عرضها في الطابق العلوي. وتماشيا مع عنوان المعرض «سراب»، تعالج الأعمال الفنية تشانغ، الغموض المحيط بالعلاقة بين كل من قطر والصين، حيث يتساءل عما إذا كانت عملية التفاعل الثقافي ذاتها، مراوغة وصعبة المنال. وبصراحة يقول تشانغ: «تشتمل تلك الأعمال على تأملاتي، والالتباسات المحيطة بالعلاقة بين الشرق الأوسط والعالم».

إعادة تخيل


ويعد معرض «سراب» المعرض الأول بالنسبة لكل من المتحف وساي جو تشانغ، فهو أول معرض لفنان واحد يقدمه المتحف منذ افتتاحه في ديسمبر (كانون الأول) 2010. ويهدف المتحف إلى تقديم المنظور العربي للفن الحديث، كما أنه ملتزم بالاتجاه صوب آسيا مستكشفا الصلات التاريخية والمعاصرة. ووفقا لما قالته وسن الخضيري مديرة المتحف والأمينة العامة لمعرض «سراب»: «فإنها أول مرة ننظر فيها إلى ديناميكيات التبادل الثقافي بين المنطقة والصين. وبإعادة تخيل العلاقات مع آسيا على ذلك النحو، يستطيع معرض «سراب» أن يساعد المشاهدين على النظر إلى ما بعد العلاقة بين الشرق والغرب في الفن المعاصر». كما علق على التعاون مع ساي جوو تشانغ قائلا: «يمثل هذا العرض رحلة من الاستكشاف الشخصي والفني الذي يعكس تنوع أعمال ساي من الحميمي إلى المدهش».

بالنسبة لجوو تشانغ، قدم معرض «سراب» الفرصة لاستكشاف الشبكة المركبة من الصلات المفاهيمية والمادية بين الصين والعالم العربي. فكما صرحت الشيخة المياسة بنت حمد بن خليفة آل ثاني رئيسة هيئة متاحف قطر: «فإن متحف: المتحف العربي للفن الحديث، هو أول مؤسسة من نوعها في منطقتنا، كما أنه مركز كبير للفنون وللتعليم في كافة أنحاء العالم. ويسعى المتحف، وهيئة المتاحف بمجملها إلى تعزيز أفكار الناس حول الفن والثقافة في تلك المنطقة. ومن خلال معرض ساي جوو تشانغ، نفتح منطقة جديدة ومبهرة للفنان وجمهوره للتفاعل والمشاركة بأسلوب جديد ومثير».

مزيج سريالي


من جهة أخرى، يصر جوو تشانغ على ضرورة العمل مع فنانين آخرين ومتطوعين وهو ما تحقق في السبعة عشر عملا التي أنجزها خصيصا من أجل المتحف. «من خلال التعاون والتبادل مع المتطوعين.. ومن خلال فتح العملية الإبداعية أمام الجماهير، كان لدي الفرصة للعمل مع الفنانين الشباب ومناقشة كيف يمكن تحويل الوسائط التقليدية والرموز الثقافية إلى مفاهيم وأشكال فنية معاصرة». فمن خلال خمسين عملا فنيا تتراوح بين الأعمال الارتجاعية المصغرة إلى التركيبات هائلة الحجم (والتفجيرات في فعاليات افتتاح المعرض «الاحتفالية السوداء) يعد «سراب» أكبر معارض الفنان جوو تشانغ منذ معرض «أرغب في أن أؤمن» بمعرض جونجهايم بنيويورك في 2008.




جوو تشانغ من كبار الفنانين العالميين دائمي الظهور في وسائل الإعلام، ويقدم معارضه في كبرى المعارض عالميا، كما أنه حاصل على العديد من الجوائز بما في ذلك منصب «مدير المؤثرات الخاصة والبصرية» في فعاليات الافتتاح وختام الدورة الأولمبية 2008 في بكين. تدرب جوو تشانغ أساسا على تصميم العروض المسرحية وأقام في اليابان تسعة أعوام، فيما كان يستكشف خصائص مسحوق البارود والثقافة الشرقية. وعلى الرغم من أنه يقدم أعمالا تعالج قضايا اجتماعية معاصرة على أساس مفاهيمي، تكشف العناوين الموحية والرقيقة لبعض أعماله عن ازدواجية أخرى. مثلا: «الزهور المتساقطة»، «قوس قزح الزائل» و«أرغب في أن أؤمن».

وكانت روح الأسلاف جلية كذلك في أعماله الحديثة بمعرض «سراب» التي تم تنفيذ العديد منها على نحو رمزي، عبر وسيط مسحوق البارود الخطر الذي أحيط بالأشعار الرقيقة كما في سلسلة أعماله «هش» التي استخدم فيها كتابات بمسحوق البارود على ألواح من الخزف الرقيق المنحوت بدقة. وكانت النتيجة هي جمال أخاذ (وفسيح أيضا). وكانت الألواح البالغ عددها 480 مصنوعة من خزف مدينة ديهوا الذي صنعه حرفيون تقليديون يعيشون على مقربة من مدينة تشوان جو، والذي كان تاريخيا يتم نقله عبر البحر إلى العالم العربي وما بعده.

يبدأ معرض «سراب» خارج المتحف بمجموعة «العودة إلى الوطن»، 62 صخرة غرانيت ضخمة تم جلبها من مدينة تشوان جو، وتركيبها على جانبي ممر الزوار إلى مدخل المتحف. وكانت تلك الصخور قد تم نقش كتابات عربية عليها قبل نقلها من تشوان جو، ومن ثم تعكس تلك النقوش المشققة الكتابات الموجودة على القبور العربية في مسقط رأس ساي جوو تشانغ التي كانت تحمل عبارات غامضة وموحية مثل: «الحاضر ما هو إلا متعة الوهم».

رحلة الصخور


وعن ذلك يعلق جوو تشانغ: «ما زالت تلك العبارات التحذيرية صالحة حتى وقتنا هذا سواء في الصين أو في العالم العربي - أو ربما في جميع أنحاء العالم - وذلك نظرا لأن المجتمع أصبح عالقا في السعي المتواصل نحو المادية». وتمثل رحلة الصخور إلى الدوحة وإرساؤها وفقا لمبادئ «الفنغ شوي» عودة روح الأسلاف العرب الذين ماتوا في الأراضي البعيدة، وهم يحصلون الآن على الراحة والقرب من خلال الترحيب بعودتهم إلى الوطن.

وتم استخدام آلتين - واحدة لتوليد موجات لطيفة والأخرى لبث ضباب موحٍ - في ذلك المعرض الذي استعان بأحدث التقنيات. وعلى النقيض من ذلك، كانت هناك ثلاثة مراكب تقليدية تتمايل إلى ما لا نهاية في بحيرة ممتدة من المياه. أحدها مركب صيد استخدم لعدد لا يحصى من القرون في مدينة تشوان جو، والآخران من مراكب الهواري التي كانت تستخدم قديما في منطقة الخليج. هل كانت مسافرة أم كانت مستقرة؟ هل كانت حقيقية أم متخيلة؟ سراب؟ لقد هيأ ذلك الغموض المبهر للمشهد «الطريق»، من خلال رسم كبير بمسحوق البارود على ورق مفروش على الأحجار التي تم جمعها من الصحراء بقطر.



وعلى طراز الطباعة الخشبية الصيني، عزز جوو تشانغ خطوط مسحوق البارود بالحبر، لخلق خارطة حديثة باستخدام طريقة رسم المخطط البحري الصيني لــ«طريق الحرير» البحري.
وبالنسبة لسلسلة المنمنمات، فقد فتح تشانغ العملية الإبداعية أمام الجمهور. وتم إعداد ثمانية ألواح من صفائح الطباعة «الستنسل» المستوحاة من رسوم المنمنمات الإسلامية ونماذج من الزخرفة المنقوشة التي تزين عباءات النساء القطريات يتم عندها إشعال مسحوق البارود. ومرة أخرى، نرى نهاية العمل الإبداعي المبهر عبر هدم أو تفكيك زخارف المنسوجات وبراعة الطلاء.

في تكوين كوني، يعدو 99 جوادا عبر الصحراء وصوب شمس حارقة، يتم تفجيرها على الورق من خلال مسحوق البارود. وقد خلقت النماذج الذهبية المصغرة للأحصنة والتي كانت تبدو وكأنها تعدو في الفضاء، ظلالا على الخلفية الرائعة بالفعل. مما لا شك فيه أن الأحصنة حازت أهمية خاصة في كلتا الثقافتين. يمثل رقم «99» في التراث الصيني، اللانهائية فيما يمثل بالنسبة للمسلمين أسماء الله الحسنى.

وفي لقطة بمربط الشقب، وهي منشأة لتدريب الأحصنة وتربيتها، يحتفي مقطع الفيديو الذي تسمى باسمه المعرض «سراب» بقيمة الجياد العربية في الهوية الثقافية، كما ساعد تقدم تقنيات الفروسية على تطوير تربية الخيول والعناية بها. يجلس زوار الشقب في المجلس، وهي مناطق استقبال الضيوف التقليدية لدى العرب على وسائد مغطاة بمنسوجات السدو القطرية.

وكان «الطيران معا» أكثر من مجرد خيال جامح، حيث كان هناك رمزان للثقافة العربية - جمل وصقور تحلق في الهواء، معلقين من السقف. صقور - أجل - ولكن هل هناك جمل يطير؟ أم كانت الصقور تحمل الجمل الوحيد إلى الأعلى لمهاجمته، أم هل كانت تساعده على الهرب؟ إنه تخييل مذهل، تماما مثل «سراب».
وأخيرا، من المقرر أن ينتهي معرض سراب بمتحف: المتحف العربي للفن الحديث بالدوحة في قطر في 26 مايو (أيار) 2012.
font change