الجميل... و"قواته"
أما بشير الجميل فلم يشأ قدره أن تكتمل زعامته التي قُصِفت في ريعان شبابه وشبابها مع مشروعه الذي أُجهض فور اغتياله. لكنه كان قد اجتاز الطريق في مجتمعه المسيحي، نحو تصدر المشهد السياسي-الحربي في لبنان الخارج من حرب السنتين (1975-1976). وفي العامين 1977-1978 خاض وقواته حربا شرسة على قوات النظام السوري في المناطق المسيحية: "حرب المئة يوم" في الأشرفية ببيروت، ثم توسعت المجابهات إلى زحلة ومناطق مسيحية، فأدت إلى إخراج القوات السورية منها. وارتسم بذلك أول ملامح شخصية الجميل الشاب القيادية الكاريزمية الحربية في المجتمع المسيحي. وهذا قبل تفرغه إلى حرب ومجازر داخلية تحت لواء "توحيد البندقية المسيحية". واستغرقت تلك الحرب العامين 1979 و1980، فكرست سطوة الجميل الشاب في معظم مناطق المسيحيين، وصارت الميليشيا المسيحية موحدة تحت قيادته. وبعد "مجزرة إهدن" التي نفذتها مجموعة من "القوات" في معقل زعماء الشمال المسيحيين، آل فرنجية الصيفي، وقتلت طوني سليمان فرنجية وزوجته وولديه ومجموعة من أنصارة في يونيو/حزيران 1978، شنت "القوات" عمليتها العسكرية الخاطفة على مواقع ميليشيا حزب "الوطنيين الأحرار" (النمور) بقيادة داني شمعون في مناطق مسيحية عدة. كانت تلك العملية من أعنف فصول "حرب التوحيد" وأشدها دموية، خصوصا على معقل قيادة "النمور" (الميليشيات الموالية للزعامة الشمعونية) في الصفرا التي سميت باسمها المجزرة حيث وقعت في منتجع على الشاطئ شمال جونية.
وشرعت "القوات البشيرية" في تشكيل إدارة ذاتية للمناطق المسيحية التي سيطرت عليها. ومن أبرز وظائف تلك الإدارة: التجنيد، والرقابة الأمنية المشددة على المجتمع المسيحي، والجباية المالية، وإدارة الخدمات العامة. وأعلنت "القوات" في ذلك الوقت: "للمرة الأولى منذ القرن الرابع عشر، سيكون للمقاومة المسيحية جيش موحد خاص بها". وبدوره صار "حزب الله" جيش الشيعة في لبنان، أقله منذ عام 2000.
الزعيم روح الجماعة
ولعل لا أحد من زعماء الحروب في لبنان التصقت سيرته ومسيرته وصورته وحضوره الطاغي بجماعته وحزبه وقواته المقاتلة التصاق الروح بالجسد مثل بشير الجميل وحسن نصرالله. وقد يكون هذا لاهوت السياسة وناسوتها بأشكال ومقادير متباينة في كثرة من بلدان عربية عاشت موجة من انقلابات عسكرية في الخمسينات والستينات. فقادة تلك الانقلابات الملهمون قالوا إنهم يجسدون روح الأمة والشعب، وطموحاتهما وأحلامهما. أما في لبنان فغالبا ما لا تنفصل مسارات الأحزاب الأهلية الطائفية عن أدوار ومسارات زعمائها المؤسسين.
وعلى الرغم من عدم تزامن تصدر بشير الجميل وحسن نصرالله المشهدَ السياسي الحربي في لبنان، وتفاوت مدة تصدرهما، وتناقض مشروعيهما تناقضا عدائيا كاملا، فإن كلا منهما قاد جماعتَهُ ومشروعها/ حلمها الخلاصي بعنف وشغف شخصي ملتهبين، وبكاريزما نارية تُلهِب روح الجماعة قدر ما تستمد منها اللهب والشغف.
وقد يكون ما يمنح الوجاهة للمقارنة بين الرجلين ومشروعيهما، هو التناقض الجذري بين المشروعين، وتشابه سعي الزعيمين المحموم إلى تحقيقهما، على الرغم من تفاوت الطبيعة الخلاصية التي تلابسهما، وربما اختلافها النسبي. وهذا إضافة إلى مقتل/اغتيال كل منهما دون حلمه ومشروعه، وهو في قمة تألقه وزهوه، أقله في نظر جماعته التي صعقها فقدان زعيمها ورائدها وملهمها، وأفقدها روحها وحلمها وصوتها، وزلزل الأرض تحت أقدامها، وصدع عالمها.
وعلى الرغم من أن "القوات اللبنانية" و"حزب الله" لم يتجابها مباشرة في الحروب التي خاضها كل منهما، فإن كلا منهما أعاد صوغ هوية جماعته وأهدافها في زمن الحرب على نحو يجعلهما على طرفي نقيض. فالعدو الذي قاتلت "القوات" البشيرية لتحرير لبنان منه هو الاحتلال الفلسطيني-السوري، وحالفت في سبيل ذلك إسرائيل التي نشأ "حزب الله" برعاية سورية-إيرانية لقتالها وتدميرها وتحرير لبنان وفلسطين منها.
لكن عداوة "القوات" البشيرية للأسد لم تمنع قيادتها من التفكير في استلهام عقيدة حافظ الأسد الدموية لتحقق حلمها الخلاصي. فهناك رواية تسربت من مجالس قادتها تفيد بأن بعضهم راح يتساءل: إلى كم مجزرة شبيهة بمجزرة حماة السورية نحتاج كي نُخضع المسلمين في لبنان لإرادتنا ونطرد منه الفلسطينيين؟
هزيمة 67 نذير حروب أهلية
يبين التمعن في نشأة "القوات اللبنانية" و"حزب الله" ومسيرتيهما، وفي نشأة ومسيرة المقاومة الفلسطينية، والتفكير في ذلك على مدى زمني طويل، أن ظاهرة جديدة بدأت ملامحها الأولى ترتسم غداة هزيمة إسرائيل جيوش ثلاث دول عربية في حرب يونيو/حزيران 1967: استعمال أنظمة عربية عسكرية استبدادية الفلسطينيين لخوض حرب بالوكالة عنها من الأردن ولبنان ضد إسرائيل. وسرعان ما أدى ذلك إلى نشوب حرب أهلية في البلدين الصغيرين والمتنوعي الهويات الأهلية.
وكما كان من الصعب على "قوات" بشير الجميل الشاب وأركانه من مجايليه أن تشتد قوتهم وتندفع تلك الاندفاعة العارمة في مجتمع الحرب المسيحي، لولا الحرب نفسها و"زواج المتعة" السري البشيري مع أركان حرب الجيش الإسرائيلي.