
ربما أغرى وجود بعض نقاط التشابه ما بين الحالتين الجزائرية والمصرية إلى بعض المراقبين للزعم بإمكانية تكرار النموذج الجزائري لعام 1992 في مصر اليوم وعقب الإطاحة بالرئيس مرسي في الثالث من يوليو الحالي، ففي الحالتين، تم تقويض تجربة الحكم الإسلامي وإقصاء الإسلاميين عن المشهد السياسي بعد تعاظم فرصهم في التمكين وفقا لآليات ديمقراطية، وإن بصيغ مختلفة ومستويات متفاوتة. علاوة على وجود ظهير تنظيمي للإسلاميين المعتدلين من الجماعات التكفيرية الجهادية لدى البلدين لا يمانع في إسقاط أنظمة سياسية ذات مرجعية إسلامية لا تراها تطبق الشريعة، ولا تتورع عن اتخاذ العنف سبيلا لبلوغ ما تعتبره مشروعا للدولة الإسلامية.
صعوبة السيناريو الجزائري
غير أن جوانب اختلاف عديدة تباعد بين النموذجين المصري والجزائري وتحول دون تكرار السيناريو الجزائري في مصر حاليا. فإلى جانب الاختلاف البين في الشخصية المصرية عن نظيرتها الجزائرية، حيث لا تجد الأخيرة أية غضاضة في اللجوء إلى خيار العنف بعض الشيء في إدارة الصراعات المجتمعية والسياسية، بينما تجنح الأولى للتصالح والتعايش وتجنب الانزلاق إلى العنف، برأسها تطل اعتبارات أخرى عديدة أهمها:
أولا: إن الجزائر شهدت ما يمكن أن نعتبره انقلابا عسكريا متكامل الأركان، وذلك عندما أوقف الجيش الجزائري مسار العملية الانتخابية في يناير (كانون الثاني) 1992، وألغى نتائج الجولة الأولى للانتخابات التشريعية التي حصلت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ على 188 مقعدا من أصل 228 كانت مطروحة للتنافس عليها في المجلس الشعبي الوطني. وعلى أثر ذلك، شهدت البلاد عشر سنوات من العنف الذي أودى بحياة الآلاف وشاركت في هذا العنف الجبهة الإسلامية للإنقاذ والعديد من الجماعات المنبثقة عنها وعلى رأسها الجماعة الإسلامية المسلحة، واستقال أو أقيل الشاذلي بن جديد رئيس الدولة واستدعى الجيش المناضل الوطني محمد بوضياف من منفاه الاختياري في المغرب ليحكم على رأس ما عرف باسم المجلس الأعلى للدولة. لكن بوضياف اغتيل بعد خمسة أشهر فقط من وجوده في السلطة، فخلفه علي كافي كرئيس للمجلس الأعلى للدولة، ثم وزير الدفاع اليامين زروال، وأخيرا عبد العزيز بوتفليقة المنتخب لثلاث ولايات متتالية منذ عام 1999، والذي سعى إلى تبني نهج الوئام الوطني بالعفو عن كل من يلقي السلاح.
أما في مصر، فيمكن الادعاء بأن ما جرى يوم الثالث من يوليو من عزل الدكتور مرسي من منصبه كرئيس للجمهورية، وتسمية رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسا مؤقتا للجمهورية، وإعلان خريطة طريق واضحة المعالم تتضمن تعديل الدستور، وإجراء انتخابات برلمانية وأخرى رئاسية في مدى زمني لا يتجاوز ثمانية أشهر، لم يكن انقلابا عسكريا مكتمل الأركان.
فعلى الرغم من أن الجيش كان طرفا أصيلا فيما شهدته مصر يوم الثالث من يوليو، فإن تدخله قد جاء بناء على مطلب شعبي حاشد، كما استند إلى قاعدة شعبية عريضة، ولم يهيمن الجيش على السلطة بعد الإطاحة بالرئيس مرسي وإنما أسندها إلى شخصيات مدنية وفقا لخارطة طريق تضمن دوران عجلة الديمقراطية. وهو بهذا يختلف عن الانقلاب العسكري بمفهومه الكلاسيكي، الذي يرتكز على مجرد ظهور الجيش على الساحة السياسية.
ومن الأهمية بمكان ألا نغفل دور الإرادة الشعبية وإلحاح الجماهير في استدعاء الجيش، ذلك أن حركة الجيش المباركة في سنة 1952 كانت في موقف صعب في البداية حينما لم تحظ بمشاركة شعبية، بل إن عبد الناصر نفسه أعرب في كتيب فلسفة الثورة، الذي صاغه هيكل، عن خيبة أمله في غياب الجماهير المؤيدة في الشارع عند بداية انطلاق حركة الضباط الأحرار ونجاحها.
ورغم أنه يحلو لكثيرين اعتبار ما جرى في مصر مؤخرا انقلابا عسكريا كون الجيش قد أطاح برئيس مدني منتخب منحازا بذلك لفصيل سياسي هو المناهض للرئيس المنتخب، متجاهلا الفصيل الآخر المؤيد، فإن التوصيف العلمي الدقيق لهذا الحدث ربما يستغرق بعض الوقت ويستوجب إعادة النظر في مفهوم الانقلاب والتبحر في نظريات العلاقات المدنية العسكرية وما طالها من تطورات، فضلا عن دور الجماهير وما بات يسمى بسياسات الشارع.
وإلى حين يتسنى ذلك، يمكن القول إن الأمر قد يصنف على أنه شكل من أشكال التدخل العسكري في صراع سياسي مدني، ربما لم يبلغ حد الانقلاب العسكري متكامل الأركان بمعناه الكلاسيكي، كون الجيش تحرك استجابة لإرادة شعبية وأطاح برئيس منتخب كما لم يتول السلطة بعدها، وإنما أسندها إلى القوى المدنية ضمن خارطة طريق ذات جدول زمني واضح.
[caption id="attachment_55247221" align="alignleft" width="258"]

ثانيا: لم تكن جبهة الإنقاذ الجزائرية قد وصلت بالفعل إلى سدة السلطة ولم تمارس الحكم، إذ لم تمكن أصلا من تشكيل الحكومة التي كان من المفترض لنتائج الانتخابات أن تخولها تشكيلها إذا ما مضت الانتخابات إلى نهايتها. أما في الحالة المصرية، فإن جماعة الإخوان قد وصلت بالفعل إلى سدة السلطة حيث انتزعت منصب الرئاسة ومن قبله غالبية البرلمان بالتنسيق مع السلفيين، وظل الرئيس المحسوب على الجماعة رئيسا للبلاد طيلة عام كامل، لم يبل فيه بلاء حسنا، لأسباب متنوعة يتعلق بعضها بضعف خبرته وسوء إدارته فيما يتصل بعضها الآخر بالدولة العميقة والثورة المضادة.
وأيا ما كانت الأسباب، فقد أفضى إخفاق الإخوان إلى تعاظم الغضب الشعبي على الرئيس وجماعته على نحو ما تجلى في ظهور حركة تمرد التي جمعت توقيعات لـ22 مليون مصري على استمارات تطالب بسحب الثقة من الرئيس مرسي والمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، حتى تطور الأمر لتشهد البلاد أضخم تظاهرات في تاريخها يوم 30 يونيو الماضي مطالبة بضرورة رحيل الرئيس مرسي، غير أن رفضه الامتثال لمطالب الجماهير فتح الباب أمام تدخل الجيش الذي عزله ووضع خارطة طريق لإدارة البلاد مخافة نشوب حرب أهلية.
ثالثا: بينما تم عزل وإقصاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، لا تبدو هناك نية ولا حتى إمكانية لانتهاج نهج مماثل مع جماعة الإخوان وسائر التيارات الإسلامية في مصر. فلقد دعا بيان القوات المسلحة الدكتور مرسي وجماعته والمتحالفين معهما ليكونوا شركاء في وضع خارطة الطريق للمستقبل والمشاركة في إدارة البلاد، كما أكدت الرئاسة المصرية أن وزارات عرضت على جماعة الإخوان وحزب النور لكنهما رفضا قبولها، وعرض الجيش على معتصمي رابعة العدوية وميدان النهضة الأمان والمشاركة في صنع مستقبل مصر مقابل فض الاعتصام لكنهم أبوا.
[blockquote] بروز تيار شبابي ليبرالي إصلاحي داخل جماعة الإخوان عقب أحدث 3 يوليو، يدعو إلى المراجعة والنقد الذاتي والتحرر من ربقة الفكر التقليدي الجامد لقيادات الجماعة[/blockquote]
رابعا: بينما كانت في صفوف المعارضة، نجحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في إلحاق هزيمتين سياسيتين متتابعتين بحزب التحرير الوطني الحاكم عامي 1990 و1991 رغم قيام الأخير بإدخال تعديلات على قانون الانتخابات تحول دون ذلك الأمر، واستغلت الجبهة وقتذاك فشل الشاذلي بن جديد في خطته لإصلاح الاقتصاد الجزائري وتنامي الغضب الشعبي تجاهه وتجاه الحزب الحاكم.
وهذا على خلاف ما جرى في مصر بعد عام من حكم الإخوان الذين كانوا في موقع السلطة لا المعارضة، وهو ما أفقدهم قسطا هائلا من شعبيتهم، كما أنهم سعوا إلى وضع قانون لتنظيم العملية الانتخابية يعظم من فرصهم وحدهم للفوز فيها، وذلك بالتزامن مع فشلهم في حل الأزمة الاقتصادية في البلاد وما واكبه من نقص مروع في الخدمات والسلع الأساسية، مما فاقم الغضب الشعبي ضد سياساتهم، حتى أنهم رفضوا إجراء انتخابات رئاسية مبكرة أو استفتاء على بقاء الرئيس من عدمه. ومن ثم فقد اقتربوا كثيرا، بحكم الموقع والخيارات ورد الفعل الشعبي، من الحزب الحاكم في الجزائر منهم إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
خامسا: تباين مواقف المؤسسة العسكرية في كل من مصر والجزائر من الصعود السياسي للإسلاميين، ففي حين رفضت المؤسسة العسكرية الجزائرية تولي الإسلاميين دفة السلطة والحكم، حيث أجبر الجيش الجزائري الشاذلي بن جديد على الاستقالة وألغى نتائج الانتخابات وأسس مجلسا رئاسيا لحكم البلاد برئاسة محمد بوضياف، تقبل الجيش المصري وصول الإسلاميين للسلطة واستحواذهم على البرلمان والجمعية التأسيسية ومجلس الشورى والرئاسة في عهد المجلس العسكري، الذي أشرف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية ووصل بها إلى مستوى غير مسبوق من الشفافية والنزاهة. كما أنه لم يبد تبرما من قيام الرئيس محمد مرسي بعزل كبار قادة هذا المجلس من مناصبهم بعد أحداث رفح العام الماضي، إضافة إلى أن المؤسسة العسكرية لم تطرح نفسها بديلا للمدنيين وللنظام الديمقراطي بعد انتفاضة 30 يونيو، بل أنشأت سلطة انتقالية تقوم بتعديل الدستور وقانون الانتخابات تمهيدا لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة.
وربما يرتبط الأمر بمدى رغبة الجيوش في التدخل السياسي أو الاستحواذ على السلطة والحكم من عدمه. فحتى اليوم، لا يزال الجيش الجزائري يلعب دورا محوريا في العملية السياسية، بينما يحرص الجيش المصري على النأي بنفسه قدر المستطاع عن هذا المستنقع.
استحالة النموذج الفنزويلي
يراهن إسلاميون كثر على إمكانية تكرار تجربة الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز في فنزويلا مع الرئيس مرسي في مصر، مستندين على بعض نقاط التلاقي بين الحالتين والتي من أهمها، كما أن كلا الرئيسين مرسي وشافيز جاءا بانتخابات حرة نزيهة، الهبة الشعبية التي اندلعت ضد شافيز في عام 2002 جاءت نتاجا لعاملين أساسيين، الأول هو صدامه مع أكبر المؤسسات نفوذا في فنزويلا وهي «الشركة الفنزويلية للبترول»، والثاني هو قيام أحزاب المعارضة بإثارة العديد من قطاعات المجتمع الفنزويلي ضد حكمه لفشله في معالجة الأزمة الاقتصادية المستديمة. وهو ما حدث تقريبا مع مرسي الذي اصطدم خلال عام من حكمه بمؤسسات الدولة النافذة والمؤثرة بلا استثناء كالقضاء والإعلام والداخلية والجيش، وتواكب ذلك مع فشله في ملفات الأمن والاقتصاد وإدارة الدولة، ما أدى إلى اندلاع حركة تطالب بخلعه من السلطة مثلما حدث مع شافيز عام 2002.
ولعل الموقف الدولي حيال هاتين الحادثتين كان متشابها في نقاط عديدة. فرغم أن واشنطن رعت وباركت الانقلاب على شافيز بينما أمسكت بالعصا من المنتصف في حالة مرسي، فقد ظهر ارتباك واضح في الموقف الدولي حيال توصيف ما حدث في مصر وهل هو ثورة أم انقلاب، ورغم أن دولا كتركيا ومنظمات إقليمية كالاتحاد الأفريقي ارتأت فيما جرى بمصر انقلابا عسكريا، كما حدث مع شافيز عندما رفضت دول أميركا اللاتينية ومنظمة الدول الأميركية الاعتراف بشرعية الانقلاب ضده، فإننا هنا أيضا لسنا إزاء اعتراف واضح من القوى الدولية الفاعلة بشرعية ما حدث في مصر، وإن بدأت واشنطن والاتحاد الأوروبي يحاولان إقناع الإخوان بقبول الأمر الواقع نظير ترضيات مقبولة.
ورغم ذلك، تلوح في الأفق جوانب اختلاف عديدة ومظاهر تباين متنوعة بين التجربتين على نحو يجعل تكرار سيناريو شافيز مع مرسي أمرا مستبعدا. فمن جانبه، ارتكن هوغو شافيز في فنزويلا عام 2002 على شعبية هائلة كان يحظى بها، خصوصا بين صفوف الفقراء وأبناء الطبقتين الدنيا والوسطى جراء سياساته الوطنية وإنجازاته اللافتة من خلال ثورته البوليفارية التي رفعت من مستوى معيشة الفقراء، وقلصت الفجوة الهائلة بينهم وبين الأغنياء. لذلك، لم يكن مستغربا أن تقود الجماهير الغفيرة المؤيدة له، بالتعاون مع بعض جنرالات الجيش، ما يشبه الانقلاب المضاد على الرئيس بيدرو كارمونا الذي حل محل شافيز عقب الانقلاب عليه، وإعادة شافيز إلى سدة السلطة مجددا.
وخلافا لذلك، انحصرت شعبية الرئيس مرسي مؤخرا في إطار التيارات الإسلامية المؤيدة له كجماعة الإخوان وحزبي البناء والتنمية والأصالة فضلا عن قطاع محدود من السلفيين. صحيح أن الثورة المضادة والدولة العميقة والإعلام الموالي لهما قد لعبوا جميعا دورا ملموسا في مخطط إفشال مرسي وإجهاض مشروعه، إلا أن تواضع إنجازاته واستسلامه لمساعي جماعة الإخوان من أجل الاستحواذ والانفراد بالسلطة خلال العام المنقضي قد أسفر عن فقدانه لشطر هائل من الدعم والتأييد الشعبيين، خصوصا من خارج دائرة التيار الإسلامي. ورويدا رويدا، أتاح تراجع شعبية الرئيس مرسي واتساع دائرة معارضيه بشكل استلفت انتباه العرب والعجم، غطاء سياسيا وأخلاقيا ملائما للجيش من أجل التدخل وعزل أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر السياسي استجابة لما اعتبره العسكريون «الإرادة الشعبية».
[blockquote]يراهن إسلاميون كثر على إمكانية تكرار تجربة الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز في فنزويلا مع الرئيس مرسي في مصر، مستندين على بعض نقاط التلاقي بين الحالتين[/blockquote]
ففي عام 2002، حينما تعرض الرئيس الفنزويلي المنتخب ديمقراطيا هوغو شافيز لمحاولة انقلاب من قبل معارضيه وقيادات عسكرية ورجال أعمال موالين لواشنطن، ونجحت المحاولة وأطيح بشافيز وأودع في السجن وتم تعيين رئيس آخر بدلا منه هو بيدرو كارمونا. غير أن جموعا شعبية مؤيدة لشافيز، إضافة إلى قيادات عسكرية رافضة للانقلاب قامت بما يشبه الانقلاب المضاد على الرئيس البديل الموالي لواشنطن وأعادوا شافيز مرة أخرى إلى سدة السلطة.
وبعدما رفضت دول أميركا اللاتينية ومنظمة الدول الأميركية الاعتراف بشرعية الانقلاب ضد شافيز، سارعت القيادات العسكرية الرافضة للانقلاب على شافيز وأجبرت بيدرو كارمونا على إلغاء قراره بحل الجمعية الوطنية وتجميد العمل بأحكام الدستور وطالبته بالاستقالة من منصبه، وبادرت تلك القيادات المدعومة بطوفان شعبي مؤيد لشافيز بالاستيلاء على مقر الرئاسة وتوقيف بيدرو كارمونا ومعاونيه، والسيطرة على عدة محطات تلفزيونية خاصة، كانت تساند حكومة الانقلاب.
[caption id="attachment_55247222" align="alignleft" width="300"]

وقامت تلك القيادات العسكرية بتنصيب نائب الرئيس ديوسدادو كابيلو كرئيس مؤقت لفنزويلا، وأجريت العديد من المفاوضات بين الرئيس هوغو شافيز ورئيس الجمعية الوطنية وقادة القوات المسلحة الفنزويلية تم بمقتضاها إبرام صفقة بين الطرفين تنص على عودة شافيز لممارسة مهام الرئاسة مقابل إصداره عدة قرارات منها: تنحية مجلس إدارة الشركة الوطنية للبترول والذي كان سببا في حدوث إضراب عام للعمال في كراكاس، والعفو عن القيادات العسكرية التي قامت بالانقلاب عليه، وإجراء تحقيق شامل حول أحداث العنف التي ارتكبتها قوات الأمن والحرس الرئاسي ضد المتظاهرين. وبموجب هذا الاتفاق تسلم شافيز مقاليد الحكم مجددا من نائبه كابيللو في يوم 13 أبريل (نيسان) 2002، وعقب عودته للحكم وجه نداء إلى الشعب دعاه فيه إلى الوحدة، وأعلن عن بدء حوار وطني بين الكنيسة والمسؤولين والنقابات السياسية ومديري وسائل الإعلام الخاصة، وأكد في الوقت نفسه أنه لن يكون هناك أي انتقام أو مطاردة لخصومه الذين سماهم «الأشرار».
أما في حالة الرئيس مرسي، فالوضع جد مختلف لأن الجيش المصري يبدو، ظاهريا على الأقل، كما لو كان على قلب رجل واحد، حتى فيما يتعلق بالإطاحة به، وليس به انقسامات يمكن لمرسي الاستفادة منها، في حالة تتشابه كثيرا مع تجربة مبارك في فبراير (شباط) 2011، مع فوارق مهمة تتمثل في كون الرئيس مرسي منتخبا بإرادة شعبية، فضلا عن وجود تأييد شعبي للرئيس مرسي على الأرض لا يمكن تغافله.
ولقد استفاد شافيز كثيرا من سوء أداء الرئيس المدني المؤقت الذي حل محله والمعين من قبل الجيش بيدرو كارمونا، نتيجة اتخاذه عددا من القرارات مثل حل الجمعية الوطنية المنتخبة ديمقراطيا وتعيين مجلس استشاري من 35 عضوا ضم إليه كبار المعارضين لشافيز وتجميد العمل بأحكام ومواد الدستور وإعلان حالة الطوارئ في البلاد وتنحية القيادات العسكرية التي ساعدته في القيام بالانقلاب.
أما في مصر، فالأمور تمضي على نحو مغاير، فلم تتبلور حتى الآن على الأقل موجات من الاستياء الشعبي حيال الحكومة الجديدة أو خريطة الطريق التي فرضها الجيش ويتولى تنفيذها الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور، الذي حرص على استقدام أبرز وأهم الكفاءات في مختلف المجالات كوزراء ومستشارين، على نحو لاقى ترحيبا شعبيا هائلا، ولا أظن أن الرئيس المؤقت قد يفكر في فتح أبواب الشيطان عليه عبر الإقدام على عزل قيادات الجيش كما سبق وفعل نظيره الفنزويلي.
الإسلام المتطرف كعبء
تشي تجربة الإسلاميين في الحكم خلال العامين الماضيين ببعض دول الربيع العربي، بأن الإسلام الراديكالي الجهادي التكفيري المتشدد كان عبئا على تجربة الإسلام المعتدل ممثلا في الإخوان المسلمين في كل من مصر وتونس، حتى أجهضها وأصابها - أو كاد - بالفشل. وذلك على عكس الحال في تركيا، التي لم تشهد موجة مشابهة من الإسلام المتطرف فكان النجاح حليف تجربتها.
ففي مصر، تعتقد تيارات السلفية الجهادية أن صعود الإخوان للسلطة لم يشكل انتصارا للمشروع الإسلامي لأنه لم يفض إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، لذا، شنّ عدد من قيادات تلك التيارات، هجوما حادا على الدكتور محمد مرسي حينما كان رئيسا، وطالبوا بإسقاط حكمه بل واغتياله على غرار الرئيس الراحل أنور السادات بذريعة أنه لا يطبق الشريعة كما يحكم بغير ما أنزل الله ويبقى على مسار التصالح مع اليهود والزج بالإسلاميين في السجون، ولا يعبأ بانتشار الخمّارات والملاهي الليلية. فضلا عن أنه يبقى على وزير الداخلية، الذي يصر على ملاحقة عناصر السلفية الجهادية، كما لا يطبق قرار المحكمة تجاه الضباط الملتحين.
وعلى صفحته بمواقع التواصل الاجتماعي، اعتبر عادل عوض، أحد قيادات السلفية الجهادية في السويس، ألا بيعة لمرسي عندهم إذا لم يحكم بشرع الله، وأنهم مختلفون تماما مع جميع التيارات الإسلامية ولا يؤمنون بالسياسة بأي شكل من الأشكال فالحكم لله وحده، كما ارتأى أن انتخابات مجلس الشعب والشورى والرئاسة كلها مبنية على الدستور الذي يخالف الشريعة الإسلامية وحدودها. ويؤمنون بأن الديمقراطية التي يتغنى بها المهتمون بالعمل السياسي معناها في الأصل (حكم الشعب للشعب) والسيادة تكون للشعب، وهذا يخالف شرع الله صاحب السيادة المطلقة. ويؤكد عوض أنهم لا يبايعون إلا الله ولا يؤمنون إلا بأحكامه وشريعته، ومرسي أو غيره ليس لهم بيعة عندهم ويكفي أنه حلف اليمين أمام جهة تخالف شرع الله سواء كانت المحكمة الدستورية أو مجلس الشورى المنحل. ويرى مجلس أمناء السلفية أن الخروج على الحاكم لا بد أن يكون ضد الحاكم الذي لا يطبق شرع الله وليس الحاكم الظالم، حيث إنه لا يجوز الخروج على الحاكم الظالم ظلما يحتمل أما الحاكم الذي لا يطبق شرع الله ويجحف في تطبيقه فلا بد من الخروج عليه خروجا مسلحا.
[blockquote]الإسلام الراديكالي الجهادي التكفيري المتشدد كان عبئا على تجربة الإسلام المعتدل ممثلا في الإخوان المسلمين في كل من مصر وتونس[/blockquote]
من جهة أخرى، أفضى تسامح نظام الرئيس المعزول محمد مرسي مع التنظيمات السلفية الجهادية من خلال عدم اتخاذ إجراءات قانونية وتصفوية حاسمة ضدها إلى تقوية شوكتها وتشجيع كثيرين على الانضمام إليها. خصوصا في ظل حالة السيولة الأمنية وانتشار السلاح وضعف قبضة الدولة على مواضع شتى. لكن هذا النهج تغير بعد عزل الرئيس مرسي، حيث تبدو الإدارة الانتقالية الجديدة في مصر والقوات المسلحة عازمتين على تصفية معاقل وبؤر الجماعات الجهادية الراديكالية التي تهاجم الجيش والشرطة في سيناء.
وتأسيسا على ما ذكر آنفا، وفي ضوء بروز تيار شبابي ليبرالي إصلاحي داخل جماعة الإخوان عقب أحدث الثالث من يوليو، يدعو إلى المراجعة والنقد الذاتي والتحرر من ربقة الفكر التقليدي الجامد لقيادات الجماعة الطاعنين في السن والموغلين في التشدد، في إطار ما وصفه المفكر الأميركي ذو الأصول الإيرانية آصف بيات قبل عقدين ونيف من الزمن بـ«ما بعد الإسلام السياسي»، يجوز الادعاء بأن أطياف الإسلام المعتدل في مصر، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، قد تلجأ إلى تحكيم العقل وتعلم الدرس وإعمال النهج البراغماتي، بعد أن تستوعب ما جرى وتستفيق من الصدمة. أي أننا سنكون بصدد «بريسترويكا» إخوانية يقودها «أردوغان» مصري يخرج من رحم جماعة الإخوان بتيار إسلامي ليبرالي حداثي متصالح مع العلمانية والآخر.
فمن غير المستبعد على تلك الجماعة، إذا ما لمست تغيرا في موازين القوى على غير مصلحتها محليا وإقليميا ودوليا، أن تسعى إلى الحفاظ على مغانمها من ثورة يناير 2011 كالعمل السياسي تحت مظلة الشرعية بدعم من منابر إعلامية وأحزاب سياسية ومشاريع اقتصادية موازية، وتتخلى عن الخيار الانتحاري «شمشون» المتمثل في سيناريو الصدام مع الدولة المصرية، فتراجع حساباتها وتتبرأ من تيارات الإسلام الراديكالي الجهادي حتى تتخلص من العبء الثقيل الذي تشكله وتنفض عن كاهلها التأثير السلبي الذي خلفته على تيارات ما يعرف بالإسلام المعتدل، شريطة أن يساعدها المجتمع على ذلك بحيث لا تشيطنها وسائل الإعلام أو تقصيها الإدارة الانتقالية.
وظني أن الغرب سيرحب بهكذا توجه وربما يدعمه، لا سيما وأن وجهات نظر غربية عديدة لا تزال ترى أن المنطقة، التي تعاني وهنًا مزمنا للنخب المدنية، ليبرالية كانت أو يسارية أو قومية، قد دخلت عصرها الإسلامي على أجنحة الثورات العربية، وهو ما وضع الغرب بين خيارين في التعاطي مع ظاهرة الإسلام السياسي، فإما التورط في حرب استنزاف فكري وعسكري مع الإسلام الراديكالي المتطرف، أو البحث عن صيغ للتعاون والتفاهم مع إسلام آخر معتدل.