الرواية العربية أنقذتها الصحراء وهزمها الواقع

الرواية العربية أنقذتها الصحراء وهزمها الواقع

[caption id="attachment_55246722" align="aligncenter" width="621"]الاديب الليبي إبراهيم الكوني الاديب الليبي إبراهيم الكوني[/caption]

تعاملنا، في السابق، مع الانحياز للنص الأدبي، على أنه آيديولوجيا يتّسق في نظامها المعرفي كل منتجي النص الأدبي. وكنا نعتبر الأمر من قبيل أن لا أحد يقول عن زيته إنه عكر! على حد التعبير الشامي. لكن، وبحق، والآن خاصة، وفي مثل التحولات التي يمر بها عالمنا العربي، لا نستطيع إلا أن نردد مع مارسيل بروست مقولته الشهيرة: الحياة الحقيقية هي الأدب.

الواقع، في طبيعته الجدلية، يشكل تحديا متواصلا للغة، وكذلك يشكل قلقا معرفيا هائلا دفع بالبعض إلى هجرانه ولو على طريقة الصوفية، أو يدفع بالبعض إلى تجاهله كما هو، وذلك على طريقة منتجي النص الأدبي، بصفة عامة. حاولت بعض الأفكار النضالية أن تعطي للكائن بعدا عملانيا متواصلا بصفته نتاج هذا الكم الرهيب من الخبرات التي كدسها التضاد والصراع، ونجح هذا البعد حينا، إلا أنه فشل في نهاية الطريق. كان يجب أن ننصت أكثر لنهايات الشخوص في الروايات العظيمة والمملة. وكان يجب أن نحترم الخيار الانهزامي لـ«آجلايا» التي آثرت الإقامة الدائمة في كنيسة، كراهبة دفعها التحطم العاطفي والوقائع غير المنتظرة، في «الأبله» لديستويفسكي. ولم نفهم على هيرمان ميلفل في حوته الأبيض عندما قفل عمله الضخم والعظيم، والممل أيضا، بأن السفينة ستجوب البحار بحثا عن «إسماعيل» آخر. وكذلك، ومثلهما، مللنا مع مارسيل بروست، في تداعياته الطويلة والعنيفة والعميقة. أخطأنا في عدم احترام هذا الملل، ليتبين أن كل الروايات الضخمة مملة، بالقدر الذي تكون فيه عظيمة تثبت أن الحياة الحقيقية هي الأدب.

[inset_left]
ما لا يختلف عليه الاثنان، وغيرهما من صانعي الأدب والفن، هو أن الأدب «خلاص» حقيقي، وهو منتهى الأسئلة الفلسفية وأن الأدب هو الضوء في نهاية الطريق.[/inset_left]


كان القراء، ولا يزالون، يشتكون من طول مقدمة رواية «موبي ديك» أو «الحوت الأبيض» لهيرمان ميلفل التي تصل إلى 200 صفحة من التفاصيل المملة والتصوير المطوّل والتعريفات التي لا تنتهي للصناعات البحرية، لنكمل في النهاية الصفحات الألف للرواية العملاقة التي لا مثيل لها. كان يجب أن يتضجر القارئ، جوهريا. هذا التضجر هو هرب من نفسه وواقعه في المقام الأول. التضجر من تفاصيل هيرمان ملفل والتضجر من تفاصيل ديستويفسكي وكذلك مارسيل بروست وأيضا ديكنز وتولستوي. هذا الحق - التضجر - لا يمنحه الشعر للقارئ. الملل ممنوعٌ في الشعر. لكن في المقابل: النهايات العظيمة مفقودة في الشعر!
الشعر انتقائي، يختار اللحظات العاصفة ويرمي بالتفاصيل بعيدا. إنه يجمّع اللحظات غير المملة ويسكبها كلها في جملة. مثل السينما فهي واقعٌ سُحِبَت منه اللحظات المملة كما عبّر المخرج السينمائي الشهير هيتشكوك.

نفقد حق التضجر في أغلب الروايات العربية، فهي مليئة بالتفاصيل التي تشبهنا، كأن الروائي ناسخ صور أو مقلد ناجح للوجوه والأصوات. الرواية، في الأصل، تكشف هذه الفجوة الغامضة التي يجب أن لا تمتلئ أبدا: الضجر من شدة الفراغ الذي يعيشه هذا الكائن وهو يظن أنه اجتماعي بالضرورة. الرواية، هنا، تستدرك هذا الخطأ التقني وتعيد التذكير بالوحدة والعزلة وأن الآخرين مهما اجتمعوا وتهامسوا واتحدوا يظلون معزولين كجزر إنسانية حزينة ليس أمامها إلا أن تحس بالضجر. الضجر، هنا، هو الكشف المبكّر عن تلك المسافة الهائلة التي تفصل بين البشر. هذا الأمر نلتقطه، بصورة مباشرة، في رواية جيمس جويس المعروفة بـ«صورة الفنان في شبابه»، وكذلك في عجز دويستويفسكي عن ملء الفراغات التي تعيشها الذات الروائية مهما أولغ «أولجين» بقتل «ناستازيا» ومهما فعلت الأخيرة لإبهار الرجال واحتقارهم في الوقت نفسه. ومثلها أيضا حالة «آخاب» في «موبي ديك» ذلك المزيج الساحر من الاستبداد والذكاء والتفكُّر. لكن الألمان مُبهري الثقافة الأوروبية، بشكل متواصل، يختصرون الحكاية في دمج جزئي بين انخطافية الشعر وسردية الرواية فنرى الأمر كله في «ذئب البراري» لهيرمان هيسه، وكذلك في كرياته الزجاجية الملغزة والصعبة حد التعطيل!

طبعا، تساهم الجغرافيا الواسعة ودرجات الحرارة المتدنية وقلة الكثافة السكانية على نسبة التواصل بين الناس، فيأتي الأدب الروسي في المقدمة كاشفا للضجر الروائي في حده الأقصى. على عكس أدب أميركا اللاتينية الذي عادة ما يأتي بالتفاصيل المانعة للضجر، يُستثنى أرنستو ساباتو من هذا الأمر، فهو روائي يحمل شهادة دكتوراه في الفيزياء! وأثر تعليمه هذا على أدواته ومضامينه، فانفرد عن أقرانه اللاتينيين بعالمه الروائي ولغته التي صوّبت باتجاه الشهوة الألمانية المزمنة لتنصيب اليونان على مقعد التفكير الفلسفي الأوروبي كما كان يريد هيدغر! ولعل اليوناني نيكوس كازانتزاكس كان طالب المُلْك في هذا الشأن، فأخذ مفهوم المخلّص عنده كل مأخذ، فلا نرى في أدبه الروائي الجم إلا سعيا محموما لقراءة الخلاص في خارج هذا العالم، وربما لهذا، قال في مذكراته التي لا تقل شأنا عن أدبه الرفيع: علَّمتني التجارب أن أرى الجمجمة قبل الوجه!

لا نكتشف الأزمة الفلسفية لمعنى الكائن، في أغلب الروايات العربية، وباستثناء الليبي إبراهيم الكوني، فهو الوحيد الذي أمهل السرد وأعفاه من الدفاع عن تقنياته المجردة. هو روائي بارع ومختلف بكل معنى الكلمة، وأفاد من القوة اللامنظورة للطبيعة، كالصحراء، فنكتشف في أدبه كم نحن متباعدون ومعزولون وغرباء، دون حتى أن يقول جملة واحدة عن هذا الأمر: النظر إلى الصحراء وحده، سلوكٌ فلسفي مرمّز، يعطي للرمال القوة اللانهائية على إعادة تشكيل الواقع أو محاولة فهم الذات بصفتها جزءا متناهي الصغر في ماكينة ضخمة اسمها الكون - لا الواقع! لقد أبدل إبراهيم الكوني ثلج الأدب الروسي الواسع برمال الصحراء اللاهبة، واكتشف صوت الذات العربية من خلال ذلك الإرث الديني، غير المباشر طبعا، الذي تتولاه الصحراء التي تخلق ذلك الامتداد التعبيري لعزلة الكائن، وكذلك الكشف عن ذلك الفضاء المقلوب الأصفر، حيث يصبح النظر إلى أصفر الرمال كالنظر إلى أزرق الفضاء، الأول يواجه الاجتماعية المزمنة للكائن بذلك التوسع الرحب للوحدة، والثاني - الأزرق - يتناوب والأصفر موازنة الكائن الذي يكتشف للتو أنه يمشي على قدمين وهميتين.

الفارق بين الكون والواقع هو الذي يرمي الرواية العربية على ضفة التفاصيل والتشفير الانتهازي الذي يلمح إلى الماورائيات تلميحا، كما لو أن الحقيقة الفلسفية وصلت إلى آخرها مع الواقع، بينما الحقيقة الفلسفية أهم وأكثر عمقا، لتكون إفادة الأدب الروائي الغربي من تراثه الديني جليا عبر البحث عن معنى الكائن وخلاصه، ولا نرى هذه الإفادة في الروائيين العرب الذين لم يحسنوا التعامل مع إرثهم الديني واتخذوا منه موقفا آيديولوجيا سلبيا وخسروا كل التقنيات التي يمكن أن يمنحها القلق الفلسفي والماورائي لبناء سرد غير مؤسس حصريا على تفاصيل حوار ووضوح شخصيات مستمدة بالمطلق من شكلها في الواقع.

من هنا، حرمت الرواية العربية قارئها حق الضجر والكشف عن الجزء اللاتواصلي في بنيته الكامنة، وقدمته على أنه كائن حركي نشطٌ قابل للتعديل الجوهري، وتجاهلت الإرث الديني الذي هو مكون رئيس فيها، وكان يكفي احترام هذا الإرث، وحده، لتنشيط تقنيات السرد التي تزيد من فرصة الوصف على الحوار، والتداعي على الحبكة، والحد من النهايات المختومة الجاهزة كتطبيقات مدرسية لا طائل منها. من هنا الإشارة إلى أدب إبراهيم الكوني، الذي بحق أنتج الرواية العربية الوحيدة التي تتمكن من القول للمتنبي أو أبي تمام أو عمر بن أبي ربيعة أو أبي نواس أو عمر أبي ريشة أو سعيد عقل أو أحمد شوقي: نحن هنا!
لا يزال الشعر العربي هو الإنتاج الأعظم في الثقافة العربية، وله أثر في الشعر العالمي. لكن الرواية المشخصاتية قائدة اللغو والحوار الذي لا نهاية له، لا زالت تحبو ولم تشب عن الطوق بعد.. والسبب في ذلك هي الفلسفة: الوكيل الحصري لإنتاج أدب عظيم أو إنتاج أدب رديء! إن إنتاج أي شخصية روائية عبر تجاهل إرثها الديني الماورائي يحولها إلى مضخة للثرثرة فقط، وتكون مثل دمى مسرح العرائس مملوءة بالقش والقطن وتتحرك بالخيوط والأصابع!

font change