عصر السرعة = صحافة وجبات سريعة

عصر السرعة = صحافة وجبات سريعة

[caption id="attachment_55237766" align="aligncenter" width="619"]الصحافة.. مرآة للواقع أو لا تكون الصحافة.. مرآة للواقع أو لا تكون[/caption]



بدأت نهار الخميس، ثاني أيام أغسطس (آب اللهاب، كما جرت بوصفه ألسنة ناس) بكتابة مقالة اخترت لبدايتها عبارة صفعت ديمي مور بكل حرف منها صفاقة روبرت فورد: "كلا، الفستان للبيع، لا أنا".*
بعد برهة، أردت استراحة تطلعني على أحدث التطورات، فذهبت اتصفح انترنتيا صحف الصباح. أغلب العناوين يدور حول الحرب السورية، تحديداً معركة حلب. كذلك الأمر في صفحات الرأي، فمعظم المقالات سوري الشأن. بعد اسبوع (الجمعة 10، إذ أحاول تحرير النص بسبب تأخر نشره) ها هو الحال كما هو. تساءلت، وأتساءل: أليست هناك حياة في المجتمعات العربية خارج الشأن السياسي؟ ألا توجد أخبار تهم الناس معيشيا، اجتماعيا، صحيا، تعليميا؟ أنى لجريدة الصباح أن تنافس مئات الفضائيات، صوتاً وصورة؟ لماذا يشتريها جمهورها إن كانت فقط تزيد الناس هَمّاً وغمّاً بمانشيتات تكرر ما صدّعت به قنوات أخبار عدة، الرؤوس طوال مساء وليل أمس؟

تلك تساؤلات داهمتني، كما كل صباح تقريباً، فور انتهائي من جولتي الانترنتية، إلا أنني قبل العودة لاستئناف مقالتي، زرت موقع "المجلة"، فإذا بالملاحظ الصحفي قد نشر (الخميس 2 آب) رده المتوقع على ردي. وضعت مقالتي جانباً. أشكر للزميل العزيز تقديره، وأُقدِّرله تقبله ملاحظاتي. بعد القراءة بدا واضحاً لي أن ليس من برزخٍ يفصل بيننا.
كتب الملاحظ: "أعتقد أن من مهمات الصحافة، هي أن تقترب أكثر من الواقع".

تعقيبي: ومن لا يعتقد بغير ذلك يجب ألا تكون له علاقة بالعمل الصحافي. أضيف: مهمة الصحافة أن تكون مرآة الواقع، لا تبتعد عنه أصلاً، حتى "تقترب أكثر" منه.
وفي الرد: "ولا تهتم كثيرا بما يقوله فقهاء النحو، الذين لا يعجبهم العجب".
أرد متفقاً: فقهاء النحو لهم صحفهم. أرفف المكتبات تعج بشهريات وفصليات، وبعض الأسبوعيات، المليئة بأدب نثري، ودراسات فقهية. وليس في الصحف العربية أي حضور لفقهاء النحو، الذين "لا يعجبهم العجب"، وليس مطلوباً حضورهم. هناك تصحيح مطبعي وتدقيق لغوي، يكّد الأساتذة العاملون ضمن أقسامه ويجتهدون ألا تقع أخطاء، لكن حتى صفحات الثقافة، الأدب، والدين، ليست تخلو من هفوات أحياناً، ولا ينتقص هذا من أهميتها.

الملاحظ: "هذا ما يلاحظه من يقرأ الصحافة الغربية الخالية من هذا التكلف، والقربية من لغة الحياة اليومية".
ملاحظة لي: المقارنة بالصحافة الغربية إشكالية أقع في فخها أنا أيضا أحيانا، الواقع ليست ضرورية دائما.

خلاصة ملاحظتي هنا هي أن جرائد مزهرة ببريق الإتقان اللغوي، ومقفرة من صحافيين خلاقين، هي نتاج صحافة تغط في نوم عميق.
في ما يخصني (كما ورد في رد ملاحظ "المجلة" العزيز) نعم، أدمنت الاعتناء بعمارة الخبر والمقالة، من العنوان الى الخاتمة. لست وحدي بين أترابي في هذا الإدمان. إنما لم يحدث أن اعتبرت إلمام الصحافي بالنحو والصرف شرطا للنجاح، ناهيك عن التألق صحافياً. كلا، بل لطالما ازددت تعلقاً بقراءة كتّاب كبار، وإعجاباً باللمعة الصحافية تشع بين أسطر مقالاتهم، عندما تشرّفت بحكم الممارسة المِهنية بمراجعة كتابات بعضهم قبل النشر.

علامة التعجب، الاستفهام، واو العطف، النقطة، والفاصلة، شكلية جداً، إن أردت (الخطاب بالمطلق وليس للزميل الملاحظ شخصيا) بإمكانك إلقاء كل منها في أقرب سلة مهملات، إذا كانت ستعرقل إبداعك الصحافي، يكفيك الأساتذة في قسم التدقيق مؤونتها إن رأوا ضرورتها، لكن ذلك لا يلغي أهمية إلمام الصحافي، المحرر، والكاتب، بالحد الأدنى من كيفية التعامل معها. ذلك ان الجهل بها يجعلها أحيانا تفعل فعل "النيران الصديقة"، فتؤذي رصاصة طائشة (فاصلة، نقطة، علامة تعجب، استفهام، في غير محلها) مضمون من مقالة وقلم صاحبها.

ثمة أمثلة كثيرة، ليست هذه العجالة موضعها. أما إذا تضمنت عناوين الصحف وأغلفة المجلات (واو) عطفٍ تصل شطراً من المانشيت بشطر آخر ليس ذا علاقة، فهي عناوين، في تقديري، تعكس ضعفاً إبداعياً (لم أقل ضعفا لغويا) تماما مثل عناوين ألحظها لمقالات يستسهل كتابها استعمال الواو (مثلا: بوتين.. وبشار) فأتساءل (ما بهما؟) أو اللجوء إلى صيغة السؤال (مثلا: مأساة سوريا.. إلى متى؟).. أو (كيف الخروج من المأزق؟) يزهر الربيع العربي؟).. تلك العناوين الأمثلة ليست مستعارة من أي نص.

أطلت. ربما لأنني عاجز عن مواكبة ما جرى من تغير حولي. إنْ كانت صحافة زمن الانترنت، بما فيها الورقية، غير معنية بربط المانشيت بمقدمة الخبر، ولا بوجود صلة بين عنوان المقالة ومدخلها، ثم التذكير به عند خاتمتها، إن لم يعد ضروريا تضمين مقدمته الأساسية..... قبل تدويخ القارئ وإغراقه في التفاصيل، بإجابة موجزة عن: "مَن، أين، متى، كيف، ماذا ولماذا"، لئن أصبح هذا كله مستغنى عنه (ولست أعني أن الملاحظ الصحفي من المنتمين لهذه المدرسة) بدعوى خلاصتها أن هذه طبيعة العصر، فليس لي سوى التمنيات الطيبة لصحافة الوجبات السريعة وصحافييها، وكل ما شابهها من أنماط الحياة العصرية.

* العبارة هي من مدخل فيلم 1993 الدرامي الجميل (عرض بذيء) INDECENT PROPOSAL

** كنت بصدد كتابة مقالة أضمنها بعض ما بمفكرتي ليوم الثاني من أغسطس/ آب 1990. أردت العودة الى نهار ذلك الغزو المشؤوم. المقدمات الصحافية لما قبله، أهوال ما تخلله، وحصاد ما لحقه، وتشابه ما يجري اليوم من استقطابات إعلامية، بعد 22 عاما، بما جرى في ذاك الأمس غير البعيد. سامح الله الزميل العزيز الملاحظ الصحفي، وزاده عِلما وقدرة على دقة الملاحظة وطرافتها أيضا، فقد استحوذ على اهتمامي والنتيجة كانت تأجيل مقالتي.
font change