من جانبها، أدركت إيران أهمية إرسال إشارات تدل على استعدادها للحوار مع الإدارة المقبلة. فبعد أيام من فوز ترمب في انتخابات عام 2024، ظهرت تقارير تفيد بأن سفير إيران لدى الأمم المتحدة، أمير سعيد إيرواني، التقى مع إيلون ماسك. ولعل طهران قد وجدت في ماسك قناة فعالة للتواصل مع الإدارة الجديدة، على عكس الكثير من صقور السياسة الإيرانية الذين كان متوقعا أن يشغلوا مناصب بارزة في مجالي الأمن القومي والسياسة الخارجية. وتتماشى هذه البادرة مع التصريحات العلنية للرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان، الذي انتُخب في منتصف عام 2024، حين أعلن خلال حملته استعداده للتفاوض مع ترمب في حال عودته إلى السلطة.
وسرعان ما أصبح جليا أن الرئيس ترمب سيمنح الأولوية للمسار الدبلوماسي. وفي حينها، رأت إسرائيل في هذا التوجه إزعاجا أكثر منه عقبة جوهرية. فالإدارة الجديدة، من منظور تل أبيب، تمتلك الوسائل الكفيلة بإجبار إيران على قبول اتفاق أشمل بكثير من "خطة العمل الشاملة المشتركة" التي حملت اسما مضللا، في إشارة إلى الاتفاق النووي المبرم عام 2015. ومن وجهة النظر الإسرائيلية، يجب أن يشمل هذا الاتفاق تفكيكا كاملا للبرنامج النووي الإيراني، ناهيك عن معالجة قدرات طهران في مجال الصواريخ الباليستية وشبكتها الواسعة من الوكلاء الإقليميين.
وفي الأسابيع الأخيرة، أشار نتنياهو إلى "النموذج الليبي" كإطار محتمل لأي اتفاق مع إيران، وكان ذلك إشارة إلى اتفاق عام 2003 الذي تخلى بموجبه الزعيم الليبي معمر القذافي عن برنامجه النووي الوليد. إلا أن مصير القذافي لاحقا قد يكون أحد الأسباب التي تدفع إيران إلى عدم التفكير جديا في مثل هذا الترتيب.
هل كانت فرص التوصل إلى اتفاق وفق تلك المعايير ضئيلة؟ بالتأكيد. غير أن إسرائيل والولايات المتحدة كانتا ستجدان نفسيهما– مع مرور الوقت وفشل المسار الدبلوماسي– مستعدتين لتوجيه ضربة عسكرية تستهدف وتدمر البرنامج النووي الإيراني. وإذا نجح ترمب، بما يشبه "معجزة من معجزات فن الصفقات"، في إقناع إيران بالقبول بتلك الشروط، فإن ذلك سيمثل نصرا غير مسبوق.
الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، يستعرض معدات الجيش برفقة قادة القوات المسلحة خلال العرض العسكري بمناسبة يوم الجيش الوطني، إيران، 18 أبريل 2025
وفي كلا الاحتمالين، كانت النتيجة المرجوة واحدة: تراجع النفوذ الإقليمي الإيراني وتضاؤل قدرتها على استغلال الحروب الأهلية والفوضى المنتشرة في المنطقة، وهي التي ساهمت في خلق الكثير منها. وإذا وجدت إيران نفسها عاجزة عن تعويض هذا التراجع من خلال التهديد بالتحول إلى دولة نووية، فإنها ستغدو معزولة ومنزوعة السلاح.
وتتشابه هذه الاستراتيجية، في كثير من جوانبها، مع تلك التي تبناها الدبلوماسي الأميركي جورج كينان خلال الحرب الباردة تجاه الاتحاد السوفياتي: احتواء إيران، ومواجهتها عند كل مفترق، ومنعها من توسيع نفوذها الخارجي، إلى أن تُجبر في نهاية المطاف على التعامل مع مشكلاتها الداخلية العميقة. وتتنوع هذه المعضلات ما بين صراع داخلي محتدم داخل قيادة متأزمة، إلى تصاعد المعارضة في معظم شرائح المجتمع الإيراني ضد نظام بات يعتمد على القمع أكثر من أي وقت مضى، بعدما فقد الكثير من شرعيته.
مفاجأة ترمب
تنص القاعدة الأولى في المعارك على أن أي خطة لا تصمد أمام أول احتكاك مباشر مع العدو، ولم تكن المحادثات الجارية مع إيران استثناء. فقد حولت الجولتان الأوليان من المفاوضات، اللتان عُقدتا في أبريل/نيسان، شعورا غامضا بالقلق وعدم اليقين لدى إسرائيل بشأن نوايا ترمب إلى مصدر قلق واضح ومتزايد.
ينبع هذا التوجس من عاملين رئيسين. أولا، لا يبدو أن الرئيس ترمب لديه رغبة تُذكر في اللجوء إلى الخيار العسكري ضد إيران. إذ أفاد تقرير حديث لصحيفة " نيويورك تايمز"بأن الرئيس رفض اقتراحا إسرائيليا لتوجيه ضربات ضد أهداف إيرانية. وعندما وُجه إليه السؤال مباشرة بشأن هذا التقرير، نفى رفضه للاقتراح، لكنه كرر أنه لا يرى داعيا للاستعجال في إصدار أمر بعملية عسكرية. وعند مراجعة تصريحاته الأخيرة، يتضح وجود موقف ثابت: العمل العسكري خيار أخير لا يُلجأ إليه إلا إذا تجاوزت إيران العتبة النووية.
ثانيا، يبدو أن إدارة ترمب قد خفّضت سقف مطالبها بشأن أي اتفاق محتمل، ما يشير إلى استعدادها لقبول صفقة قد تماثل أو حتى تقل عن اتفاق عام 2015 المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة. وحتى قبل انطلاق الجولة الأولى من المحادثات في سلطنة عُمان، توقف المسؤولون الأميركيون عن الإشارة إلى أنشطة إيران غير النووية، رغم وضوح تأثيراتها المزعزعة للاستقرار. ومن منظور إسرائيل، يُعد هذا الفصل بين الملفات خطأ فادحا: إذ ترى أن برنامج إيران النووي، ودعمها لوكلائها الإقليميين، وقدراتها الصاروخية والمسيّرة، مسائل مترابطة لا يمكن تناولها بمعزل عن بعضها.