سوريا ومستقبل المنطقة.. قراءة لا تخلو من التشاؤم

سوريا ومستقبل المنطقة.. قراءة لا تخلو من التشاؤم

[caption id="attachment_55238512" align="aligncenter" width="620"]أمام استمرار القتل ووسط الدمار وعجز العالم على نصرة الشعب السوري تبقي ابتسامة هذا الطفل البريئة على الأمل في أن ينعم السوريون في المستقبل بالحرية بعد التخلص من نظام بشار الأسد أمام استمرار القتل ووسط الدمار وعجز العالم على نصرة الشعب السوري تبقي ابتسامة هذا الطفل البريئة على الأمل في أن ينعم السوريون في المستقبل بالحرية بعد التخلص من نظام بشار الأسد [/caption]



يفرض الحدث السوري نفسه على المشهد السياسي في الشرق الأوسط، فهو مشهدٌ تتشابك فيه مصالح المجتمع الدولي ومصالح دول المنطقة وصراعاتها، وتنعجن في جوفه كل أدواء التاريخ والجغرافيا.
وكما تغري متابعة مجرياتها اليومية بالانسياق لها إنسانياً وهو أمرٌ مستحقٌ فيجب ألا تطغى بحالٍ على محاولات القراءة الجادة لما يمكن أن يتجلّى عنه مستقبل سوريا والمنطقة ما بعد نظام بشّار الأسد.

بنظرةٍ بحثيةٍ محضةٍ يمكن اعتبار سوريا نموذجاً مصغراً لكل تقاطعات المصالح وطموحات النفوذ التي لا تشترك فيها روسيا والصين إلا بقدر ما تعتني بها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، ولكل صراعات المنطقة التي تتوسل كل أدواء التاريخ وتعقيدات الجغرافيا.
أدواء التاريخ تتمثل في أنّ السياق الحضاري والثقافي للمنطقة مشحونٌ بعناصر لا تمتّ للتقدّم بصلةٍ ولا للحضارة الحديثة بسببٍ وهي تتمثل في الطائفية بمعناها السنيّ - الشيعي وفي الأقليات بمعناها الديني والإثني وفي القبلية بمعناها الأنثروبولجي الاجتماعي، وقد دخل عليها ليزيدها تعقيداً صعود الآيديولوجيات الدينية السياسية وصعود الجماهير، والقراءة هنا لقياس التأثير السياسي لكل هذه العناصر، ومدى أهمية الوعي بها لاستحضار صورةٍ أكثر دقةً للواقع وبالتالي المستقبل.

ستتغوّل هذه الأدواء التاريخية ما بعد نظام بشّار الأسد وستتفشى وستكون مهمة الخلاص منها مهمةً شاقةً، وينبغي التفكير منذ الآن في تبعات تفشي تلك الأدواء والأساليب الأنجع لمحاصرتها والتخفيف من غلوائها والحدّ من أضرارها.
أمّا الطائفية فقد استخدمتها إيران كسلاحٍ سياسيٍ في العراق ولبنان واليمن كما خلقت التشيّع السياسي ردءاً لها وعضيداً في مصر وغزة وغيرها، وقد واجهتها السعودية عقوداً في صراعٍ طويل الأمد واسع الانتشار، وهاهو بشّار الأسد يسعى جهده لجعلها العنوان الأبرز للصراع الدائر في سوريا، ثمّ إن المعرفة الغربية بهذه المشكلة على المستوى البحثي الصرف لا يعني انتقالها لصانع القرار ولا يعني تشكيل وعيٍ حقيقيٍ بأبعادها وتأثيراتها.

ظلّ العرب ردحاً طويلاً يحاولون تجاهل الطائفية والتغاضي عنها تحت شعارات القومية وعناوينها وحين جهد المستشرقون في قراءتها بالتفصيل البحثي اللازم كان بعض المفكرين والساسة العرب ينعون عليهم ذلك، ولكنّها اليوم تطلّ برأسها بقوةٍ وسيكون لها أثرٌ سيءٌ في المستقبل، ولا حلّ لها إلا بطرحها للنقاش والبحث بكل صراحةٍ ووضوحٍ تفتيشاً عن مخرجٍ من داءٍ لم يخترع العرب له دواءً بعد.

أما فيما يتعلّق بالأقليات الدينية والإثنية، الدينية كالمسيحيين والدروز والنصيرية أو العلوية، والإثنية مثل الأكراد والشركس والشيشان، فستعاني هذه الأقليات من هضمٍ للحقوق وخسائر في المكتسبات وبخاصة الدينية منها في مرحلةٍ حرجةٍ كل الأمل في ألا تطول مدّتها قبل القدرة على محاصرتها، أما الإثنيات كالشركس والشيشان فقد باتوا منذ زمنٍ ليس بالقريب منخرطين في المجتمع بشكلٍ كاملٍ ولا أحسب أنهم سيتعرضون لأذى، وستبقى الأقلية الكردية تحت ضغوطٍ هائلةٍ يدفعها طموح الاستقلال كإخوانهم في العراق وترفضها سوريا الجديدة وتعاديها تركيا القوية في الشمال، وسيكون على عقلاء الأكراد التعامل مع الأوضاع الجديدة بكل عقلانية وهدوء حتى لا تتطور الأمور للإضرار بهم.

أما القبلية فهي موجودةٌ في سوريا وإن بشكلٍ أقلّ من تأثيرها في ليبيا أو اليمن على سبيل المثال، وهي معطى اجتماعي ضمن معطياتٍ أخرى تشكل بفسيفسائها سوريا الحديثة، وقد اهتمّ بها كثيرٌ من الباحثين وأفاضوا القول حول علاقتها بالتخلف الحضاري بشكلٍ عامٍ حين لا تسير مع الصالح الوطني العام، ومع ذلك فيمكن لمن سيرث تركة الأسد الثقيلة أن يحسن توظيفها في ما يخدم استقرار سوريا.

لن تكون سوريا استثناءً من موجة صعود الآيديولوجيات الأصولية في دول الاحتجاجات العربية بل سيكون لها منها نصيب ٌكبيرٌ ومؤثرٌ مع استحضار أنّ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا مثلاً تختلف عن الجماعة الأم بمصر في طبيعة خطابها الذي أثر فيه عيش قياداتها في المنافي الأوروبية واقترابهم من التجربة السياسية لإسلاميي تركيا، كما تختلف عنها في طبيعة العلاقة مع نظام الجمهورية الإسلامية بإيران حيث لم يزل إخوان سوريا يكنّون العداء لنظام آيات الله بطهران منذ انحاز لحافظ الأسد ضدّهم وقد كانوا يأملون أن يكون معهم وتلك قصة طويلةٌ وسيكون لها تأثيرٌ مهمٌ في مستقبل سوريا.

ستعاني سوريا ما بعد الأسد كثيراً في لملمة حطام الحرب ومخلفاتها المادية من سلاحٍ وكتائب مدربةٍ مقاتلةٍ تقود كثيراً منها إحن الانتقام الدموي وبغضاء الطائفية القاتلة ولن تكون مهمة تفكيك هذه الكتائب أو دمجها في جيشٍ سوريٍ موحدٍ مهمةً سهلةً ولكنّها ستكون سبيل الخلاص الوحيد من تطوّر الأمور سلبياً لحربٍ أهليةٍ لم يزل نظام بشار الأسد ينفخ في كيرها منذ بدء الأزمة عن وعيٍ وتخطيطٍ.
كانت عائلةٌ روتشيلد اليهودية الألمانية الثرية من أقوى الداعمين اقتصادياً لقيام دولة إسرائيل، وكان ياسر عرفات يصرّح بأنّ عائلة شومان هي عائلة روتشيلد الفلسطينية، وسيكون على سوريا ما بعد الأسد ألا تكتفي بمعونات أصدقاء سوريا من العرب والغرب بل يجب أن تحظى بنصيبٍ من ثروات تجّارها ومساهماتهم في إعادة البناء فسوريا بلد يكتنز تاريخاً تجارياً ضخماً ودمشق وحلب كانتا على الدوام مدينتان للتجار الذين توارثوا المهنة كابراً عن كابرٍ، وتجّار سوريا منتشرون في أكثر دول العالم اليوم، وهم قادرون عندما تتوفّر الظروف على المساهمة الناجعة في تخليص سوريا من عذاباتها المستمرة عبر الإنفاق السخي والدعم المؤثر.

التفاؤل خير من التشاؤم ولكنّ وضوح الرؤية ومواجهة التحدّيات عبر الإقرار بالمشكلات والسعي للقضاء عليها أو الحدّ منها أمرٌ عمليٌ يتجاوز معادلة التفاؤل والتشاؤم إلى التنفيذ والتأثير.
ويبقى الأمل أن تتخلص سوريا من نظام الأسد الدموي بأسرعٍ وقتٍ فكلما زادت مدّة بقائه كلّما كان غرسه لبذور الشقاق والفتنة أعمق.

font change