أجواء كريسماس.. حمْل دوقة وأزمة عمّة

أجواء كريسماس.. حمْل دوقة وأزمة عمّة

[caption id="attachment_55240564" align="aligncenter" width="620"]لندن تتزين لأعياد الميلاد ورأس السنة لندن تتزين لأعياد الميلاد ورأس السنة[/caption]





أسمع من مذيع "إل بي سي"، ما يعزز ذلك الأمل، إذ يخبرني صباح الثالث من ديسمبر أن معدل تسوق هدايا الكريسماس عبر الانترنت فقط بلغ عشرة آلاف جنيه استرليني كل ثانية. نعم، أكرر: كل ثانية. المذيع كررها أيضا، مثنى وثلاث، لأنه بالتأكيد تصور أنني وغيري من المستمعين سنُصعق إذ نسمع الرقم، ثم انه بمساعدة من آخرين، بلا شك، الأرجح زملاء وزميلات بقسم الحسابات في محطته، راح يردد أرقاما فلكية لم يكن بوسعي تسجيلها على الورق، ناهيك من حفظها، تفيد بحاصل ضرب عشرة آلاف في الثانية الواحدة ببقية ساعات النهار.

يلفتني، كما لفت غيري بالتأكيد، في بريطانيا وأهلها الأصليين، ثم من استضافوهم وتطبعوا ببعض طبائعهم، التعاطي بنوع من المرح مع بعض القضايا الجادة، ليس استخفافاً، وإنما تخفيفاً من الغلواء، والفرق بين الاستخفاف، كما تعلمون، والتخفيف، كبير.

في هذا السياق، انتبهت صباح الثلاثاء الماضي (النهار التالي لإذاعة وبث خبر توقع الأمير وليام، دوق كامبردج وزوجته كيت لبكرهما) كيف نبشَ جيمس أوبرَيان، أحد نجوم "إل بي سي"، عش دبابير، سواء أراد أو لم يقصد، فخرج جميعُهم من كل فج، قاصدين جبهة الحرب الإذاعية، يريدون الرد على ما اعتبروا انه قول فج، جرح حُبّهم ملكتهم إليزابيث الثانية، وخدش أسرتها كافة، ضمن عرض انتقادي، ولو بمرح، للتعامل الإعلامي مع حمْل الدوقة كيت.

المفترض ان اوبريان معتاد على ما يصحب كل ما يخص آل وندسور، إن بفرحٍ أو قرحٍ، من صخب إعلامي. مع ذلك، أتصور أن تحدي الاعتياد والنمطية دفع أوبريان لانتقاد المبالغة، وعندما تصدى له مستمعون راحوا يذكرونه بأهمية الأسرة المالكة لبريطانيا، لم يتردد في تذكيرهم بأنها تعيش على نفقة دافع الضرائب، كما أي شخص يعاني البطالة ويتعيّش على نفقة صندوق الضمان الاجتماعي (تلك كانت سخرية مُرّة) لكنها ليست جديدة على أوبريان، فهو لم يوفر احتفالات اليوبيل الماسي من انتقاداته اللاذعة.

كل هذا لا يعني ان أوبريان يعادي الملكية، أو أنه من أنصار طوني بِنْ، عجوز المعسكر الجمهوري وأيقونته، وأسلوبه الإذاعي المشاكس ليس خاصا به وحده، فأغلب برامج التفاعل المباشر مع الجمهور، يديرها نجوم إذاعيون متمكنون من فن إدارة الحوار مع المستمعين، إن بالحرص على التوازن، ثم مراعاة حدود أدب الحديث والذوق العام، بما يوجب أحيانا وقف مستمع ما عند حد معيّن، أو بمتابعة معلوماتية وخبرية تتيح للنجم الإذاعي مناقشة جمهوره من موقع المتابع العارف.
هذا هو السائد هنا، ولست أدري - بحكم طول سنوات الغربة - عن مدى تطور هذا الفرع من مجالات الفن الإذاعي في العالم العربي، وهو بلا شك فرع مهم يتيح للناس فرصة التعبير المباشر وبالتالي التنفيس عما يعتمل في النفوس من مشاعر، أفضل كثيراً أن تخرج الى العلن من أن تظل حبيسة الصدور، بما يؤجج أحاسيس الغضب.

من جهتي، اتفق مع انتقاد أوبريان للمبالغة، فقد تكرر بث وإذاعة خبر حمل دوقة كامبردج طوال أكثر من أربع وعشرين ساعة، عشرات المرات، بل إن قناة "بي بي سي" الإخبارية وضعت جانباً جل التطورات العالمية، بما فيها البريطانية، وراحت تنافس هي أيضا في إعطاء المساحة لقصة حملٍ تخص، في نهاية الأمر، إمرأة كغيرها من الأمهات. يبقى التوازن مطلوبا، فهو يعكس رجاحة عقل في تسيير أي شأن، العام منه والخاص.



***



أزمة العمة






وعلى ذكر "بي بي سي"، كما يعرف كثيرون، ينفق البريطانيون على هيئة الإذاعة البريطانية بما يسددون من ضريبة مخصصة لامتلاك جهاز تلفزيون. لذا، من باب التحبب، وربما محاولة لتقبل تأدية واجب مالي سنوي مزعج (145 جنيها ونصف جنيه، حتى هذا العام، ومؤكد ارتفاعها العام المقبل) يطلقون هنا على الهيئة، لعل هذا ليس معروفا لكثيرين خارج بريطانيا، لقب "العمة". الأرجح ان "بي بي سي" لن تنعم، كما السنوات التي خلت، بكريسماس مبهج نتيجة ما عانت من أزمة ثقة عاصفة.

بدأت "الحدوتة" جهة منافسة هي "آي تي في" عندما بثت مساء الأربعاء ثالث اكتوبر 2012 تحقيقا أنجزه مارك ويليامز توماس، وهو ضابط متقاعد متخصص في قضايا التحرش الجنسي بالقصّر، سلط الضوء على استغلال مقدم برامج ذائع الشهرة، جيمي سافِل، لنجوميته وسطوة نفوذه في إرضاء شهواته المَرَضية بممارسة الجنس مع فتيات قاصرات. كان يمكن لملف "الحدوتة" أن يطوى ببضع انتقادات تدين السلوك الشاذ لنجم متميز بما خصص من وقت وجهد لجمع تبرعات لصالح جمعيات خيرية متخصصة بمساعدة المحتاجين من الأطفال، حتى انه وحده تمكن من وضع حوالى أربعين مليون استرليني في حسابات تلك المؤسسات. لكن الأمر فلت وكبر إذ راحت أصوات عدة تطالب بكشف أسباب الصمت عن ممارسات سافِل كل تلك السنوات.
جون سمبسون، كبير مراسلي "بي بي سي" للشؤون الخارجية، اعتبرها "أسوأ أزمة ثقة تمر بها خلال الخمسين سنة الأخيرة"، وهناك من رأى أنها الأزمة الأعمق للهيئة طوال سنواتها التسعين، أي منذ بدأت البث في الثالث عشر من نوفمبر 1922.

هل تعود ثقة البريطانيين بالعمة لمجرد استقالة مديرها العام، جورج إنتويسِل، أم أن الأمر أبعد، ومرشح لأن يتطور. ثم، ترى كيف كانت أي من هيئات الإذاعة والتلفزيون في العالم العربي، ستتصرف في حال أن أزمة مشابهة مرّت بها، وهل بوسع نجم إذاعي في العالم العربي أن "يشوي" المدير العام لهيئة توظفه بأسئلته النارية، على مسمع من مئات آلاف المستمعين، كما فعل جون همفري عبر برنامجه "توداي" بمحطة راديو 4 مع جورج انتويسل قبل استقالته؟



***



أحجبة عقول






قرأت، قبل أيام، مقالتين للكاتبة بدور زكي محمد نشرتهما "إيلاف" عالجت فيهما موضوع علاقة الحجاب بالفضيلة، وما إذا كانت تغطية الرأس تعكس العفة وتؤكدها، ومن ثم فالعكس أيضا صحيح. المقالتان تبِعَ كلاً منهما كمٌ متنوع من التعقيبات، شارك في مساجلاتها عدد لافت من القراء، وكان لافتاً للنظر غياب القارئات عن التعقيب بشأن قضية تخصهن.

القضية بالتأكيد مهمة، على الرغم من قِدمها قِدم زمن كل ما يخص المرأة من معارك، ليس في العالمين العربي والإسلامي فقط، بل حيثما هناك كونٌ مسكونُ برجل وإمرأة. لم يفت على كاتبة المقالتين تثبيت حقيقة ان القضية قديمة متجددة، إنما لفتها ان العقدين الأخيرين شهدا تصاعدا في ظاهرة الربط بين حجاب الرأس، ومجمل لبس المرأة، وبين أخلاقها ودرجة تمسكها بالفضيلة. وهذه بلا شك ملحوظة صحيحة، تعيد الى خطورة الاستسلام لخداع المظهر على حساب الجوهر.

يذكرني هذا الحديث بظاهرة عاناها جيلي، وأجيال سبقته، ولست أدري عن الجيل الحالي، إنما كثير مما يُرى من ممارسات ويُلاحظ من أفعال وأقوال، ليس يبشر باختلاف يُذكر. الظاهرة يمكن تلخيصها بحال قيادات عدة، على مختلف المستويات، وباختلاف المجالات، مارست خداع الناس عبر سنوات عدة، وبعضها ما يزال، بمظاهر تفننت في تنوع لباس أشكالها واختراع مسمياتها.
ملايين البشر صدقوا ما أراد لهم مخادعون كُثر تصديقه، فحجّبوا، مدركين أو جاهلين، عقولهم وحالوا دونها ودون رؤية إلا ما أراد الزعيم وحزبه، أو الحركة وقيادتها، رؤيته؟

أعرف، بحكم التجربة الصحافية، أسماء عدة تسطع في سماء الفكر أو السياسة، أو كليهما، وتتربع في عقول وقلوب الكثيرين إعجاباً أو انبهاراً، أو كليهما، ولو سمع الغافلون، المحجبة عقولهم، شيئاً مما يقول المخدوعون بهم خلال الخاص من المجالس، عن عامة الناس، لربما زال بعض الغشاوة. في نهاية المطاف، الحق أن حجب المعرفة عن العقل يبقى أخطر مما يغطي أي رأس، ذكراً صاحبه أو أنثى، لا فرق.
font change