الثورة السورية.. الإعلام "سلاح" الاعتدال والممانعة!

الثورة السورية.. الإعلام "سلاح" الاعتدال والممانعة!

[caption id="attachment_55240923" align="aligncenter" width="620"]العربية والجزيرة في قلب الحدث السوري العربية والجزيرة في قلب الحدث السوري[/caption]




بعد عام من اندلاع الانتفاضة السورية، قامت قناة «العربية» الفضائية بشيء استثنائي، فقد بثت تفاصيل دقيقة حول الرسائل الإلكترونية الخاصة بالرئيس السوري بشار الأسد، والتي سربها قراصنة من المعارضة. وقد احتوت الرسائل على معلومات حساسة حول الخطط الأمنية للنظام، ووضع الاقتصاد السوري، بالإضافة إلى تعليقات محرجة حول عمليات الشراء الباذخة التي تقوم بها أسماء الأسد إلكترونيا. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام العربية كانت دائما ما تتجنب القصص التي تحمل هجوما شخصيا على الرؤساء العرب، فإن قناة «العربية» قد تخطت المحظور بما يشبه الاقتراب من إعلان حرب.

كان النزاع السوري قد فاقم المعركة الإعلامية بين المعسكرين المتعارضين في المنطقة: ما يطلق عليه الدول العربية «المعتدلة»، و«محور الممانعة». فمن جانب، كانت القنوات الفضائية السورية المعارضة، والشبكات الإخبارية التي تمولها دول عربية تؤيد الانتفاضة، وعلى الجانب الآخر كانت هناك القنوات التابعة للنظام السوري، بالإضافة إلى تلك القنوات التي يمتلكها أو يمولها الحليف الرئيس للنظام السوري، إيران.




سجل الشهداء: إعلام المعارضة





لقد كان العنصر الرئيس لاستراتيجية المعارضة السورية للنصر في مواجهة الأسد، هو السيطرة على الخطاب الإعلامي. وكانت حساباتهم تعتمد على الدروس التي أفادوها من تونس ومصر وليبيا والتي كانت تشير إلى أنه إذا ما تم ضبط الخطاب الإعلامي على النحو الصحيح، يمكن أن يتدخل الغرب لدعم «الانتفاضة الشعبية» لخلع الدكتاتور السوري بالقوة إذا ما كان ذلك ضروريا. وكنتيجة لذلك، فإن ما بدأ كمظاهرات محدودة نظرا للمظالم المحلية في مدينة درعا الجنوبية، سرعان ما تطور إلى حركة تظاهر واسعة النطاق ضد الأسد.
بالنسبة لوسائل الإعلام التابعة للمعارضة، كان الهدف الرئيسي هو الفوز بالتأييد الغربي والعربي عبر تقديم تغطية واسعة لحركة الاحتجاج على شاشات التلفزيون ـ ومحاولات النظام الوحشية لسحقها.

وكان لذلك أهمية خاصة، أخذا في الاعتبار أن الصحافيين الأجانب الموجودين في سوريا لم يكن مسموحا لهم بزيارة المناطق التي تقع فيها المظاهرات. وقد تم اعتقال وترحيل من حاول، مثل دوروثي بارفاز، الصحافية بقناة «الجزيرة» الإنجليزية. فلم يكن مسموحا سوى للصحافيين التابعين للنظام بأن يخبروا العالم ماذا يحدث، وكان هؤلاء الصحافيون يقولون إنه لا توجد مظاهرات. وكانت المعارضة ترد بنشر عاصفة من مقاطع الفيديو التي يصورها الهواة على شبكات الإنترنت والتي تثبت العكس.




ونظرا لأنه كان من قبل رئيسا للجمعية العلمية السورية للمعلوماتية، كان بشار الأسد مدركا تماما لإمكانات الإنترنت المؤثرة. فأثناء رئاسته للبلاد، كانت مواقع «فيس بوك» و«يوتيوب» و«تويتر» محظورة، بالإضافة إلى عشرات من المواقع الإلكترونية الخاصة بالمعارضة أو بالمستقلين. وكان النشطاء يواجهون ذلك من خلال الاستعانة بخوادم الوكيل (proxy server) وبرامج التجهيل لكي يعرقلوا المراقبة الإلكترونية. ولكن في بلد لا يستطيع فيه سوى 17 في المائة من السكان الاتصال بشبكة الإنترنت، تظل الشبكات الفضائية هي أكثر وسائط التواصل انتشارا. فعادة ما ينبهر زائرو سوريا بعدد الأطباق الفضائية على أسطح المنازل، والتي يستطيع السوريون من خلالها مشاهدة الأخبار والتعليقات غير المراقبة. ومن ثم، فإذا أرادت المعارضة توصيل رسالتها على النحو الأمثل، عليها تقديم الصور لكي تتمكن من جذب اهتمام القنوات التلفزيونية الفضائية.

وبدلا من أن ينتظروا زيارة الصحافيين لهم ـ وهو ما كان شبه مستحيل نظرا للحظر الذي فرضه النظام على دخول الصحافيين للبلاد ـ لجأ المتظاهرون إلى وسائل الإعلام الاجتماعية لكي يصلوا إلى الصحافيين. فربما يكون «تويتر» و«فيس بوك» قد لعبا دورا حيويا في الثورة المصرية، ولكن «يوتيوب» هو من يلعب دورا مؤثرا في الانتفاضة السورية، حيث إن طبيعة ذلك الموقع البصرية تجعله مثاليا في نقل القصص للقنوات الفضائية مثل «العربية» و«بي بي سي» العربية اللتين كانتا تتوقان للحصول على مقاطع مصورة للمظاهرات تضيفها إلى روايات شهود العيان.

ومع ذلك، فإن الرقابة التحريرية تعني وضع محاذير على استخدام المحتوى الذي ينتجه غير المتخصصين، ولذلك كانت القنوات الإخبارية تحاول إضفاء مصداقية على مقاطع الفيديو عبر التأكيد على أنها لا تستطيع أن تتحقق تماما من مصداقيته. وهو ما دفع النشطاء إلى إنشاء وكالات إخبارية تتكون أساسا من مجموعات من الهواة، والشبان السوريين الماهرين في استخدام وسائل الإعلام، وقد أنشأوا قنوات «يوتيوب» مثل شبكة «شام» الإخبارية، وشبكة «فلاش» الإخبارية، و«أوغاريت»، وغيرها. وتعد المهام الرئيسة لهذه الشبكات تلقي الأفلام الخام، والتحقق من مصداقيتها، وتحريرها، ووضعها في سياق وتحويلها إلى فيلم صالح للاستخدام تشعر القنوات الإخبارية بقدر أعلى من الثقة وهي تبثه.
وقد أثبتت الطريقة التي استغلت بها وسائل الإعلام صور القتلى أو المدنيين الذين يحتضرون وسيطرت عليها، أنها أكثر وسائل الاستقطاب فعالية. فقد كانت مذبحة «أزرع» التي وقعت على مقربة من درعا في 22 أبريل (نيسان) عام 2011 لحظة فارقة في الانتفاضة السورية. ففي ذلك المساء، بثت كافة المحطات الإخبارية الرئيسة صورا تظهر أبا منهارا وهو يحمل جثة ابنه الذي أصيب بطلق ناري في الرأس. وكان ذلك هو نوع الصور المخصص لإثارة استجابة انفعالية مباشرة من المشاهد، وقد نجح بالتأكيد في إقناع العديد من الشبان السوريين بالخروج للتظاهر التضامني.

بعد ذلك بعدة أسابيع، تمت إعادة جثة حمزة الخطيب، 13 عاما، الذي كان قد تم اعتقاله، إلى أسرته وهي منتفخة وممتلئة بالكدمات. وقد قالت أسرته إن المخابرات أمرتهم بالتزام الصمت، ولكنهم بدلا من ذلك قاموا بتصوير عملية تشريح الجثة ورفعها على «يوتيوب». وكان هناك أطفال آخرون قد تعرضوا للتعذيب، مثل ثامر الشرعي، ومواطنين صحافيين أصيبوا بطلق ناري، مثل رامي السيد، بالإضافة إلى زعماء المظاهرات الذين تم نحرهم مثل إبراهيم قاشوش. وحتى الصحافيين الأجانب الذين قتلوا تم اعتبارهم «شهداء الإعلام الحر»، ومن أشهرهم كانت ماري كولفن، مراسلة «صنداي تايمز». وأصبح المزيد من الشهداء يعني المزيد من مقاطع الفيديو للشهداء، والمزيد من الأسباب لتحدي حكم الأسد. فقد أصبح المتظاهرون الذين يخرجون بالملايين يهتفون بالشعار الذي أصبح شعارا عاما للربيع العربي: «الشعب يريد إسقاط النظام».




وكانت الوكالات الإخبارية التابعة للنشطاء تفحص الصور التي يلتقطها المصورون الهواة، عادة بكاميرات الهواتف الجوالة، بعناية بالغة لكي توائمها مع خطاب محدد، وهو أن البلاد تشهد ثورة سلمية، وغير طائفية ينضوي تحت لوائها كافة السوريين، وتهدف إلى إنهاء الديكتاتورية الدموية وبداية عصر «الحرية والكرامة». لم يتم أبدا التساؤل حول ما تعنيه كل من الحرية والكرامة من منطلق سياسي عملي، وما التأثير الذي يمكن أن يحدث للبنى الاجتماعية ـ الاقتصادية القائمة بالفعل. وكان خطاب المعارضة ناجحا بقدر ما تمكن من الحصول على التضامن العربي والدولي، ولكن في ظل انتقال الصراع إلى مرحلة الحرب الأهلية، يصبح المدى الذي يمكن أن يظل إليه ذلك الخطاب صحيحا مسألة مطروحة للتساؤل.

رفع السلاح لمواجهة آلة القمع الأسدية لم يشكل المعضلة الإعلامية الوحيدة بالنسبة للمعارضة، فكما أن صور المقاتلين المناهضين للنظام التي انتشرت في وسائل الإعلام أضعفت الخطاب الذي يتحدث عن سلمية الحراك الشعبي، فإن لجوء بعض الفعاليات الإعلامية المعارضة للتحريض الطائفي أضر بالطابع المدني للثورة والتي لطالما تغنت به المعارضة. قناة "أموي" على موقع "يوتيوب" مثلا أصبحت القناة الأكثر رواجا في نقل مقاطع مصورة لعمليات الجيش السوري الحر، وشعارها هو "لطرد الاحتلال النصيري." لم يكن ذلك مقبولاً في بداية الأمر، إلا أن طبيعة المعركة على الأرض أفرزت انقساما طائفيا واضحا استغله مروجو كلا الطرفين، الأمر الذي من شأنه أن يكرس هذه الحالة في الفضاء الإعلامي لفترة من الزمن.

فقدان المعارضة سيطرتها على الخطاب الإعلامي جراء صعود الفصائل المسلحة وانحسار دور النشطاء السلميين أضعف الجهود السياسية التي قد بذلتها في كسب تعاطف الغرب، حيث انتقل الحديث من جرائم الأسد بحق شعبه إلى مسألة وجود تنظيم القاعدة ضمن صفوف الثوار. ما أسهم في بناء هذا الانطباع هو المئات من المقاطع المصورة المحملة على الانترنت والتي تبدو مستوحاه من التجربة الإعلامية لفصائل المقاومة العراقية. المكتب الإعلامي في "كتائب أحرار الشام" يتبع نمطا بات مألوفا في الإخراج: يفتتح التسجيل بالبسملة ثم بإظهار شعار الكتيبة مصحوبا بصوت أزير أسود أو بصوت انفجارات وإطلاق رصاص كثيف، يتبعها صور للعملية مع شرح المصور لما يدور على أرض المعركة، وعادة ما تحتوي تلك التسجيلات على أناشيد تحض على الجهاد وتختتم بعبارة "لا تنسونا من صالح الدعاء." هذه التسجيلات نجحت في جلب الشهرة والمال للجيش الحر، وفي حين أنها لن تؤثر على عزيمة الدول العربية في الاستمرار بدعم الجهود الرامية لإسقاط الأسد، ولكنها من دون أدنى شك قد افقدت الثورة بريقها عند الغرب، فالثورة بالنسبة لساستها باتت مجرد حرب أهلية بين فصيلين مسلحين. قد تنتصر قوى المعارضة في النهاية، ولكن حينها ستفرض ضرورات إعادة إعمار الدولة والمجتمع، بوصلة إعلامية جديدة تقوم على تمجيد الحياة وليس الموت.




الممانعة في مقابل الاعتدال





ما زالت ساحة الحرب الرئيسة في المعركة الإعلامية، بالطبع، هي القنوات الفضائية. في بداية الانتفاضة، كان لدى المعارضة السورية قناتان فضائيتان مواليتان: «بردى»، و«أورينت». وفي الوقت نفسه، كان لدى النظام قنواته التي تديرها الدولة، كما كان يستطيع الاعتماد على قناة «الدنيا» الخاصة، والاستعانة أيضا بعدد من القنوات التي تمولها إيران. وقد ارتفع عدد القنوات الفضائية التابعة للمعارضة إلى تسع واشتملت على قنوات لها ميول دينية مثل قناة «شدا الحرية»، بالإضافة إلى القنوات المحلية التي تركز على النشاطات الثورية في منطقة محددة من سوريا مثل «حلب اليوم» و«قناة دير الزور». ولكن بالنسبة للمعارضة، كانت أهم وسائل الاستقطاب من بين كافة تلك الوسائل قناتي «العربية» و«الجزيرة»، اللتين تحظيان بأعلى نسب مشاهدة في العالم العربي.

ويعد قرار بعض الدول العربية دعم سقوط نظام الأسد أهم تطور في الحرب الإعلامية بين النظام والمعارضة. بالنسبة لقناة «العربية»، جاءت نقطة التحول في أغسطس (آب) عام 2011 عندما بثت القناة رسالة للعاهل السعودي يدين فيها «آلة القتل» لنظام الأسد، ويدعو فيها القيادة السورية أن «تستخدم الحكمة قبل فوات الأوان». وهو ما انعكس مباشرة على تغطية قناة «العربية» للانتفاضة السورية. ومما لا شك فيه أن احتفاء القناة بعد ذلك بالانتفاضة السورية قد رفع معنويات المعارضة، حيث أصبحت الشرعية السياسية التي تم إضفاؤها عليها من خلال ذلك الاحتفاء التلفزيوني، هي الجائزة الحقيقية للمعارضة.

وبانضمامهما للمعركة، اصطدمت "العربية" و"الجزيرة" مباشرة مع نظيراتهما في «محور الممانعة»، وأصبح من المرجح حدوث نتائج غير متوقعة. قناة «العربية» تمكنت من الاستمرار دون أضرار تذكر، وهو ما يرجع أساسا إلى أن الإدارة العليا بها تشتمل على صحافي في حجم عبد الرحمن الراشد، الذي لا يخفي في مقالاته الصحفية "عداءه" لنظام بشار الأسد ورفضه صراحة لسياسة إيران في المنطقة.
أما بالنسبة لقناة «الجزيرة»، فإن تأثير التغير المفاجئ للتوجهات التحريرية كان واضحا للغاية، حيث كانت القناة تشتهر، جزئيا، بوجود العديد من الصحافيين «الموالين للممانعة» في المناصب الإدارية العليا بها والذين كانوا يستخدمون القناة للتعبير عن مواقفهم المناهضة لأميركا، وهو ما يلقى رواجا في العالم العربي، خاصة في دمشق وطهران. وقد أصبح موقفهم ضعيفا عندما أعلنت قطر عن موقفها وانضمت للسعودية والغرب في تحالف معاد للأسد. وهو ما أدى إلى استقالة عدد من كبار العاملين بالجزيرة، أبرزهم، مدير مكتب بيروت، غسان بن جدو الذي اتجه لتأسيس قناة «الميادين» التي يقع مقرها في بيروت، وهي قناة إخبارية فضائية تمثل إضافة مهمة بالنسبة لجبهة وسائل الإعلام السورية - الإيرانية.




وقد بدأت القناة في يونيو (حزيران) عام 2012 والتي تزعم تقديم نسخة صحافية «تلتزم بالقومية، والوحدة العربية، والقضايا الإنسانية في إطار الحياد الصحافي المهني». وهي واحدة من القنوات القليلة التي يتم إرسال صحافييها برفقة قوات الأسد. وقد تعرضت مؤخرا لانتقادات حادة من نشطاء المعارضة الذين اتهموها بتمرير معلومات حول مواقع «الجيش السوري الحر» إلى الجيش السوري في حلب.

وكما أن "العربية" و"الجزيرة" تأثرتا بالثورة، فإنهما بطبيعة الحال كانتا في موقع يسمح لهما بالتأثير على الثورة. من أهم تلك التأثيرات دورهما في إبراز قيادات معارضة معينة، فاسم عمار القربي أو برهان غليون لم يكن مألوفا لدى المواطن السوري قبل الثورة، ولكن بفضل هاتين القناتين أصبحا هما ورفاقهما في المعارضة "نجوما" على الساحتين الإعلامية والسياسية. "الجزيرة" و"العربية" لم تشهرا قيادات وحسب، بل ساهمتا في تأطير مفهوم معين لما يحدث في سوريا من خلال تبني لغوي لعبارات مثل "تنسيقيات" و"شبيحة" و"الجيش النظامي"، الأمر الذي "شرعن" استخدامها لدى نشطاء الثورة، وأصبح في صميم خطابهم الإعلامي.


في الحرب بين القنوات الفضائية، يمكنك القتال فقط إذا ظللت على الهواء. وقد تم اتخاذ القرار في بداية شهر سبتمبر (أيلول) الماضي من قبل «عرب سات» و«نايل سات» بوقف بثهما لقناة سوريا الرسمية، في استجابة لتوجيهات الجامعة العربية، وهو ما مثل ضربة للجهود الإعلامية للنظام السوري. وعلى الرغم من أنه ما زال من الممكن مشاهدة التلفزيون الرسمي لسوريا أرضيا، فإن ذلك القرار يؤثر على مدى انتشاره ومكانته. وعلى الرغم من وجود وسائل قانونية لإغلاق القنوات الفضائية، وقعت قناة «الجزيرة» ضحية لوسيلة غير قانونية من قبل الجمهورية الإسلامية ألا وهي التشويش عليها. ففي يناير (كانون الثاني) عام 2012، أعلنت «رويترز» أن التردد الذي تستخدمه قناة «الجزيرة» قد تعرض للتشويش في موقعين بإيران، وهو ما دفع القناة التي يقع مقرها بالدوحة إلى تغيير ترددها لمشاهدي «عرب سات». (وكانت العربية وعدد من القنوات السورية المعارضة تتعرض للتشويش المنهجي من قبل مصادر إيرانية منذ سنوات).




الجندي البطل والهجوم المضاد





في حوار مع قناة روسية في مايو (أيار) الماضي، اعترف الرئيس السوري بشار الأسد بأن نظامه كان يخسر الحرب الإعلامية، ولكنه قال: «إن الحقيقة هي الأهم»، وليس «الضلالات» التي تخلقها وسائل الإعلام. ومع ذلك، فإن تلك الضلالات هي المجال الرئيس لخبرة وسائل الإعلام السورية الرسمية. ونظرا لوعيه الكامل بأن القوة الجوية لقوات حلف شمال الأطلسي هي الفيصل النهائي في الحروب الأهلية العربية، ركزت الاستراتيجية الإعلامية للأسد أساسا على استعراض قدرته على الاستمرار، حيث إنه يعتقد أنه إذا ما استطاع أن يقنع عددا كافيا من شعبه والدول الغربية الرئيسة بأن القضاء عليه لن يتم بالبساطة التي تم بها القضاء على زملائه الأقل حظا، فإنه سوف يستطيع تحمل العاصفة.
وعلى الرغم من أن الرسائل التكتيكية للنظام تغيرت في كل مرحلة من مراحل النزاع، فقد ظلت الخطوط العريضة للرسائل التي يرسلها النظام ثابتة طوال الوقت. فقد حددت المستشارة الإعلامية للأسد، بثينة شعبان، النغمة العامة بعد خمسة أيام من اندلاع أولى المظاهرات الحاشدة عندما أعلنت في مؤتمر صحافي أن سوريا تتعرض لهجوم «مؤامرة طائفية». فما زالت فكرة القوات الأجنبية المعادية التي تحرك أطرافا داخلية لزعزعة الاستقرار وتدمير البلاد تحت شعارات ديمقراطية زائفة، تتمركز في قلب الخطاب الإعلامي الواسع للنظام.

ومنذ البداية، كانت الحملة الإعلامية للنظام تعاني من أزمة مصداقية متزايدة، حيث إن إخفاقها في نقل التقارير حول المظاهرات الحاشدة التي تعج بها البلاد، ومحاولاتها الإساءة إلى سمعة المتظاهرين الملتزمين تماما بالقانون، قد أثار سخط العديد من مشاهديها. ولم يكن لمحاولاتها المتكررة التي تهدف إلى تعزيز خطابها عبر تسجيلات سرية أو اعترافات تلفزيونية، عادة ما تصور أسلحة ومخدرات وكميات مصادرة من النقد الأجنبي فقط تأثير محدود على المناطق التي كانت عازمة على إسقاط الأسد، ولكنها ساهمت أيضا في دفع عدد من المحايدين إلى الانضمام للمظاهرات. ولم تمنع المحاولات المستمرة للقنوات الموالية للنظام لإبراز التقارير غير الدقيقة التي تبثها «القنوات المعادية» مثل الفقرة اليومية على قناة «الدنيا» والمعنونة بـ«كذب الإعلام» والتي تكشف عن المعلومات الخاطئة التي يبثها «العدو»، حتى إن المتظاهرين كانوا يهتفون «الإعلام السوري كاذب».

ربما يكون النظام قد خسر معركة التقارير الدقيقة، ولكن خطابه كان لا يزال حيا للغاية. كما كانت لديه ميزة أساسية في مواجهة المعارضة، وهي أن آلته الإعلامية كانت تخضع لسيطرة مركزية تتم من مكتب في القصر الرئاسي. وقد حدث تغير ملحوظ في استراتيجية وسائل الإعلام التابعة للنظام في أعقاب حصار «بابا عمرو» في فبراير (شباط) الماضي. وفي ذلك الوقت، شن الجيش حملة واسعة النطاق تهدف إلى تحقيق انتصار عسكري كامل على المعارضة المسلحة التي تتزايد عدوانية.




وعندما تزايد مستوى العنف، وتراجعت آمال النظام في تهدئة الجماهير من خلال إصلاحات محدودة، تحولت وسائل إعلام النظام إلى هجوم مضاد شامل وكانت القوات المسلحة هي حربتها. فقد توصل الأسد إلى أنه إذا لم يعد بإمكانه الحفاظ على احترام وولاء المواطنين العاديين، فربما يستطيع (الجيش العربي السوري) ذلك. فنظرا لأنه كان مستفيدا من موازنات الدفاع الهائلة ومصدر شبكات الدعم الرئيسة في الوقت نفسه، كان الجيش السوري أكثر المؤسسات قوة في سوريا، وخط الدفاع الرئيس للأسد.
فقد كان ضروريا أن تركز الحملة الإعلامية للنظام ليس على حشد السوريين حول الأسد ذاته، ولكن حول الجيش السوري الذي يترأسه. وهو فارق دقيق يمكن أن يصبح حاسما في حشد الدعم الرئيس للأسد بين الأقليات الدينية والطبقات الوسطى المدنية، والذين يرى العديد منهم تمرد الجيش السوري الحر، باعتباره نذيرا بانهيار مصالحهم.

وتعج القنوات التابعة للدولة بدعاية صارخة موالية للجيش. فهي تسعى لتصوير الجندي كمدافع ملتزم ومنكر للذات عن القيم السورية والحضارة في مواجهة «العصابات الإرهابية المسلحة» التي تعرضت لغسيل المخ، والتي يمولها ويدربها الأعداء الخارجيون. حيث يتم بث أغاني تمجد فضائل المقاتل، وإعلانات تلفزيونية تشجع على التجنيد في الأفرع المختلفة للقوات المسلحة.
ففيما أصبح جزء رئيس من النشرات الإخبارية، يظهر صحافيات شابات يرتدين سترات واقية في مصاحبة الجيش السوري لإذاعة تقارير يومية من الخطوط الأمامية التي تبرز انتصارات الجيش وتضحياته. حيث يتضمن التقرير التقليدي حوارا مع «المدافعين عن البلاد» الذين يؤكدون دائما أن معنوياتهم مرتفعة للغاية ويتعهدون بهزيمة الإرهابيين أينما كانوا. كما أنهم يذيعون لقاءات مع المدنيين المحليين الذين يعلنون تقديرهم للجيش، نظرا لأنهم أخرجوا «الإرهابيين» من أحيائهم وأعادوا «الأمن والأمان».

وعادة ما تشتمل تلك التقارير على قصة إنسانية، مثل قصة حول مواطن في إحدى ضواحي دمشق سرقه المتمردون وأعاد الجيش ماله، أو حول جندي طلب أن يعاد إرساله للجبهة من دون أن يقلق بشأن فقدانه لذراعه اليسرى في هجوم شنه «الجيش السوري الحر». وفي مثل تلك التقارير، كان يتم إجراء عمليات تجول في الأحياء السكنية، عادة ما كانت تنتهي بمشاهد لمواطنين فخورين يهتفون «الله محيي الجيش» أو بصور للأطفال وهم يمنحون الجنود الأبطال الحلوى أو أكوابا من الشاي والقهوة.
ويحمل التعبير عن فكرة الجندي البطل شكلا أكثر انطلاقا على شبكة الإنترنت. فعلى الرغم من أن النظام كان أداؤه متراجعا على تلك الجبهة نظرا إلى جيوش المعارضة من نشطاء الإنترنت، هناك عدد من قنوات «يوتيوب» التي يتم تحديثها يوميا من قبل مؤيدي النظام الذين يركزون حاليا على تمجيد الجيش السوري العربي. من بين تلك القنوات قناة «SyriaTube» التي سوف تجد عليها صورا لأحد قتلى مقاتلي الجيش السوري الحر بمصاحبة تعليقات نصية تقول: «تم الدعس بالحذاء العسكري على رقبة هذا الإرهابي».

وهناك مقطع فيديو آخر يشير إلى صف من دبابات الجيش السوري وسياراته وهي تسير لعدة أميال على خلفية موسيقية من فيلم «صلاة لراحة حلم» ويحمل مقطع الفيديو عنوان: «حلب: نحن قادمون». وهو تعبير جامح عن حالة فاشية عسكرية يستغلها بشار الأسد لبناء أوهامه حول السلطة وحول استمراريته.
font change