حسن نصرالله وبشير الجميل... أبناء خراب المشرق

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميل، الذي اغتيل خلال اجتماع في مقر حزب الكتائب في حي الأشرفية ببيروت في 14 سبتمبر 1982

حسن نصرالله وبشير الجميل... أبناء خراب المشرق

منذ عام 1975 تحول معظم الزعماء السياسيين اللبنانيين زعماء حرب تكرست نظاما سياسيا-اجتماعيا، يبدو أن لا مخرج منه في المدى المنظور. وقد صدر حديثا في بيروت كتابان يتناولان اثنين من أولئك الزعماء: "اللقاء القاتل- محضر الجلسة الأخيرة بين حافظ الأسد وكمال جنبلاط" في 27 مارس/آذار 1976. و"بشير الجميل أو روح شعب" الذي ألفه بالفرنسية الأب اليسوعي سليم عبو (1928-2018) ونقله إلى العربية أنطوان سعد، وأصدرته "دار سائر المشرق"، 2025. وعبو كان رئيس جامعة القديس يوسف ببيروت بين عامي (1995-2003).

في هذه المناسبة نعقد هنا مقارنة بين زعامتين حربيتين على طرفي نقيض: بشير الجميل (1947-1982)، وحسن نصرالله (1960-2024). لكن هذين الزعيمين الحربيين متشابهان في تكوينهما ومسيرتهما ونهايتهما. حتى ليمكن استبدال اسم بشير الجميل باسم حسن نصرالله، والشعب/الأمة المسيحية أو المارونية بالشعب/الأمة الشيعية، في كتاب عبو، من دون أن يفقد الكتاب تماسك مضمونه ومقارباته لدور الزعيم الأسطوري المخلص بصفته بطلا أسطوريا قد يمثل "روح الشعب/الأمة".

وربما لو انتبه مؤلف الكتاب لمثل هذا الأمر، لكان شكك في المقولات والمفاهيم التي بنى عليها كتابه وسيرة بطله وارتاب منها. لكن حماسته الجامحة لبطله (الجميل الابن الشاب) وذوبانه فيه كمثل ذوبان متصوف حلقات الذكر في رائده وشيخه، صرفاه عن الالتفات إلى الجماعات اللبنانية الأخرى، لملاحظة أنها كلها تعبد زعماءها الحربيين عبادة صوفية. هذا وقد ألف الأب عبو كتابه عن بشير الجميل في عام 1984 وأعيدت طباعته في 2022 بعد وفاة المؤلف، فيما كانت زعامة حسن نصرالله الكاريزمية الحربية تمارس سحرها الصوفي على الجماعة الشيعية في لبنان.

بزعامة نصرالله ظل "الحزب" يتعملق كحزب حاكم حتى انقض الجيش الإسرائيلي عليه وعلى المناطق الشيعية اللبنانية انقضاضا دمويا، مدمرا وساحقا

وعلى مثال سحري جامح- بلا تبصر في حدود مفاهيمه ومقولاته عن شعب لبناني وأمة لبنانية يسنح عن تمزقهما جماعات متناحرة- ينقاد سليم عبو إلى اعتبار بشير الجميل بطلا شعبيا وقوميا لبنانيا جامعا، ويكتشف فيه كلٌ من الأمة والشعب نفسه. وهذا لا ينطبق سوى على المسيحيين اللبنانيين. ويكتب عبو أن بطله كان "شقي العائلة وشيطانا في المدرسة (...) ويواجه بعنف كل عقبة تحول دون مبتغاه". ولا ينتبه الأب اليسوعي، دارس اللاهوت والفلسفة والآداب والأنثروبولوجيا، إلى أن مثل تلك الصفات البطولية العنيفة على النقيض التام مع روح السياسة. بل هو يضيف: "نحن في حاجة إلى هذا النوع من الجنون لإنقاذ هذا البلد". ومن ماذا ينقذ ذاك الجنون الحربي؟ ويتابع الأب اليسوعي تناقضاته، فينسب إلى "الوعي الشعبي" المسيحي اللبناني تشابها "بين تضحية بشير الجميل وتضحية المسيح"! ويتبنى الكاتب ضمنا هذين الوعي والتشابه. ثم يقر بأن الجميل "كان يعلم أن تحالفه مع إسرائيل هو فقط ما يمكن أن يضمن استقلال لبنان"! هذا على الرغم من أن الوقائع اللبنانية التي ترتبت على ذاك التحالف كشفت عن مآسي المسيحيين ولبنان تاليا. ويذهب عبو بعيدا في توصيف بطله: "إنه رجل العناية الإلهية الذي يبعث الأمل في شعب مهان، محبط، ومدمى، ومصاب بفيض اليأس الجماعي". وينسى الكاتب أن هذا الحال يطابق حال ألمانيا وزعيمها الفاشي المخلص في ثلاثينات القرن العشرين. وهو الحال الذي تأثر به، بل استلهمها الجميل الأب، والشيخ بيار، فأسس حزبه المسيحي اللبناني، وسماه "الكتائب اللبنانية".

ليس هذا سوى قليل القليل من فيض ما يرد في كتاب الأب سليم عبو عن بشير الجميل الذي نعقد هنا مقارنة بين زعامته الحربية لـ"القوات اللبنانية" وزعامة حسن نصرالله لـ"حزب الله".

نصرالله... و"حزبه"

بقيادة زعيمه وخطيبه الكاريزمي الخلاصي حسن نصرالله منذ عام 1992، وبعد اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، وتحالفه مع الزعيم المسيحي الأقوى ميشال عون، وتسببه بحرب إسرائيلة على لبنان في يوليو/تموز 2006، ومن ثم هجومه العسكري على بيروت والشوف في مايو/أيار 2008، وحصوله على الثلث المعطل في الحكومة بعد "اتفاق الدوحة"- بعد هذا كله صار "حزب الله" شكلا من أشكال الحزب الحاكم في لبنان. وتكرس هذا أكثر فأكثر بعد خوضه الحرب الدموية في سوريا إلى جانب نظام بشار الأسد بدءا من عام 2012، ومن ثم نجاحه في فرض ميشال عون رئيسا للجمهورية في عام 2016، ومساهمته في إجهاض انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 على "نظام الفساد والإفلاس" اللبناني.

أ.ب
حسن نصر الله زعيم "حزب الله" السابق، يلقي خطابا متلفزا في حفل تأبين لإحياء ذكرى مرور أسبوع على اغتيال القائد العسكري في الحزب، فؤاد شكر، في بيروت، لبنان، 6 أغسطس 2024

وبزعامة نصرالله ظل "الحزب" يتعملق كحزب حاكم حتى انقض الجيش الإسرائيلي عليه وعلى المناطق الشيعية اللبنانية انقضاضا دمويا، مدمرا وساحقا، بين أواسط سبتمبر/أيلول ونوفمبر/تشرين الثاني 2024، فقتل/اغتال نصرالله في 27 سبتمبر. وهذا بعد سنة ونيف على مباشرته حرب "إسناد" غزة ضد إسرائيل.

رغم أن "القوات اللبنانية" و"حزب الله" لم يتجابها مباشرة في الحروب التي خاضها كل منهما، فإن كلا منهما أعاد صوغ هوية جماعته وأهدافها في زمن الحرب على نحو يجعلهما على طرفي نقيض

الجميل... و"قواته"

أما بشير الجميل فلم يشأ قدره أن تكتمل زعامته التي قُصِفت في ريعان شبابه وشبابها مع مشروعه الذي أُجهض فور اغتياله. لكنه كان قد اجتاز الطريق في مجتمعه المسيحي، نحو تصدر المشهد السياسي-الحربي في لبنان الخارج من حرب السنتين (1975-1976). وفي العامين 1977-1978 خاض وقواته حربا شرسة على قوات النظام السوري في المناطق المسيحية: "حرب المئة يوم" في الأشرفية ببيروت، ثم توسعت المجابهات إلى زحلة ومناطق مسيحية، فأدت إلى إخراج القوات السورية منها. وارتسم بذلك أول ملامح شخصية الجميل الشاب القيادية الكاريزمية الحربية في المجتمع المسيحي. وهذا قبل تفرغه إلى حرب ومجازر داخلية تحت لواء "توحيد البندقية المسيحية". واستغرقت تلك الحرب العامين 1979 و1980، فكرست سطوة الجميل الشاب في معظم مناطق المسيحيين، وصارت الميليشيا المسيحية موحدة تحت قيادته. وبعد "مجزرة إهدن" التي نفذتها مجموعة من "القوات" في معقل زعماء الشمال المسيحيين، آل فرنجية الصيفي، وقتلت طوني سليمان فرنجية وزوجته وولديه ومجموعة من أنصارة في يونيو/حزيران 1978، شنت "القوات" عمليتها العسكرية الخاطفة على مواقع ميليشيا حزب "الوطنيين الأحرار" (النمور) بقيادة داني شمعون في مناطق مسيحية عدة. كانت تلك العملية من أعنف فصول "حرب التوحيد" وأشدها دموية، خصوصا على معقل قيادة "النمور" (الميليشيات الموالية للزعامة الشمعونية) في الصفرا التي سميت باسمها المجزرة حيث وقعت في منتجع على الشاطئ شمال جونية.

وشرعت "القوات البشيرية" في تشكيل إدارة ذاتية للمناطق المسيحية التي سيطرت عليها. ومن أبرز وظائف تلك الإدارة: التجنيد، والرقابة الأمنية المشددة على المجتمع المسيحي، والجباية المالية، وإدارة الخدمات العامة. وأعلنت "القوات" في ذلك الوقت: "للمرة الأولى منذ القرن الرابع عشر، سيكون للمقاومة المسيحية جيش موحد خاص بها". وبدوره صار "حزب الله" جيش الشيعة في لبنان، أقله منذ عام 2000.

الزعيم روح الجماعة

ولعل لا أحد من زعماء الحروب في لبنان التصقت سيرته ومسيرته وصورته وحضوره الطاغي بجماعته وحزبه وقواته المقاتلة التصاق الروح بالجسد مثل بشير الجميل وحسن نصرالله. وقد يكون هذا لاهوت السياسة وناسوتها بأشكال ومقادير متباينة في كثرة من بلدان عربية عاشت موجة من انقلابات عسكرية في الخمسينات والستينات. فقادة تلك الانقلابات الملهمون قالوا إنهم يجسدون روح الأمة والشعب، وطموحاتهما وأحلامهما. أما في لبنان فغالبا ما لا تنفصل مسارات الأحزاب الأهلية الطائفية عن أدوار ومسارات زعمائها المؤسسين.

وعلى الرغم من عدم تزامن تصدر بشير الجميل وحسن نصرالله المشهدَ السياسي الحربي في لبنان، وتفاوت مدة تصدرهما، وتناقض مشروعيهما تناقضا عدائيا كاملا، فإن كلا منهما قاد جماعتَهُ ومشروعها/ حلمها الخلاصي بعنف وشغف شخصي ملتهبين، وبكاريزما نارية تُلهِب روح الجماعة قدر ما تستمد منها اللهب والشغف.

وقد يكون ما يمنح الوجاهة للمقارنة بين الرجلين ومشروعيهما، هو التناقض الجذري بين المشروعين، وتشابه سعي الزعيمين المحموم إلى تحقيقهما، على الرغم من تفاوت الطبيعة الخلاصية التي تلابسهما، وربما اختلافها النسبي. وهذا إضافة إلى مقتل/اغتيال كل منهما دون حلمه ومشروعه، وهو في قمة تألقه وزهوه، أقله في نظر جماعته التي صعقها فقدان زعيمها ورائدها وملهمها، وأفقدها روحها وحلمها وصوتها، وزلزل الأرض تحت أقدامها، وصدع عالمها.

وعلى الرغم من أن "القوات اللبنانية" و"حزب الله" لم يتجابها مباشرة في الحروب التي خاضها كل منهما، فإن كلا منهما أعاد صوغ هوية جماعته وأهدافها في زمن الحرب على نحو يجعلهما على طرفي نقيض. فالعدو الذي قاتلت "القوات" البشيرية لتحرير لبنان منه هو الاحتلال الفلسطيني-السوري، وحالفت في سبيل ذلك إسرائيل التي نشأ "حزب الله" برعاية سورية-إيرانية لقتالها وتدميرها وتحرير لبنان وفلسطين منها.

لكن عداوة "القوات" البشيرية للأسد لم تمنع قيادتها من التفكير في استلهام عقيدة حافظ الأسد الدموية لتحقق حلمها الخلاصي. فهناك رواية تسربت من مجالس قادتها تفيد بأن بعضهم راح يتساءل: إلى كم مجزرة شبيهة بمجزرة حماة السورية نحتاج كي نُخضع المسلمين في لبنان لإرادتنا ونطرد منه الفلسطينيين؟

هزيمة 67 نذير حروب أهلية

يبين التمعن في نشأة "القوات اللبنانية" و"حزب الله" ومسيرتيهما، وفي نشأة ومسيرة المقاومة الفلسطينية، والتفكير في ذلك على مدى زمني طويل، أن ظاهرة جديدة بدأت ملامحها الأولى ترتسم غداة هزيمة إسرائيل جيوش ثلاث دول عربية في حرب يونيو/حزيران 1967: استعمال أنظمة عربية عسكرية استبدادية الفلسطينيين لخوض حرب بالوكالة عنها من الأردن ولبنان ضد إسرائيل. وسرعان ما أدى ذلك إلى نشوب حرب أهلية في البلدين الصغيرين والمتنوعي الهويات الأهلية.

وكما كان من الصعب على "قوات" بشير الجميل الشاب وأركانه من مجايليه أن تشتد قوتهم وتندفع تلك الاندفاعة العارمة في مجتمع الحرب المسيحي، لولا الحرب نفسها و"زواج المتعة" السري البشيري مع أركان حرب الجيش الإسرائيلي.

"حزب الله" لم يصِر إلى ما صار إليه لولا تولي "الحرس الثوري الإيراني" صناعته وتنظيمه وتأطيره وتجهيزه وتمويله، وتزويده العقيدة الدينية الخلاصية، لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان

وعلى منوال يشبه المنوال البشيري "القواتي" في بعض وجوهه، كان يستحيل أن يعيش وليدُ "زواج المتعة" بين نظامَي الخميني والأسد في لبنان، لينتشر ويهيمن في ديار الشيعة اللبنانيين، لولا تعرض أهلها إلى حروب مديدة (1968-1982) دمرت عمرانهم وهجرتهم مرات متتالية. ومن رحم خراب ديارهم في جنوب لبنان وضواحي بيروت الشرقية التي هجرتهم منها "القوات اللبنانية"، وُلدت حاجة إلى ثأر شيعي مثلث، جسدته "حركة أمل" في البداية، ثأر من المنظمات الفلسطينية. ومن ضعف الشيعة وهوانهم في مراتب "الصيغة اللبنانية". ومن الاحتلال الإسرائيلي وتعاون قوات بشير الجميل المسيحية معه. ومن مثلث الثارات الشيعية هذه ولدت الخمينية "حزب الله" من مجتمع الخراب والتهجير الحربي المتناسل.

إضافة إلى تشابه ولادة "المقاومتين"- المسيحية اللبنانية البشيرية، و"حزب الله" الشيعي- من رحم الحروب والاحتلالات والتدمير والتهجير والثارات، يلوح شبهٌ آخر بينهما: انتفاضة كل منهما على أبوةٍ وتقليدٍ سياسي اجتماعي وثقافي في بيئته السياسية الأهلية، على الرغم من اختلاف ظروف وعوامل ووقت الانتفاضتين، واختلاف الأبوة والتقليد اللذين انتفض كل منهما عليهما. ويذكر جوزف ميلا: "ينبغي عدم الاستهانة بالطابع الثوري الاجتماعي والاحتجاجي للميليشيا المسيحية. فهذه الميزة تتشاطرها "القوات اللبنانية" مع الميليشيات الأخرى في الحرب اللبنانية". فـ"القوات" تصدت لسياسة النخب السياسية التقليدية المسيحية المتكلسة، والتي بدأت تنهار في خضم الحرب الأهلية.

وانتفضت "المقاومة" البشيرية القواتية على أبوة "حزب الكتائب" وعرابه المؤسس والد بشير، بيار الجميل، وعلى التزام حزبه والمسيحيين صيغة لبنان المستقل في 1943 وميثاقه ودستوره الاستقلالي. فبشير وجيله اعتبرا أن الدستور والميثاق والصيغة حولها خروجُ المسلمين عليها خرقة مهترئة، بمناصرتهم المنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان. وانتشار سلاح الفلسطينيين خارج مخيماتهم وعلى تخوم المناطق المسيحية والطرق المؤدية إليها، سرعان ما بعث في نفوس المسيحيين ضغينة عنيفة، ملتهبة وعصابية، على الفلسطينيين ومناصريهم والساكتين عن سلاحهم من المسلمين.

وانتفضت "القوات" البشيرية على طوطمية بيار الجميل الأبوية شبه المقدسة، وعلى جيله الكتائبي. وهي في انتفاضتها هذه كسرت المحظور وتحالفت مع "الشيطان" (إسرائيل)، على ما كان بشير يردد، كمعادل لحلف المسلمين اللبنانيين مع الفلسطينيين.

أما مؤسسو "حزب الله" من الجيل الشيعي الشاب، وحسن نصرالله في طليعتهم، فكانت انتفاضتهم أشد تعقيدا وعمقا. فهم، شأن "القوات" البشيرية، نشأوا في خضم الحروب الأهلية في لبنان. نشأت خلايا "حزب الله" السرية الأولى برعاية جهازية كاملة من "الحرس الثوري الإيراني". أما الانتفاضة التي انخرط فيها رواد "حزب الله" فقاموا بها على ما اعتبروه تدين أهلهم الشيعي التقليدي الذاوي والخاوي. وانتفاضتهم في هذا المعنى، انتفاضة دينية وثقافية رسالية ضد التقليد. فـ"ملتزم حزب الله الرسالي ولد ولادة من غير أب" (وضاح شرارة). أي ولدوا أنفسهم بأنفسهم.

لكن "حزب الله" لم يصِر إلى ما صار إليه لولا تولي "الحرس الثوري الإيراني" صناعته وتنظيمه وتأطيره وتجهيزه وتمويله، وتزويده العقيدة الدينية الخلاصية، لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. وقد غير هذا كله شخصية المجتمع الشيعي التاريخية في لبنان تغييرا جذريا، فولدها ولادة جعلت الشيعة اللبنانيين كتلة أهلية متراصة ومجتمعا نقيضا منكفئا. وعلى قدر ما استفاد "حزب الله" من "الحريات الطائفية" اللبنانية لتمكين قوته، تبرأ من الاجتماع اللبناني. وهكذا ما عاد السواد الأعظم من الشيعة يتعرفون إلى أنفسهم ومجتمعهم وتاريخهم إلا في مرآة "حزب الله".

فيما كانت "القوات اللبنانية" تنكفئ وتتصدع ويذوي مشروعها البشيري، بدأ "حزب الله" مسيرته الخلاصية الكبرى

تصفيات واغتيالات

هناك شبه ثالث بين "القوات" البشيرية و"حزب الله": كلٌ منهما أقدم على حملات تصفية دموية لمنظمات ومجموعات مسلحة وأحزاب وشخصيات في مناطق سيطرته. استمرت حملات بشير الجميل وقواته لـ"توحيد البندقية المسيحية" حتى استطاعت بالقتل والاغتيال والمجازر تطهير مناطق المسيحيين من منافسيها تطهيرا كاملا.

بدوره لم يتوقف "حزب الله" منذ نشأته عن تصفية- وسبقته في ذلك "حركة أمل"- المنظمات الحزبية اليسارية والعروبية، واغتيال محازبيها وقادتها، حتى أنجز تفرده في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي واحتكرها. وبذلك تطهرت الطائفة الشيعية وانقسمت إلى ما سُمي "الثنائي الشيعي". وصار "حزب الله" هو حزب "المقاومة والتحرير" في سنة 2000، وصارت "أمل" حركة تعتاش على ريوع الدولة اللبنانية وخدماتها.

وعاشت "القوات" البشيرية بداية مأساتها في لحظة اغتيال بشيرها في عز فرحتها ونشوتها مع مجتمعها المسيحي بوصول زعيمها المتمرد المقاتل إلى سدة رئاسة الجمهورية في أحلكِ أيام دمار لبنان وخرابه في المناطق الإسلامية. وبعد ذلك استمرت فصول انشقاقات "القوات" ومآسيها الحربية في الشوف ودير القمر وبحمدون وسوق الغرب وشرق صيدا. هذا فيما كانت نواة "حزب الله" السرية تولد وتتكون من رحم الدمار والخراب، ورحم عمليات الاستشهاد الانتحاري المدوي ضد القوات المتعددة الجنسية، الأميركية والفرنسية والإسرائيلية، وعمليات خطف الأجانب في بيروت، تمهيدا لما سمي "انتفاضة 6 فبراير" 1984.

أ.ف.ب
مقاتلون من "القوات اللبنانية"، في حي الأشرفية شرق بيروت، لبنان في 27 سبتمبر 1986

وفيما كانت "القوات اللبنانية" تنكفئ وتتصدع ويذوي مشروعها البشيري، بدأ "حزب الله" مسيرته الخلاصية الكبرى. وهناك من يقول إن "قوات" بشير الجميل وإسرائيل هما من مهد الأرض الخراب التي نشأ عليها وترعرع فيها "حزب الله". فإسرائيل في عقيدة إيران الخمينية والخامنئية و"حزب الله"، ليست سوى "عدو وظيفي" أو "وظائفي" تتوسله طهران وتنافسه لإخضاع المشرق العربي.

أخيرا هناك شبه بين "القوات اللبنانية" البشيرية و"حزب الله": عبادتهما شخص القائد الأسطوري الملهم والخارق، شبه المقدس دنيويا في الحالة البشيرية، ودنيويا ودينيا وإلهيا في حالة حسن نصرالله.

ألا يمكن القول في الختام: "لا تموت العرب إلا متوافية"؟

font change

مقالات ذات صلة