"الربيع العربي".. من المستبد المستنير إلى المستبد الظلامي

"الربيع العربي".. من المستبد المستنير إلى المستبد الظلامي

[caption id="attachment_55244782" align="aligncenter" width="620"]شباب الثورة في مصر يتظاهر ضد حكم الإخوان المسلمين شباب الثورة في مصر يتظاهر ضد حكم الإخوان المسلمين[/caption]






نضرب على ذلك مثلا الروائي الشهير علاء الأسواني. فقد أصدر مؤخرا نصا جذابا على الطريقة الروائية يعبر فيه عن خيبة أمله في النظام الجديد للاخوان والرئيس مرسي (حوار غاضب في المقطم.جريدة المصري اليوم عدد 4.3.2013). ونلمح منه أنه لم يتغير شيء في مصر. بلى قد تغير: ولكن نحو الأسوأ والأخطر: فقد حلت ديكتاتورية دينية محل ديكتاتورية عسكرية. وبالتالي فأساليب قمع الناس ومراقبتهم ظلت هي هي أو ربما تفاقمت. الفرق الوحيد هو أن أجهزة المخابرات التي تلاحق المتظاهرين السلميين أصبحت ملتحية أكثر فأكثر! ولكنها تمارس على قادة المتظاهرين وأتباعهم نفس أساليب التعذيب الجسدي في الأقبية السرية. بل وتنتهك كرامتهم الشخصية بشكل مخجل فيخرجون منها مذلولين، مكسورين الى الأبد. فجرأة النظام الإخواني على القتل أكبر بكثير، لاعتقاده بأنه يمتلك مشروعية فوق بشرية!

أعترف بأن حماسة علاء الأسواني للثورة حتى بعد أن ظهر واضحا أن الإخوان المسلمين سيقطفون ثمرتها أدهشتني وحيرتني. وعندئذ قلت بيني وبين نفسي: يمكن للمرء أن يكون روائيا كبيرا دون أن يكون مفكرا كبيرا بالضرورة. بلزاك ليس ديكارت ولا فولتير ولا جان جاك روسو.. نعم تساءلت: هل يعقل أن يكون هذا الكاتب المبدع ساذجا فكريا وسياسيا الى مثل هذا الحد؟ ألا يرى الى أبعد من أنفه؟ ألا يرى الى الخطر الزاحف والمصيدة التي وقعت فيها الثورة؟ ألا يرى أنها انقلبت على ذاتها وتحولت الى ثورة مضادة؟ ولكنه ليس الوحيد! مثقفون كثيرون آخرون وقعوا في نفس الفخ. فلماذا ألقي اللوم عليه وحده؟ يكفيه فخرا أنه استفاق وعاد الى معدنه الأصيل: مناضلا صلبا من أجل العدالة والحرية.

وذكرني عندئذ بالحسن بني صدر وبقية المثقفين اليساريين والليبراليين الإيرانيين الذين تحمسوا للخميني وفعلوا كل ما يستطيعون لكي يصل إلى سدة السلطة. وما ان وصل واستتبت له الأمور حتى نبذهم واحتقرهم، إن لم يكن سجنهم ونفاهم أو قل نفوا أنفسهم وهربوا. ومن لم يستطع الهرب في اللحظ المناسبة، دفع الثمن باهظا.. لنتفق على الأمور هنا: كلنا تحمسنا للثورات العربية إبان اندلاعتها الأولى، وأعجبنا بالشباب والشابات الذين دشنوها وفتحوا صدورهم عارية للخطر. كلنا أعجبنا بهذه الانتفاضات الربيعية العارمة ضد أنظمة هرمة وديكتاتورية. ولكن بعد أن تبين أن الإخوان ركبوا الموجة وصادروا الثورة خف حماسنا كثيرا بل وانقطع. أما بعض المثقفين الآخرين فقد ظلوا متحمسين على طول الخط، بل وربما انتخبوا الرئيس الاخواني خوفا من وصول أحمد شفيق الى سدة السلطة! وبالتالي فقد تأخروا في الاحساس بالخطر وتغيير موقفهم. كان ينبغي أن يحصل التعذيب الوحشي للثوار الذين دشنوا الثورة لكي يغيروا موقفهم. كان ينبغي أن يروا بأم أعينهم عودة الممارسات الاستخباراتية السابقة لكي ينقلبوا على الديكتاتورية الجديدة التي هي في طور التشكل والامساك بزمام الأمور بكل حزم وحسم.




ثورات رجعية لا تحريرية:
لماذا يمشي "الربيع العربي" بالمقلوب؟




ما هو سبب ذلك يا ترى؟ أعتقد أنهم لم يدركوا بما فيه الكفاية حجم الخطر الذي تمثله التنظيمات الدينية الأصولية. أعتقد شخصيا أن الكثيرين من المثقفين العرب، لا يعبأون بمسألة التنوير الديني والفلسفي. بل ويعتبرونها ثانوية. وهذا الأمر ينطبق على الحركيين السياسيين بالدرجة الأولى. بل وبلغ الخلل الفكري مبلغه وكذلك تشوش الرؤية عندما شبهوا الثورة المصرية بالثورة الفرنسية! هذا في حين أنها نسخة طبق الأصل تقريبا عن الثورة الايرانية. مثلما صلى الخميني بالإيرانيين وعاد مظفرا الى طهران، ألم يصلّ القرضاوي بالمصريين وعاد مظفرا أيضا الى ميدان التحرير؟ ولا عجب في ذلك فالشعوب الإسلامية كلها عربية كانت أم غير عربية، لم تتجاوز بعد المرحلة الدينية القروسطية كرؤية راسخة للعالم. ومعلوم أن أوغست كونت قسم الدرجات التي يمر بها الوعي البشري الى ثلاث مراحل: المرحلة الدينية الغيبية الاستلابية، فالمرحلة الميتافيزيقة التجريدية وهي أعلى منها بدرجة، وأخيرا المرحلة العلمية الوضعية وهي أعلى درجات الوعي والتطور البشري. وهي التي توصلت اليها مجتمعات أوروبا المتقدمة بعد انتصار التنوير والثورة الفرنسية وهزيمة الأصولية المسيحية بشكل مؤكد لا مرجوع عنه. أين نحن من كل ذلك؟ هيهات! هم يدشنون ثورات تقطع مع الماضي المتخلف وتقذف بهم الى الأمام، ونحن نقوم بثورات ترجع بنا إلى الوراء!

[caption id="attachment_55244784" align="alignleft" width="300"]تونس.. خلافات داخل تيارات الإسلام السياسي تونس.. خلافات داخل تيارات الإسلام السياسي[/caption]

لقد خدعتنا بدايات الثورة العفوية الرائعة والعارمة، حيث لم يكن الإخوان قد التحقوا بها بعد فظننا أنها مدنية، حديثة، تحريرية. ولكن ما ان التحقوا بها بعد عدة أيام من اندلاعها، حتى أصبح واضحا أنها لن تكون ثورة تحريرية، وإنما ارتكاسية لاهوتية ثيوقراطية. والآن أصبحنا نلوم أميركا لأنها عقدت صفقة مع الأخوان على ظهر الثورة والثوار الحقيقيين.




لماذا تدعم أميركا الإخوان المسلمين؟




انظروا بهذا الصدد تلك الرسالة المهمة التي وجهتها الإعلامية المحترمة جميلة اسماعيل الى الوزير جون كيري، أثناء مروره الأخير في القاهرة. والسيدة المذكورة مثقفة قيادية في حزب الدستور، الذي يرأسه الأستاذ محمد البرادعي. لا ريب في أن كلامها دقيق واتهاماتها للسياسة الأميركية صحيحة. وأنا موافق عليها مائة في المائة. ولكن كان ينبغي أن توجه لومها أولا الى الليبراليين واليساريين المصريين، الذين صوتوا لمرشح الاخوان لكي يقطعوا الطريق على مرشح الفلول! ثم هناك نقطة أساسية لا يدركها الكثير من المثقفين المصريين والعرب: وهي أن المسؤولين الغربيين من كيري وسواه يعرفون جيدا أن جماهير الشعب عندنا لا تزال ذات حساسية اخوانية - سلفية. انهم يعرفون مستوى شعوبنا والعقلية التي تسيطر عليها عموما.

بل ويعرفون أن قسما كبيرا من مثقفينا لا يزالون ذوي حساسية إخوانية قليلا أو كثيرا، بشكل ظاهر أو مبطن! علاوة على ذلك فهم يعلمون جيدا أن للأصولية الدينية هيبتها وقداستها العظمى في مجتمعاتنا على عكس مجتمعاتهم هم. فقد تجاوزوا المرحلة الغيبية للوعي البشري منذ أكثر من قرن أو قرنين. وهي مسافة التفاوت التاريخي بيننا وبينهم. أقول ذلك على الرغم من أن أميركا لا تزال متدينة أكثر بكثير من أوروبا الغربية. بل وهناك شرائح أصولية مسيحية قوية في ولاياتها الجنوبية على وجه الخصوص. ولكن نظامها مدني علماني لا ريب فيه. أيا يكن من أمر فأي تنظيم سياسي يعرف كيف يستغل المشاعر الدينية لصالحه ويضرب على وترها، أي تنظيم يعرف كيف يتحدث باسمها ويتقن معجمها التقليدي من التسبيح والترتيل سوف يربح الانتخابات بشكل أتوماتيكي. هذا أمر مؤكد. الشعب يضع ثقته في رجل الدين ولا يمكن أن يتخيل أنه قد يغش أو يكذب أو يخادع أو يعذب الشباب ويكسر أضلاعهم اذا لزم الأمر.

لكن لأعد الى الوزير جون كيري. بما أن العقلية الأميركية تسيطر عليها الفلسفة البراغماتية الذرائعية، فإنهم يتعاملون معنا على قدر أفهامنا ومستوانا المعرفي. إنهم لا يتعاملون مع الشعب المصري كما يتعاملون مع الشعب الفرنسي أو الألماني أو السويسري. لكي مقام مقال! عفوا أعتذر عن كل هذه الصراحة الفجة، ولكن هذه هي الحقيقة. المسؤول الأميركي يريد أن يتعامل مع نظام قوي مستقر ذي قاعدة شعبية مؤكدة. وهذه هي حالة الإخوان والسلفيين في كل أنحاء العالم العربي. ولكنها ليست حالة مبارك أو بن علي أو سواهما من الأنظمة المهترئة، التي اندلعت فيها الثورات والتي لا قاعدة شعبية لها. ولذلك تخلت عنها أميركا.

لقد تخلت عنها بعد أن استنفدت طاقتها ومشروعيتها، بعد أن تقلصت شعبيتها بشكل مخيف وأصبحت عالة عليها. وعندئذ قالت لماذا لا نجرب الاخوان اذا كانوا سيؤدون نفس الدور المطلوب من الأنظمة السابقة، ولكن بمصداقية أقوى ومشروعية أكبر بكثير؟ هنا تكمن انتهازية الغرب وبراغماتيته الذرائعية. لا يهمه ما سيحصل للقوى الليبرالية المستنيرة في الداخل من تعذيب وملاحقات. يهمه أن الرئيس الاخواني سينفذ السياسة التي يريدونها تجاه الغرب واسرائيل. وبما أن الاخوان يسيطرون على الجماهير الشعبية وليس النخب الليبرالية المثقفة، فلماذا لا نجربهم ولو لمرة واحدة؟ يضاف الى ذلك أن الاخوان هم القادرون على تحجيم "القاعدة" وسواها وليس الليبراليون المصريون أو العرب. لا يفل الحديد الا الحديد! شيخ واحد على الفضائيات أقوى من كل المثقفين العرب! من يمتلك الجامع يمتلك السلطة الروحية المقدسة. ومن يمتلك السلطة الروحية المقدسة يمتلك السلطة الزمنية الحقيقية والمخابرات والأجهزة . نقطة على السطر. كل الدلائل تشير الى أن الاخوان قبلوا بالصفقة. وهذا يعني أنهم سيطبقون سياسة مضادة لقناعاتهم، على المستوى الخارجي على الأقل. بل وحتى على المستوى الداخلي سوف يضطرون للتخلي عن الكثير من أطروحاتهم بعد أن يصطدموا بالواقع المر واكراهاته. وهذه أشياء لا يعرفها الإنسان وهو في المعارضة حيث ينشغل بالمزايدات الديماغوجية والكلام السهل.

وهنا يكمن مكر العقل أو مكر التاريخ كما يقول هيغل. التاريخ قد يتقدم من أبوابه الخلفية وليس فقط الأمامية. فلماذا اذن نلوم المسؤولين الغربيين على التعامل مع الواقع الموضوعي كما هو؟ لا أريد بهذا الكلام أن أبرر السياسة الأميركية في المنطقة، ولكن أريد أن أفهم فقط ما يحصل بالضبط. كان سبينوزا يقول عبارته الشهيرة: الأمر لا يتعلق بالضحك أو البكاء، وانما بالفهم. قبل أن ندين أو نستحسن، قبل أن نغضب أو نستنكر، لنحاول أولا أن نفهم. بمعنى آخر: ينبغي أن نفهم القوانين التي تتحكم في السلوك البشري وبالأخص الجماهير الشعبية. انظروا أطروحات غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجيا الجماهير" الذي نشرته "دار الساقي" في طبعة جديدة مؤخرا. إني أتعاطف تماما مع كلام السيدة جميلة اسماعيل، بل وأتبناه على المستوى الشخصي.


[caption id="attachment_55244785" align="alignright" width="300"]مرسي يقبل رأس مرشد الإخوان محمد مرسي مرسي يقبل رأس مرشد الإخوان محمد مرسي[/caption]

أكرر ذلك مرة أخرى. ولكن المشكلة هي أنه غير مسنود من قبل دعم شعبي يوازي شعبية الاخوان والسلفيين. لا ريب في أن الجماهير الليبرالية والتقدمية المستنيرة أثبتت وجودها في مصر وحظيت باعجابنا جميعا. بل وذهلت أنا لوجودها بمثل هذه القوة في الشارع. وكانت فرحتي عارمة ولم أكد أصدق في البداية ما أرى. إني أعتبر مجرد وجودها بمثابة الأمل لنا جميعا وليس فقط لمصر. إني معها قلبا وقالبا. ولكنها لا تزال أقل ضخامة من الجهة المضادة، لأنها لا تتمتع بحماية القبة اللاهوتية المقدسة للدين. أو قل انها ترفض أن تستخدم الدين كسلاح فعال في المعارك الفكرية والمناورات السياسية كما يفعل الاخوان والسلفيون. وهذا يعني أنه ينبغي علينا تثقيف الشعب وتنويره لكيلا يصوت للاخوان والسلفيين في كل مرة. وهذا ما فعله فلاسفة التنوير في أوروبا. ولذلك كسبوا المعركة وكانت الثورات التي دشنوها مدنية تحريرية لا دينية مسيحية أصولية.




ما معنى ربيع سياسي بدون ربيع ثقافي؟!




لكي أوضح كل ذلك سوف أقارن بين التجربة العربية والتجربة الاوروبية. فبضدها تتبين الأشياء. وسوف أنطلق من الأطروحة الأساسية التالية: وهي أن التغيير الفكري ينبغي أن يسبق التغيير السياسي وليس العكس. الربيع الفكري لم يحصل بعد عندنا فكيف يمكن أن يحصل الربيع السياسي؟ العربة قبل الحصان أم الحصان قبل العربة؟ وبالتالي فسبب فشل "الربيع العربي" يعود الى عدم انتصار التنوير الفكري على الظلامية حتى الآن. الإسلام الوسطي المستنير لم يتغلب بعد على المفهوم الاخواني السلفي للإسلام. هيهات! انه لايزال في بدايات براعمه الأولى. أما في أوروبا فقد حصل العكس تماما: التنوير الفلسفي والتفسير العقلاني للدين سبقا الثورات التحريرية الثلاثة: الانكليزية، فالاميركية، فالفرنسية. ولذلك كانت ثورات تقذف الى الأمام ولا تعود الى الخلف على عكس الثورة الايرانية قبل ثلاثين سنة وعلى عكس ثوراتنا اليوم أو الربيع المعكوس. فلاسفة اوروبا ومستنيروها ربحوا المعركة فكريا أولا ضد الاخوان المسيحيين قبل أن يربحوها سياسيا. وأما نحن فلم نربحها بعد ضد الإخوان المسلمين لا فكريا ولا سياسيا(سواء أكانوا اخوانا مسلمين سنة أم اخوانا مسلمين شيعة، لافرق). هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل.



لماذا ينفجر التاريخ العربي من الأعماق؟




ولكني سأضيف الى هذه الأطروحة أطروحة فلسفية أخرى لا تقل عنها أهمية، وهي أنه "لا بد دون الشهد من إبر النحل" كما يقول المتنبي، وكما يقول هيغل أيضا. وهذا يعني أن مجتمعاتنا دخلت في مرحلة هيجان كما تدخل الطائرة أحيانا في مرحلة اضطرابات جوية خطرة. فإما أن تنجو منها وتخرج أكثر قوة وتجددا وشبابا، واما أن يهلك الجميع. لقد دخلنا في مرحلة حروب أهلية ومجازر وحشية وتصفية حسابات تاريخية لها أول وليس لها آخر. وهي المرحلة التي عاشتها أوروبا المسيحية بين القرنين السادس عشر والسابع عشر على هيئة حروب ضارية كاثوليكية - بروتستانتية.. ومع ذلك فإني أدعو الى انقاذ ما تبقى عن طريق الحوار الأخوي بين ذوي النوايا الطيبة من كل الجهات. فهل يمكن أن ينتصر صوت العقل بعد كل ما حصل؟ أم أن حزازات التاريخ سوف تكتسح في طريقها كل شيء؟ "اذا ما كبرت ما بتصغر" يقول المثل العامي. وهذا هو لب فلسفة التاريخ الحديثة في الواقع. ينبغي أن يفرّغ التاريخ كل ما في أحشائه من تراكمات مكبوتة على مدار القرون كما تفرغ طبقات الأرض الجيولوجية أحشاءها عن طريق انفجار الزلازل والبراكين. وهذا ما يحصل بالضبط في العالم العربي حاليا.

لا يمكن فهم الانتفاضات (أكاد أقول الانفجارات) الحاصلة حاليا اذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار. ولا يمكن فهم الانبعاث القوي للعصبيات الطائفية – المذهبية أيضا. وقل الأمر ذاته عن الانتعاش القوي للجماعات الاخوانية – السلفية التي تعيش الآن عصرها الذهبي حتى لكأن التاريخ يمشي بالمقلوب. العالم كله يتحرر أكثر فأكثر من الأشكال الأكثر ظلامية وعدوانية للتدين، ونحن نعود اليها بكل شغف. ولكنها عودة اجبارية - بل وضرورية - يا سادتنا المتنورين! ينبغي أن ينفجر كل ذلك كالقنابل الموقوتة من تحت أعماق القرون لكي نستطيع تدشين بداية جديدة، لكي نستطيع فتح صفحة جديدة في مسار التاريخ العربي. ينبغي أن يتخفف هذا التاريخ من أثقاله وأحماله، من تراكماته ورواسبه، وإلا فإن الانطلاقة الصاروخية الموعودة لن تحصل.

كفانا وهما وسرابا. ان تجربة الأمم الأوروبية المتقدمة أكبر شاهد على ذلك. فهي أيضا فرغت كل ما في أحشائها من أحقاد لاهوتية طائفية مكبوتة عن طريق حروب مذهبية كاثوليكية – بروتسانتية طاحنة لا تبقي ولا تذر. هي أيضا كفرت علماءها ومثقفيها وأصدرت فتاوى بقتلهم كما فعلنا نحن بالأمس القريب مع شكري بلعيد. ثم استنارت أوروبا ولم يعد أي مثقف يخشى على نفسه اذا ما عبر عن أفكاره بصراحة، أو اذا ما انتقد التفسيرات القمعية الخاطئة التي ترتكب باسم الدين والدين الحق منها براء. وبالتالي فلا يمكن للاقلاع الحضاري العربي أن يحصل قبل تصفية هذه الحسابات التاريخية المؤجلة باستمرار. الى متى ستظل مؤجلة؟ الآن اندلعت المعركة على مصراعيها بين شطري الأمة (الليبرالي/ والأصولي) ولن تنتهي قبل غالب أو مغلوب. ولكن تصفية الحسابات التاريخية تعني حصول مجازر وآلام لا توصف. فالقديم المتراكم الراسخ لن يلفظ أنفاسه بسهولة. ولن يقدم لنا أي هدية مجانية. ينبغي أن ننزع شوكنا بأيدينا! أرجوكم اعطوني تفسيرا آخر لحركة التاريخ لكي أتبناه فورا.



من المستبد المستنير/ إلى المستبد الظلامي




من هذه الناحية فإن الديكتاتورية اللاهوتية أخطر بكثير من الديكتاتورية المدنية أو العسكرية. وأكبر دليل على ذلك ما يحصل في تونس ومصر حاليا. فمعارضة الديكتاتورية العسكرية تعني معارضة بشر في نهاية المطاف. صحيح أنهم متسلطون مستبدون، ولكنهم بشر ويقتلونك باسم ايديولوجيات بشرية. أما معارضة الديكتاتوريات اللاهوتية الثيوقراطية فتعني معارضة رؤوس معممة، ولحى طويلة مكثفة، توهمك بأن أصحابها معصومون يقفون فوق مستوى البشر، أو هكذا يخيل للبشر.. بل انها تعني معارضة الله ذاته وعصيان أوامره ونواهيه! وبالتالي فيصبح قتلك حلالا طيبا.. بل وتُقتل عندئذ مرتين: مرة لأنك قُتلت جسديا بالفعل، ومرة ثانية لأنك قُتلت معنويا بتهمة الكفر والزندقة. وهكذا حلت عليك اللعنة في الدنيا والآخرة! بل وربما لعنك حتى أهلك الأقربون لأنك مت كافرا وتستحق ما حصل لك.


[caption id="attachment_55244786" align="alignleft" width="300"]الغنوشي يقبل رأس الشيخ يوسف القرضاوي الغنوشي يقبل رأس الشيخ يوسف القرضاوي[/caption]

الأم كانت تقدم ابنها إلى الخميني هدية استشهادية لكي ينزع بجسده الغض الألغام. أو الابن كان يشي بأبويه الى الامام لأنهما غير متدينين، الخ.. هنا يكمن الفرق بين الاغتيال اللاهوتي/ والاغتيال السياسي. والسبب هو أن الرئيس الاخواني لا يحكم باسمه، وانما باسم الله ذاته أو هكذا يتوهم الجمهور الطيب البسيط: أي أغلبية الشعب.. الرئيس الاخواني يصلي كل يوم جمعة مع الجمهور المؤمن، وينتقل مباشرة من المسجد الى القصر الجمهوري! وهكذا يخلع على شخصه وحكمه مشروعية إلهية ضخمة لا تناقش ولا تمس. وهكذا يتحول الى نوع من الحاكم بأمر الله. وهذا هو معنى الديكتاتورية الدينية بالضبط. فهل سنترحم على ديكتاتورية حسني مبارك وزين العابدين بن علي عما قريب؟! متى ستنتهي سذاجتنا نحن المثقفين العرب المغفلين؟ متى سنقرر تدريس "فلسفة التاريخ" كمادة أساسية في كل الجامعات والمدارس الثانوية العربية؟





مكر العقل أو حيلة التاريخ




أستخدم كلمة حيلة هنا بالمعنى الإيجابي للكلمة، لا بالمعنى السلبي، وكذلك كلمة مكر. ففي القرآن الكريم مثلا تستخدم كلمة مكر بالمعنى الجيد للكلمة بل وتلصق بالله ذاته: "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين"(آل عمران.54). وذلك لأن مكر الله يهدف الى خير البشر، على عكس مكر الأشرار المعارضين للدعوة النبوية. المكر والحيلة هنا يهدفان الى خدمة المسار العام للبشرية السائرة نحو التقدم والحرية. وهذا هو المعنى الهيغلي للمصطلح. فهو يتطابق لدى هيغل مع العناية الالهية. ينبغي ألا ننسى أن هيغل كان لاهوتيا قبل أن يصبح فيلسوفا كبيرا. أيا يكن من أمر، فإن الإسلام السياسي القروسطي، سنيا كان أم شيعيا، يقدم لنا الآن أكبر خدمة اذ يكشف عن امكانياته ومحدودياته في آن معا. فلو أنهم ظلوا في المعارضة لظلت أسطورتهم حية في أعين الجماهير، بل ولتضخمت أكثر فأكثر. ولظل الشعب يتحسر على أنهم لم يحكموا حتى الآن لكي يحلوا له كل مشاكله دفعة واحدة عن طريق "تطبيق شرع الله". وبالتالي فكان يلزم أن يحكموا ولو لمرة واحدة، لكي يعرف الناس من هم بالضبط وما هي امكانياتهم. كان ينبغي أن يحكموا لكي نكتشف أن الاسلام كما يفهمونه هو المشكلة وليس الحل. وبهذه المناسبة أدعو القوى الليبرالية الديمقراطية الى التحالف مع التيار العقلاني المعتدل في الحركة الاسلامية بغية تحييد التيار المتطرف.

هذا التحالف مشروع تكتيكيا ولا غبار عليه لأنه يخدم قضية التقدم. ثم انه يساعد على انبثاق حزب ديمقراطي اسلامي يوما ما تماما كالأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا.
الاسلام هو تراثنا الكبير العظيم وسيبقى. ولكن تفسيره سيختلف في عصر الحداثة والعولمة الكونية. التفسير الجامد القديم لن يستمر الى الأبد. التفسير الاخواني السلفي مرشح للزوال. نحن دخلنا الآن مرحلة صراع التفاسير: أي معركة التفسير العقلاني المستنير لرسالة القرآن والاسلام ككل/ ضد التفسير التكفيري الظلامي. أقصد تفسير محمد أركون أو عبد المجيد الشرفي مثلا/ ضد تفسير الغنوشي والقرضاوي. هذا ناهيك عن الظلاميين بشكل مطبق تماما والذين هم على يمين الغنوشي والقرضاوي.

هذه المعركة الفكرية لا مندوحة عنها، ولا يمكن تحاشيها بأي شكل اذا ما أردنا أن نخرج من المغطس الذي وقعنا فيه.. كفانا تأجيلا للمشكلة الأساسية المركزية! نحن لسنا ضد الاسلام ككل لأننا جزء لا يتجزأ منه مثلما كان ابن رشد قاضي القضاة في قرطبة جزءا لا يتجزأ منه. نحن فقط ضد التيار المتطرف الذي يكره الفلسفة والذي يشكل حاضنة اجتماعية واسعة للتكفير والاغتيال. ولولا هذه "الحاضنة" الاجتماعية السلفية - الاخوانية لما حصل اغتيال شكري بلعيد مؤخرا. وبالتالي فهي المتهم الأساسي والمسؤول الأول عن هذه الجريمة النكراء.

أخيرا سوف أقول بأن الأنوار الفكرية لا يقدر الناس ثمنها الا بعد أن يمروا بدياجير الظلمات. نعم لولا تجربة الاسلام السياسي، لولا وصوله الى السلطة وتهديده للحريات العامة وحقوق المرأة، لظل هذا الفكر المتحجر القديم مسيطرا على العقول الى أبد الآبدين. شكرا اذن للخميني والإخوان المسلمين!




شكري بلعيد ومحاكم التفتيش




لقد حاولوا اقناعنا أكثر من مرة بأن محاكم التفتيش محصورة بالمسيحية فقط، وبخاصة في مذهبها الكاثوليكي البابوي الروماني، ولا يمكن أن تحصل عندنا على الاطلاق. وبالتالي فنحن بريئون منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وهو كلام تبجيلي تنقضه الوقائع التاريخية ماضيا وحاضرا. فمسيرة التاريخ في كلا الدينين الكبيرين تبرهن لنا على أن الفهم الانغلاقي الخاطئ للدين يؤدي بالضرورة الى محاكم التفتيش والاكراه في الدين. بل ويؤدي الى اغتيال العلماء والمثقفين والمناضلين السياسيين. ولكنها تبرهن لنا أيضا عن طريق المقارنة أن محاكم التفتيش انتهت في أوروبا منذ زمن طويل بفضل انتصار الفهم المستنير للمسيحية على الفهم التكفيري الظلامي السابق. وآخر بلدين قاوما هذه الاستنارة العقلية كانا اسبانيا والبرتغال.

[caption id="attachment_55244787" align="alignleft" width="256"]شكري بلعيد شكري بلعيد[/caption]

ولذلك فإن محاكم التفتيش استمرت فيهما حتى القرن الثامن عشر. بل واستمرت الأصولية الدينية - السياسية القامعة لحرية الفكر والسياسة حتى سقوط فرانكو وسالازار وانتصار الديمقراطية حوالي عام 1970 -1975.. نقصد بمحاكم التفتيش هنا محاسبة الناس على ضمائرهم الداخلية وما تخفي الصدور. ثم اتهامهم في ايمانهم وعقيدتهم تمهيدا لإصدار الفتوى اللاهوتية القاطعة بتصفيتهم. نقول ذلك على الرغم من أن النص الديني يقول بأن الله هو وحده العليم بذات الصدور. وبالتالي فهو وحده الذي يحق له أن يحاسب الناس ويحسم أمر كفرهم أو ايمانهم يوم القيامة. ولا يحق لمخلوق على وجه الأرض أن يدعي امتلاك هذا الحق. ولكن رجال الدين والكهنوت في كلتا الجهتين تصرفوا وكأنهم يمثلون الله على الأرض، وبالتالي فيحق لهم أن يقرروا من هو المؤمن ومن هو الكافر. أصغر رجل دين يستطيع أن يكفرك بخمس دقائق في عصر الفتاوى العشوائية الذي نعيشه الآن. نعم لقد استغل رجال الدين هذا الموقع المتميز أيما استغلال بغية تصفية حساباتهم مع خصومهم الفكريين والعقائديين. وهذا ما يفعله الاسلام السياسي حاليا.

وعلى هذا النحو اتهموا العلماء والفلاسفة والمناضلين السياسيين بأنهم ملاحدة وكفار تمهيدا للقضاء عليهم. وهكذا نصّبوا أنفسهم أوصياء على ضمائر الناس كما فعل بابوات روما وكهنتها في العصور السابقة. وخالفوا بذلك تلك المقولة الشهيرة: لا كهنوت في الإسلام. ينبغي العلم بأن الفتوى الدينية سلاح فعال وفتاك في مجتمعات لا تزال ترزح تحت وطأة الأمية والجهل المطبق والهيمنة شبه المطلقة على عقلية الشعب البسيط. وهذه هي حالة المجتمعات العربية والاسلامية حاليا.

ولكنها لم تعد حالة أوروبا وكل الدول المتقدمة منذ زمن طويل. ضمن هذا الإطار الواسع ينبغي أن نموضع عملية الاغتيال الاجرامية التي طالت المناضل التونسي الشهيد شكري بلعيد. قلت "الشهيد" لأنه سقط شهيد الحقيقة
والحرية والايمان العميق بالله ومستقبل الشعب التونسي. فقد كان مسلما حقيقيا مثله في ذلك مثل غالبية الشعب التونسي، ومع ذلك قتلوه. لماذا قتلوه؟ لأنه كان يفهم الاسلام على حقيقته: أي كدين العقل والمنطق والاستنارة والتقدم، لا دين الجهل المطبق والتعصب الأعمى والشكليات الفارغة والاكراهات القسرية. لهذا السبب قلت وأقول باستمرار بأن الصراع الجاري حاليا ليس بين الإسلام/ والإلحاد على عكس ما يتوهم معظم الناس، ولا حتى بين الاسلام/ والعلمانية، وانما بين الاسلام/ والاسلام: أي بين اسلام العصر الذهبي/ واسلام عصر الانحطاط. نقطة على السطر.

شكري بلعيد كان مؤمنا حقيقيا لأنه كان يأخذ بجوهر الدين لا بقشوره السطحية على عكس التيار السائد حاليا بعد اندلاع "الربيع العربي". عندما كان الأصوليون في المعارضة يقتلون ويغتالون خصومهم الفكريين أو السياسيين. فما بالك بهم الآن بعد أن وصلوا الى سدة السلطة وأمسكوا بتلابيبها؟ انها عادة قديمة لديهم وليست جديدة. انظروا الى التنظيم السري أو الجهاز الخاص الذي اغتال عدة قضاة ورؤساء وزارات في مصر. بل وحاولوا اغتيال جمال عبد الناصر، ولكن العناية الالهية نجته من براثنهم. انظروا كيف يسحقون المتظاهرين في مصر حاليا ويرعبونهم عن طريق الميليشيات الاخوانية. ولذا فمن المتوقع أن يفعلوا بالمثقفين العرب ما فعله الخميني بالمثقفين الإيرانيين، عندما أخرس أصواتهم وشتتهم أيادي سبأ في كل بلدان العالم. محاكم التفتيش عادت في العالم العربي، وبقوة.

والواقع أنها لم تختف يوما ما لكي تعود. ولكنها الآن أصبحت في السلطة مباشرة من خلال هيمنة الاخوان المسلمين على ربيع عربي تحول فجأة الى عكسه: أي الى خريف أصولي قد يحرق الأخضر واليابس قاضيا على كل مكتسبات عصر النهضة، اذا ما استطاع. أقول ذلك وبخاصة أنه تزامن مع اغتيال هذا المناضل التونسي الكبير صدور فتاوى مقلقة في مصر تكفر حمدين صباحي ومحمد البرادعي، ولكن ليس عمرو موسى؟ وهذا يعني أن سيف ديموقليطوس، أصبح مسلطا فوق رؤوس جميع المثقفين الذي يرفضون الخضوع للأنظمة التفتيشية التي أخذت تخيم بظلها الثقيل على ربوع عالمنا العربي الكبير. ويخطئ من يظن بأن هذه القصة سوف تنتهي عما قريب. فلكي ينتصر اسلام العصر الذهبي على اسلام عصر الانحطاط، يلزمنا مرور سنوات طويلة ومعارك فكرية يشيب لهولها الولدان.

المستقبل حتما للشعب التونسي ولقادته المستنيرين المخلصين، سواء أكانوا اسلاميين أم علمانيين. ولكن التنوير العربي الاسلامي لا يزال في بدايات بداياته. أكاد أقول بأنه لم يبتدئ بعد! سمعت بأن حزب الغنوشي أصبح يهدد شيخ المفكرين العرب الأستاذ محمد الطالبي. وقرأت مؤخرا أنهم سيجرون الروائي والمفكر المبدع يوسف زيدان الى المحاكم بتهمة ازدراء الأديان! أليست هذه محاكم تفتيش؟ والحبل على الجرار..(انظر المقابلة الممتعة معه في الشرق الأوسط/الملحق الثقافي الأسبوعي/10 مارس/ آذار 2013).

لكي أوضح كل هذه الاشكاليات سوف لن أتحدث من فراغ. وإنما سأتحدث عن تجربتي الشخصية مع التنوير منذ أن كانت قدماي قد وطأتا الأرض الفرنسية قبل خمسة وثلاثين عاما. فأنا لم أنتظر وصول الأصوليين الى السلطة لكي أهتم بهذه القضايا وأجعلها شغلي الشاغل. إنها في مركز اهتماماتي منذ عقود.. وسوف أنطلق من المبدأ التالي: ما ينطبق على الفرد ينطبق على الشعوب. فما هي قصة التنوير الأوروبي يا ترى؟ ولماذا نجحوا هم في انطلاقتهم الحضارية، وخرجوا من قفص الأصولية المسيحية وفشلنا نحن؟
font change