رؤية ترمب للشرق الأوسط... والمواجهة الإسرائيلية - الإيرانية

التعاون البرغماتي في مواجهة التهديدات الأمنية

إدواردو رامون
إدواردو رامون

رؤية ترمب للشرق الأوسط... والمواجهة الإسرائيلية - الإيرانية

الرئيس دونالد ترمب ليس محللا سياسا ولا خبيرا استراتيجيا، فهو يتخذ قراراته بسرعة، وقد يعدلها أحيانا بالسرعة نفسها، ونادرا ما يسير على نهج مستقيم. ومع ذلك، فقد أتاح خطابه في الرابع عشر من مايو/أيار في الرياض لمحة عميقة عن رؤيته للشرق الأوسط، وما يحبّذ من تكتيكات وما يرفض منها. وقد استند في خطابه هذا في مايو 2025 إلى أفكار كان قد طرحها قبل ثمانية أعوام في الرياض، وتحديدا في مايو 2017، حين دعا إلى سياسة أميركية في المنطقة تقوم على "الواقعية المبدئية".

سعى كل من الرؤساء باراك أوباما، وجو بايدن، ودونالد ترمب، إلى تقليص التدخل العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، في استجابة لموجة الاستياء الشعبي الواسعة التي عمّت أميركا من حروب إسقاط الأنظمة التي قادها جورج دبليو بوش في العراق وأفغانستان. ولئن تحدث أوباما وبايدن عن أهمية تعزيز حقوق الإنسان، فإن أوباما في ولايته الثانية، ثم بايدن لاحقا، لم يواصلا الضغط من أجل الإصلاح الديمقراطي في المنطقة.

أما ترمب فقد صرّح علنا في خطابيه عامي 2017 و2025 بما لم يصرّح به أوباما وبايدن، مشددا على تجاوزه للأيديولوجيا الليبرالية، وهو ما يتجلّى بوضوح في تعامله مع سوريا وإيران اليوم.

واقعية بلا مبادئ ليبرالية

عام 2017، قال ترمب في خطابه في الرياض إن استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تقوم على تحقيق الأمن من خلال تعزيز الاستقرار. ووعد بأن تتجنب واشنطن "التدخلات المفاجئة" التي تُحدث "اضطرابات جذرية" في إشارة واضحة إلى حروب تغيير الأنظمة، التي كان حزبه الجمهوري قد دعمها بقوة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول. وفي كلمته الشهر الماضي في الرياض، انتقد ترمب الرؤساء الأميركيين الذين أرادوا للسياسة والجيش الأميركيين أن يعملا على "تحقيق العدالة لمعاقبة القادة الأجانب على خطاياهم".

وتجاوز ترمب ذلك في تصريحاته عام 2025، داعيا ليس فقط إلى ضبط النفس عسكريا، بل أيضا إلى تجنّب التدخل السياسي. لقد سبق أن قال باراك أوباما في خطابه عام 2009 في جامعة القاهرة، إن الولايات المتحدة لا يمكنها ولا ينبغي لها أن تفرض نظام حكم على أمة أخرى، ولا يحق لها أن تعتقد بأنها تعرف ما هو الأصلح لشعوب العالم. ولكنه، في أقل من عامين، طالب ثلاثة رؤساء بالتنحي: أولا حسني مبارك، ثم معمر القذافي، وبشار الأسد. وأيضا في 2009، أكّد أوباما أن واشنطن لا يجب أن تفرض نتائج الانتخابات في المنطقة، لكن نائبه جو بايدن تدخل في العراق في 2010 لدعم نوري المالكي، لولاية ثانية كرئيس للوزراء في العراق خلال مفاوضات صعبة بين الكتل المتنافسة بعد انتخابات متقاربة.

وانتقد الرئيس في الرياض الشهر الماضي "الخبراء ودعاة التدخل" الأميركيين الذين سعوا إلى بناء دول ديمقراطية دون أن يفهموا مجتمعات المنطقة، أو كيفية بناء أنظمة سياسية واقتصادية فعالة. وكان قد أكد في 2017 أن إدارته ستتجنب الأيديولوجيات الليبرالية الجامدة، وستسعى لتحقيق نتائج عملية مستندة إلى الخبرة، وليس إلى التفكير العقائدي. وفي 2025، ألغى ترمب ووزير خارجيته ماركو روبيو الكثير من البيروقراطيات الضخمة داخل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ووزارة الخارجية، إضافة إلى شركات الاستشارات العاملة في مجال بناء المؤسسات والديمقراطية، ما تسبب في فقدان آلاف الموظفين وظائفهم.

شدّد ترمب على أن الإصلاحات التدريجية أفضل من "الاضطرابات الجذرية" وامتدح دول الخليج التي سلكت طريق "المجتمعات الآمنة والمنظمة مع توسيع الحريات الشخصية" مؤكدا أن هذا التطور، لم يكن نتيجة توجيه أميركي

وفي 2017، شدّد ترمب على أن الإصلاحات التدريجية أفضل من "الاضطرابات الجذرية" وبعد ثماني سنوات عزف على الوتر نفسه عندما امتدح دول الخليج التي سلكت طريق "المجتمعات الآمنة والمنظمة مع توسيع الحريات الشخصية"، مؤكدا أن هذا التطور لم يكن نتيجة توجيه أميركي، بل نتيجة قرارات اتخذتها تلك الدول الخليجية بنفسها. وأشار إلى أن النتيجة هي دول مستقرة، تشهد نموا اقتصاديا وتزخر بالفرص، مما يجعلها شركاء أقوياء لواشنطن في مساعيها الرامية إلى ضمان الأمن، والمصالح التجارية المشتركة.

الواقعية وسوريا

وقد يكون أفضل تجسيد لمبدأ ترمب، القائم على ضبط النفس والواقعية، في التعامل مع الملف السوري. لقد كان ترمب هو نفسه من أوقف مع بداية ولايته الأولى، في يونيو/حزيران 2017، برنامج "وكالة الاستخبارات المركزية" (سي آي إيه) الفاشل لتسليح جماعات "الجيش السوري الحر"، بعد أن تمكنت "جبهة النصرة" بزعامة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) من السيطرة في مناطق كثيرة بمحافظتي إدلب وحلب على الجماعات المتمردة المدعومة من الولايات المتحدة، وأخضعتها لهيمنتها. وفيما كان البرنامج الأميركي يتّسم بالبطء، كان شركاؤه في "الجيش السوري الحر" أكثر اهتماما بجني المال من قتال جيش النظام، بينما أظهر الشرع ومقاتلوه التزاما أكبر بمواجهة الأسد، ودرجة أقل من الفساد.

في يونيو 2017، أقرت واشنطن في عهد ترمب بالهزيمة. وفي مايو 2025، صافح ترمب الشرع، في إشارة واضحة إلى استعداده للتغاضي عن ماضيه ضمن تنظيم "القاعدة". وقد صرّح ترمب بأن الشرع "يمتلك ماضيا قويا"، وقد لا يكون ترمب على دراية كاملة بالتكتيكات الدقيقة التي استخدمها أحمد الشرع لهزيمة الفصائل المدعومة من "وكالة الاستخبارات المركزية" أولا، ثم الإطاحة بنظام الأسد لاحقا. ولكنه يدرك مع ذلك أنه لا يمكن لأي مسؤول أميركي أو خبير، فهم كيفية الانتصار في سوريا أفضل من شخص مثل الشرع نفسه. ولذلك لم يتوانَ في الثناء على الشرع بوصفه قائدا فعّالا، واستخدم تعابيره المألوفة في الإعجاب مثل "مقاتل" و"صلب" و"شاب".

بدلا من السعي لإدارة عملية الانتقال الأمني في سوريا، تبدو واشنطن مستعدة لترك الشرع يصوغ حلا تدريجيا وفقا لشروط سورية

وإذا كان ترمب يعلم أن الجيش الأميركي سبق أن احتجز الشرع، لما يقرب من خمس سنوات في معتقل بوكا بالعراق– وهي فترة نسج خلالها علاقات مع مقاتلين جهاديين آخرين– فإنه سيعتبر ذلك على الأرجح مثالا آخر على أخطاء أميركا في حروب لم تفهمها أبدا. ويعزز قبول إدارة ترمب بقيام دمشق بدمج مقاتلين أجانب من "الحزب الإسلامي التركستاني" في صفوف الجيش السوري هذا النهج القائم على عدم التدخل المباشر. فبدلا من السعي لإدارة عملية الانتقال الأمني في سوريا، تبدو واشنطن مستعدة لترك الشرع يصوغ حلا تدريجيا وفقا لشروط سورية.

تغيير النبرة في واشنطن

ويتجلّى التوجه الجديد لواشنطن، القائم على التركيز على الاستقرار، في تغير النبرة بشأن سوريا بأوضح أشكاله في مواقف ماركو روبيو، الذي يعد الشخصية الأبرز في السياسة الخارجية ضمن فريق ترمب. ففي جلسة الاستماع لتثبيته في ديسمبر/كانون الأول 2024 أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، أشار روبيو إلى أن العقوبات على الحكومة السورية، يمكن أن تُستخدم لضمان الأهداف الأميركية المرتبطة بحقوق الأكراد والأقليات الأخرى.

وفي اتصال هاتفي في 23 يناير/كانون الثاني، حث روبيو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تشجيع الشرع على تشكيل حكومة "شاملة" في دمشق، مواصلا بذلك سياسة إدارة بايدن الهادفة إلى ضمان مشاركة النساء والأقليات السورية في السلطة. بيد أنه دافع في مايو عن قرار ترمب بمنح إعفاء مؤقت من العقوبات، مبررا ذلك بأن سوريا مهددة بالانزلاق إلى حرب أهلية جديدة، وموجات من عدم الاستقرار.

وبدلا من التركيز على حقوق الإنسان والحقوق السياسية للأقليات في سوريا، تركز إدارة ترمب على قضايا الأمن، مثل طرد الجماعات الإرهابية الفلسطينية والمقاتلين الأجانب، ومعالجة أوضاع المخيمات التي تضم معتقلي تنظيم "داعش" في شرق سوريا، ودمج "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، التي قادت المعارك ضد "داعش"، في الجيش السوري الجديد.

وعندما عيّن ترمب رجل الأعمال توماس باراك، سفير الولايات المتحدة لدى تركيا، مبعوثا خاصا له إلى سوريا، قال إن واشنطن وأنقرة يمكنهما التعاون لـ"وقف التطرف" وتأمين السلام في الشرق الأوسط. وفي حفل توقيع اتفاقية لإعادة بناء قطاع الكهرباء في سوريا في 28 مايو، صرّح باراك بأن هذه الصفقة متعددة الجنسيات تمثل النموذج الذي يسعى ترمب إلى تعميمه في المنطقة، من خلال التركيز على التعاون والنمو الاقتصادي.

وبالطبع، يأمل فريق ترمب أن تُوقّع دمشق في نهاية المطاف اتفاق سلام مع إسرائيل، وتنضم إلى "اتفاقيات إبراهام"، في إطار رؤيته لشرق أوسط يرتكز على الصفقات التجارية بين الدول القائمة.

الواقعية وضبط النفس وإيران

وبرز تركيز ترمب على البرغماتية في استراتيجيته للشرق الأوسط بوضوح أيضا، من خلال تصريحاته عن إيران خلال خطابه في الرياض، حين شدد على أنه، بخلاف الكثير من المحافظين الأميركيين، لا يحمل عداوات دائمة، وأنه لا يريد إسقاط النظام الإيراني، بل يريدهم "أن يكونوا دولة ناجحة" وعبّر عن رغبته الحقيقية في التوصل إلى اتفاق تفاوضي مع طهران لحل الخلافات "العميقة" ولكنه أوضح– مع ذلك– أنه لن يسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي، يمكنها من تهديد واشنطن أو حلفائها بالإرهاب أو الهجمات النووية.

كما حذّر ترمب من أن الوقت المتاح للتوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، يوشك على النفاد. وتباهى في خطابه بالقوة العسكرية الأميركية، ملمّحا إلى أن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدامها إذا اقتضت الحاجة لوقف البرنامج الإيراني، وإن كان يفضل ضبط النفس والابتعاد عن الخيار العسكري، كما بدا في خطابه، حين ركّز بصورة أكبر على العقوبات الاقتصادية المشددة، ولا سيما السعي إلى خفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر، بدلًا من اللجوء إلى العمل العسكري.

رويترز
دخان يتصاعد من مطار تبريز في إيران، 13 يونيو 2025

ومن اللافت أن ترمب اعترف في نهاية مايو بأنه نصح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعدم توجيه ضربات إلى المنشآت النووية الإيرانية خلال فترة المفاوضات. ويتفق ترمب ونتنياهو على أن إيران أصبحت أضعف من العام الماضي، إلا أنهما يختلفان فيما إذا كان الوقت قد حان لاستخدام القوة العسكرية بدلًا من الاعتماد على أساليب الضغط الأخرى.

تجدر الإشارة إلى أن ترمب وروبيو تنصّلا بشكل علني من الهجوم الإسرائيلي على إيران يوم 12 يونيو/حزيران، في خطوة تعكس تراجع واشنطن عن لعب دور مباشر، وقبولها بأن تتصرف إسرائيل من دون موافقة أميركية رسمية. وقد أكد روبيو أن الولايات المتحدة لم تكن طرفا في هذا الهجوم.

ويعكس هذا الموقف جانبا من فلسفة ترمب المبنية على مبدأ "أميركا أولا" والواقعية السياسية، والتي تقوم على فكرة أن على الحلفاء، مثل إسرائيل أو الدول الأوروبية، تولّي مسؤولية أمنهم ومعالجة تحدياتهم الاستراتيجية من دون الاعتماد على تدخل أميركي مباشر.

عقيدة ترمب تشبه سياسة ريتشارد نيكسون

لا ينبغي أن تُغطي زيارة ترمب إلى الخليج في مايو على أولوياته الكبرى المتمثلة في التجارة والاقتصاد الأميركي والتنافس مع الصين تجاريا وعسكريا. وهو يشبه في ذلك الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، الذي كان يولي مثل هذا التركيز لآسيا، خلال سنوات الحرب في جنوب شرقي آسيا، ولا سيما فيتنام.

أكد ترمب على مدى ارتياحه للعمل مع دول الخليج، وخصوصا السعودية، وأظهر اهتماما أكبر بآراء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، معترفا بأن مخاوف هذه الدول أثرت مباشرة في قراراته بشأن سوريا

وبالفعل، تحمل استراتيجية ترمب عناصر تُذكّر بسياسة نيكسون في الشرق الأوسط. فقد اختار نيكسون ومستشاره هنري كيسنجر في السبعينات كلا من إيران الشاه، والمملكة العربية السعودية، كركيزتين للدفاع الإقليمي. وبعد ستة عقود، أكد ترمب على مدى ارتياحه للعمل مع دول الخليج، وخصوصا السعودية، وأظهر اهتماما أكبر بآراء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، معترفا بأن مخاوف هذه الدول أثرت مباشرة في قراراته بشأن سوريا.

وكما فعل نيكسون، أكد ترمب أن واشنطن ستساعد في الدفاع عن حلفائها ضد أي عدوان خارجي. وإذا كان نيكسون يرى في الاتحاد السوفياتي التهديد الأكبر، فإن ترمب يرى ذلك التهديد في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ويشارك ترمب وفريقه نيكسون وكيسنجر الرغبة بأن تتحمل دول المنطقة مسؤولية أكبر في الدفاع عن نفسها، غير أن ترمب يذهب أبعد من ذلك، إذ يعتبر صفقات الأسلحة وزيادة الأرباح التجارية جزءا من المصلحة الوطنية الأميركية.

وتقوم رؤية ترمب للشرق الأوسط على التعاون البرغماتي في مواجهة التهديدات الأمنية الخارجية والتطرف الداخلي، ودمج إسرائيل في الترتيبات الأمنية والاقتصادية الإقليمية من خلال توسيع "اتفاقيات إبراهام". وقد عكس اختياره لدول الخليج كأول وجهة خارجية له هذه الرؤية.

بطبيعة الحال، لا يمكن مقارنة دول الخليج بمواردها الهائلة ببعض أجزاء الشرق الأوسط الأخرى. فطريق الاستقرار و"المجتمعات المنظمة" يظل غير واضح في دول مثل ليبيا واليمن، ويبدو أكثر تحديًا في سوريا ولبنان والعراق. كما لم توضح إدارة ترمب بعد مكانة القضية الفلسطينية ضمن رؤيتها الأشمل. غير أن ترمب يبدو مستعدا للإصغاء إلى قادة الخليج وتركيا في رسم خطواته التالية، ربما أكثر مما يصغي إلى المحللين الحكوميين الأميركيين الذين لا يثق بهم ويبدو أنه يحتقرهم.

font change

مقالات ذات صلة